حكيت في الحلقة الاولي عن مشاركتي في وفد مصر الي احتفالت استقلال تنجانيقا 1961 .. وهنا الحلقة الثانية عن ظروف علاقتي بشعب وثورة زنجبار وحضور احتفالات استقلالها 1963 وليسجل المؤرخون
سأحكى لكم -2-
بين شعب وثورة زنجبار
حلمى شعراوى
ذكرتنى زيارة سالم أحمد سالم (السكرتير العام الاسبق لمنظمة الوحدة الافريقية..) للقاهرة، أبريل 2014 بذاك "الشاب"الزنجباري نفسه وهو فى منتصف العشرينات من عمره، قادماً للقاهرة اخر ابريل 1964 سفيراً لحكومة تنزانيا بعد نجاح ثورة زنجبار فى يناير 1964. استقبلناه فى الرابطة الأفريقية (بما بدا رغم أنفى) لغضبى من اشتراكه مباشرة او غير ذلك فى قيادة انتفاضة اتخذت المسار الدموى بالإطار العنصرى الذى وقع، وأن كان هو والمفكر الراحل عبد الرحمن بابو قد دافعا عن نفسيهما بعد ذلك بما يبرىء ساحتهما من هذه الجرائم...
كان حزنى بسبب علاقتى الخاصة والحميمة التى قامت مع شعب زنجبار منذ أوائل 1959 بشكل خاص، حيث عينت بعد تخرجى مباشرة من آداب القاهرة مشرفاً اجتماعيا على "بيت شرق أفريقيا"الذى ضم أكثر من أربعين صبية وصبياً ورعاتهم من الزنجباريين، ومن بعض أنحاء شرقى أفريقيا. وجاء ذلك بناء على موافقة وتوجيه عبد الناصر شخصياً بعد مقابلته الشيخ "على محسن البروانى"زعيم الحزب الوطنى بزنجبار منتصف 1958....
حكى لى "على محسن البروانى"في بيت شرق افريقيا كيف رتب له محمد فايق، وعبده سلام (وزير الصحة بعد ذلك) مقابلة عبد الناصر، ليطلب منه فتح مكتب للحزب بالقاهرة، وبعض المساعدات التعليمية العاجلة لأبناء زنجبار فى مصر وخاصة من أصول عربية لخوفه على اللغة العربية وثقافتها التاريخية بينهم بل وطلب وعداً بمساعدات واسعة لإقامة الدولة بعد الاستقلال.
حكى لى بعد اتمام المقابلة مباشرة-ولااذكر التاريخ الان بالضبط- أنه عندما قابل عبد الناصر وحدثه عن أحوال شعب زنجبار مع الاستعمار الانجليزى، وحتى عن ظلم العائلات العربية الإقطاعية للأفارقة، وضعف قيمة السلطان العربى "جمشيد بن عبد الله "فى الجزيرة، ناهيك عن أوضاع الأفارقة الأصليين. تأثر عبد الناصر كثيرا إلى حد أن رأى على محسن نفسه الدمعة فى عين عبد الناصر..! (حين طلب منى على محسن ترجمة ما يقوله بالإنجليزية إلى العربية ليكتب مذكرة لأهله او للاذاعة بذلك.... تحمست فى الترجمة كمتدرب حديث بمدرسة الألسن وقتها، وكتبت "أغرورقت عيناه بالدموع....!"فابتسم على محسن وكأنه يقول: مش قوى كدة! لكنه بالفعل كتب فى مذكراته بعد ذلك نفس النص تقريبا بالإنجليزية كما يلى:
"He was so engrossed with what i was saying that tears came to his eyes"….
(Ali Muhsin Al Barwani: conflicts and Harmony in Zanzibar " p.105- 1997).
أدركت بعد ذلك كيف تؤثر البلاغة العربية، فى صياغة المواقف..!!).
