وهكذا إنتقل الذنب الذى إكتسبه اليهود فى ذلك العام عبر الأجيال المتعاقبة وأصبحت النظرة إليهم فى العالم المسيحي بعد دخول الإمبراطورالروماني إلى المسيحية هي نظرة المتآمر على إبن الرب.
وظل اليهود فى أوروبا من الجماعات التى لا ينظر إليها بعين الإرتياح وكانوا يعتبرون دائما من مسببات غضب الرب على الشعوب كلما حلت بهذه الشعوب نائبة من نوائب الزمان.
فعندما إنتشر الطاعون فى أوروبا فى منتصف القرن الرابع عشر وحصد أرواح مئات الألوف وربما الملايين كان الإعتقاد السائد هو أن اليهود هم سبب غضب الرب وقامت حركات شعبية تهاجمهم وتقتلهم.
مع أن سبب إنتشار الطاعون كان هو إنتقاله من المسافرين من شرق أوروبا إلى غربها حيث أنه بدأ فى شرق أوروبا فى مدينة كافا على البحر الأسود (إسمها أصبح اليوم فيودوسيا فى القرم) والتى كان يحاصرها جانى بيك حفيد جنكيز خان عام 1347 وأثناء الحصار أخذ يقذف بجثث موتاه من الجنود بالمنجنيق داخل المدينة ذات الأسوار لكى تتعفن مما أدى إلى إنتشار الطاعون فيها ومن ثم إنتقاله إلى سائر القارة.
(جانى بيك لم يكن يهوديا بل كان مسلما).
ولكن فى ذلك الزمن المبكر لم يكن الأوروبيون قد تعرفوا بعد على الإمبراطورية العثمانية حيث أنها كانت فى بداياتها الأولى وكان ما يعرفونه عن الإسلام هو ذكريات الهجمات الصليبية التى إنتهى زمنها قبل ذلك بحوالى 50 عاما إلى جانب حضارة مزدهرة علميا وثقافيا فى الأندلس، وإن كانت ضعيفة سياسيا وضعفها السياسي يزداد من عام لعام.. وبذلك إكتملت عناصر ذنب اليهود، فهم تاريخيا مسئولون عن صلب المسيح، وفى الحاضر يعملون فى النشاط المالى والربا، وكذلك هم سبب بلاء القارة الأوروبية بالطاعون.
واليهود لم يكنوا أبدا من العاملين فى الزراعة التى كانت هي النشاط الإقتصادي الأعم فى أوروبا الكاثوليكية. وكذلك لم يكنوا من العاملين فى الحرف اليدوية لأنها كانت محظورة عليهم. ولم يكن إمتلاك الأرض سهلا لا على المسيحيين العاديين بسبب الإقطاع ووجود الأمراء، ومن باب أولي كان ذلك مستحيلا على اليهود الذين حظر عليهم ذلك.
وبالتالي تركز وجودهم فى المدن فقط حيث لا يحتاج إليهم أحد فى الريف، وتركز عملهم فى التجارة والخدمات المالية وتقديم القروض مع وجود حظر على الإقراض بالفوائد للمسيحيين.
وكانت الجماعات اليهودية تتعرض للعقاب كل فترة من الوقت لأي مناسبة إجتماعية أو سياسية تصاحبها قلاقل من أي نوع. وكانت الحروب الصليبية مناسبة من ضمن تلك المناسبات التي علت فيها النعرة المعادية لليهود باعتبارهم خانوا المسيح وأسلموه للرومان، (مع عدم الذهاب إلى أبعد من ذلك بإلقاء اللوم على الرومان مثلا) !!!
وفى عام 1517 قام القس مارتن لوثر بطرح أسئلة عديدة على كل من أسقف ماينز وأسقف ماجدبورج تتعلق بالعقيدة التى تتبعها الكنيسة الكاثوليكية وبالذات فى شأن صكوك الغفران التى ذاعت تجارتها عقب نهاية الحروب الصليبية ونضوب معين الثروة المرتبطة بهذه الحروب وبتنظيم فرسان المعبد الذى لم يكن فى حقيقته سوى مؤسسة إقتصادية تتخذ من الدفاع عن العقيدة ستارا للإثراء الهائل. فلما شتت الملك فيليب ملك فرنسا شملهم فى أوائل القرن الرابع عشر أصبحت الكنائس تقريبا بلا مورد مالى فنشأ نظام صكوك الغفران.
وهذه الاسئلة التى طرحها مارتن لوثر بلغ عددها 95 سؤالا كان من بينها مناقشة سلطة البابا فى عقاب من إنتهت حياته بالفعل بالموت. فقد كتب فى الموضوعات من 10 إلى 13 أن العقاب لا ينبغى أن يمتد إلى ما بعد الموت أو أن يحكم به عقب موت الإنسان.
وقد كانت وثيقة هذه الأسئلة، التى علقها مارتن لوثر على باب الكنيسة ودقها بمسامير فى خشب الباب حتى يراها الناس جميعا، تمثل بداية نشأة المذهب البروتستانتى الذى لا يأخذ كل كلمة من الكنيسة مأخذ القدسية وإنما يناقش ويتساءل ويحاول أن يصل بعقله إلى تفسير. وهو بالطبع ما لم تكن الكنيسة لتقبله بأى حال دون مقاومة.
وبالطبع فإن نهجا كهذا فى التفكير لابد له أن يفضى إلى إعادة التفكير فى وضع اليهود الذين كانوا لايزالون محل شك وعدم إرتياح المسيحيين بسبب الذنب التاريخى.
وكان الأندلس قد سقط نهائيا وخرج منه كل من المسلمين واليهود أو أجبر من بقى منهم على أن يعمّد مسيحيا من جديد وبالتالى زاد عدد اليهود الهاربين من