بدأت الإشراف الفعلى على بيت شرق أفريقيا من كافة النواحى، وفيه أخت على محسن وأبناؤه،وابناء عدد كبير من العائلات العربية والمخلطة , بل وقليلين من كينيا وتنجانيقا، بما بدا لى مبكراً أن الأزمة قائمة فى مواجهة العنصرية بالعنصرية، وأن المسألة الوطنية لم تحل المشكلة فى زنجبار حتى قامت الثورة الدموية التى أكدت المقولة! مثلت فترة اقامتى مع هذه البعثة مصدر ثقافة هائلة بالواقع الأفريقى العربى... ومن وقائع حية خلافا لما كنا نقرأه من مصادر بريطانية معروفة
رشحتنى مهمتى فى بيت شرق أفريقيا، ثم تعييني بالشئون الأفريقية بالرئاسة آخر 1960لأسافر من قبل في وفد مصر الي احتفالات استقلال تنجانيقا ديسمبر 1961 وها هى ترشحنى مرة اخري عضوا في وفد مصر إلى احتفالات استقلال زنجبار فى ديسمبر 1963
...
كان مكتب الحزب الوطنى لزنجبار قائماً فى الرابطة الأفريقية وعلى رأسه سليمان مالك (مثقف غير راض على وضعه فى الحزب ولا الوضع فى المجتمع الزنجبارى)، وهناك فى البرنامج السواحيلى أحمد رشاد (مخلط أفريقى عربى ساخط على القيادة العربية للحزب)، ومبارك خلفان رئيس اتحاد طلبة زنجبار الذى تدفعه الثقافة الجديدة لرفض تمايز العرب فى زنجبار....).
كان لزنجبار "لوبى"فى مصر من د.عبده سلام (صاحب نفوذ فى الاتحاد الاشتراكى) ورجل الأعمال فتحي صبرى! (تاجر كبير مع شرق أفريقيا) ودكتورة نور.. مخلطة مصرية زنجبارية، أستاذة بجامعة الإسكندرية، والعبد الفقير، وبعض رجال التعليم...الي جانب حماس محمد فايق طبعا.) كما كان بعض المحيطين بالشيخ على محسن يعرفون رجال الأزهر بل وبعض وجوه الاخوان واليسار
كان هذا اللوبى فى النهاية يصب فى خانة عروبة زنجبار وأهميتها فى شرق أفريقيا.... وكان مبلغ وعيى شخصياً هو أهميتها فى العلاقات العربية الإفريقية عموماً إذا اهتممنا بدعم أفارقة زنجبار مثل عربهم، لأن صورة زنجبار بسلطان عمانى الأصل لم تلق ترحيباً لدى كل عناصر اللوبى المذكور...كانت العائلات العربية بادية التسلط علي المجالس وزراعة وتجارة القرنفل علي السواء, وشعرت كثيرا ان علي محسن نفسه يريد التخلص من هذا العبء,وانه تبادل هذا الشعور مع عبد الناصر في المقابلة, وانه يريد ذلك بالتوافق لا بالاتجاه يسارا !
فى مقابل ذلك كان ثمة لوبى حزبى محيط بعلى محسن فى الجزيرة (المعروفة باسم نجوجي) فثمة عربى متطرف (سيف...) ووطنى متوازن (أحمد اللمكى) وثمة يسار ماوى الاتجاه على رأسه الأمين العام عبد الرحمن بابو ومساعده سالم أحمد سالم وآخرون....
ووسط هذا لجأ على محسن لنمط من التوازن بتحالف مع حزب أفروشيرازى معتدل بزعامة محمد شامتى...
و بمعنى ما أصبحت زنجبار عام 1962 و قبل الاستقلال بشهور تمثل عند زعماء شرق أفريقيا التقليديين احتمال إما قنبلة عروبية، ناصرية، أو قنبلة ماركسية ماوية ... وكلاهما مر! ؟ لكن الذى حدث فى يناير 1964 أن انفجرت القنبلة العنصرية! أو قل العرقية (أفارقة/ عرب) رغم القول بعد الاستقلال انها اصبحت .."كوبا افريقيا "
(اذكر في هذه الفترة عقب ثورة زنجبار ان تمت زيارتان هامتان لمنطقة شرق افريقيا اقترنا بتصريحين احدهما للبريطاني "اظنه ماكميلان"ان افريقيا باتت قابلة للتغيير ripe for change بعدها جاء شو اين لاي ليعلن انها نضجت للثورة ripe for revolution وايامها عرفت الفرق بين مصطلح الأنثروبولوجيا الكولونيالية وبين المصطلح الأيديولوجي !!)
بدا أن الإعداد لاحتفالات الاستقلال فى زنجبار هو قمة التعبير عن مأزق الشركاء هناك وأنه مطلوب من "على محسن"إحداث توازن ذهبى لإنقاذ الموقف من انفجار أفريقى يعتبر الاستقلال جائزة للعرب وحدهم...
وفى نفس الوقت أراد على محسن أن يقيم احتفالاً كبيراً يضع زنجبار فى قلب شرق أفريقيا رغم صغرها...
أذكر أنه حدثنى كثيراً عن اعجابه بعبقرية عبد الناصر فى استخدام الإعلام لبناء شخصيته وشخصية مصر فى أفريقيا، وكان يسألنى- بحكم تصوره أنى خبير خطير في الرئاسة ! كيف يرتب عبد الناصر ذلك ؟ ولا اظن اني أفدته كثيرا ! ولكنه ظل دائم الاهتمام بها حتي بدا لي انه اوصلها مع طلب انجاح الاحتفال الكبير لعبد الناصر نفسه الذي فهمت انه لابد وجه محمد فايق بالاستجابة للشيخ على محسن!
طلب الزعيم على محسن حضور كل اشكال التعبير المصرية التى تفيد الاحتفال... من الشيخ محمود خليل الحصرى , حتى فرقة رضا، وفريق كرة وصحفيين، ومذيعات (لا اذكر أسماء للأسف!). وبدا أن الشيخ على محسن يريد تطبيق المقولة الشائعة "إن عزف المزمار فى زنجبار، يرقص عليه الأفارقة على ساحل فيكتوريا.."و بالفعل أصبح الأهالى المتأثرين بهذا الفولكلور بعد ليلة الاحتفال يقولون أن صوت الشيخ الحصرى وصل أرض القارة The main land فى تنجانيقا كما ذكر لهم أهلوهم وهم على بعد 40 كم تقريباً!).
كان الوفد يضم أكثر من مائة عضو من كل الفنون، ورأس أنور السادات الوفد، ومعه محمد فايق، واستمتعت شخصياً بصحبة الكثيرين .....
انزعج الإنجليز كثيراً، خاصة مع ترتيبات "على محسن"لبروز أنور السادات فى وضع نائب رئيس مصر (وكان رئيساً لمجلس الشعب على ما أذكر) مساوياً لمندوب ملكة بريطانيا - زوجها العزيز- وفى تحركنا بمواكب تثير الانزعاج فعلاً....
وكانت الفنادق قليلة ومتواضعة فعلاً، فرحنا نقبل ضيافة العائلات العربية فى بيوتهم أو مزارعهم (الجزيرة كلها 40 ك).. حتى رحلنا.....وقد بدا فى الجو صمت الجمهور الأفريقى مريباً وكأنه يشير إلى ذلك الذى يسبق العاصفة...
سياسياً بدا التوازن يختل فى إقليم شرقى أفريقيا، مع بروز تساؤل عن دخول زنجبار ترتيبات إتحاد شرقى أفريقيا أم يعوقها نيريري ..... الخ.
لم تمض أيام بعد عودتنا حتى وصل "أحمد اللمكى"سفيراً لزنجبار لدى عبد الناصر! وراح يتحرك بسرعة مستخدماً "لوبى زنجبار"لإقامة أفضل العلاقات....
ذات مساء متأخر يوم 12 يناير 1964- وبعد أقامة السفير احمد اللمكي فى القاهرة لبضعة أسابيع فقط- دق التليفون فى منزلى حوالى الواحدة صباحاً، ثم حضر اللمكى يطلب منى الذهاب معه حالاً لمحمد فايق ليقابله بعبد الناصر الليلة لطلب تدخله العسكرى فوراً فى زنجبار ضد "الانقلاب المذبحة "الذى وقع تلك الليلة , وضرورة حماية العرب من المذابح التي يتعرضون لها في الجزيرة ....
لم أكن أستطيع خلال قيادتى للسيارة مصطحباً "اللمكى"إلى "فايق"أن أعبر له عن استغرابى لطلبه، بسبب شدة انفعاله، وقسوة الخبر كما سمعه تواً من الـ "بى. بى. سى) لكن السيد محمد فايق لم يقصر فى التعبير عن حزنه من ناحية ودهشته للطلب من ناحية أخرى....كما استبعد أن يوقظ عبد الناصر لإبلاغه فى تلك الساعة...! وأخذ فى تهدئة "اللمكى"مشيراً إلى صعوبات ذلك، رغم إشارة اللمكى أن قوات مصر فى اليمن أقرب وتستطيع الوصول بسرعة!! وكان ذلك كله مستحيلاً وبالضرورة وصل ذلك إلى اللمكي ، لأننا كنا أقمنا منظمة الوحدة الأفريقية حديثا ونقر مبدأ عدم التدخل.. وأخيراً فإن مأزقنا فى اليمن بات معروفاً.. فهل نوسع الرتق بالذهاب إلى زنجبار؟ ثم ان المذابح لن تنتظر إجراءات لوجستية طويلة متوقعة! وانه لا سبيل الا سرعة التدخل الدبلوماسي ..الخ
وتواترت الأنباء بسرعة عن مئات المسلحين الذين يبدو انهم جاءوا من خارج الجزيرة ليقضوا علي السلطنة ويقتلوا المئات والسيطرة علي الجزيرة.. ويقودهم شرطي سابق من اوغندا يدعي"جون اوكللو"لاثارة الرعب , وتنفيذ خطة بريطانيةللسيطرة علي الجزيرة بدليل مسئولية القائد الانجليزي للشرطة وتنظيمهم خروج السلطان لبريطانيا وسجن علي محسن والقادة وعدم قتل"الثائرين"لهم واتمام كل ذلك فيما وصفه اوكللو نفسه بثورة التسع ساعات .!
John Okello: Revolution in Zanzibar 1967
وقد سجن علي محسن لعشر سنوات ..وطردت الادارة الجديدة المدعو اوكللو بعد ان اسمي نفسه الفيلد ماريشال ليسجن في كينيا لخوف من اشاعته روح التمرد ولو المأجور
هذا الموقف الواضح لم يفهم لسنوات أعقبت ذلك.... ولا مجال للحكى عنه.. لأن ما شاع عقب الثورة هي قصص عن سلاح كان منقولا من الجزائر للجنة تحرير المستعمرات في دار السلام وان السفينة حولت الي زنجبار . اما بتعليمات من تنجانيقا او الي ما دهب اليه البعض للقول ان الجزائر كانت تقصد ذلك منافسة لمصر ! وترك البعض كل ذلك ليقول ان عبد الناصر كان قد اتفق مع على محسن لعقد اتفاقية دفاع مشترك مع زنجبار.... وإقامة قاعدة عسكرية لمصر هناك! وان ذلك هو ما اخاف الانجليز ونيريري فتامروا وضاعت زنجبار....!
جاء"ناصر الريامى"الباحث العمانى لمصر في 2008وأثار التساؤل معي لان كثيرا من الزنجباريين العرب ما زال يظن ذلك وهو يريد التحقق لكتابه عن زنجبار.. وصحبته إلى محمد فايق لإثارة دهشته وتأكيد النفى... ثم جاءتنى أخيراً اول 2014الباحثة الشابة بكلية بنات عين شمس ولاء صابر تردد نفس التساؤلات عن صحة رغبتنا فى وجود عسكرى فى زنجبار..!. وأقسمت لها أنى لم اسمع بذلك...! وصحبتها إلى محمد فايق ليؤكد الشهادة ازاء هذا التصور... ولافهم انا كيف تبني الاساطير سلبا او ايجابا !
ارتبط تأكيدنا بأننا سارعنا بالاعتراف بالأوضاع الجديدة فى زنجبار مع وعود _ بعد زيارة فايق للجزيرة ولتنجانيقا _ بتخفيف الضغط على العرب بالاعتقالات أو التعرض لحياتهم ، وبالتأكيد لدار السلام أننا لا نريد التدخل وإنما العمل الافريقى الوحدوى.. وسهل الامور وجود اليساريين لبعض الوقت في السلطة لكن سرعان ما تم التخلص منهم ايضا فابعد سالم احمد سالم سفيرا , وذهب عبد الرحمن بابو فيلسوف الثورة إلى دار السلام.
عندما مررت يوماً وأنا فى زيارة لتنزانيا على مقهى مشهور بشارع الاستقلال بدار السلام... وجدت عبد الرحمن بابو جالساً وحده... فى حالة تأمل... وعندما فاجأته بوجودى وسؤالى... قال... أفكر فى الثورة المهدرة.....!!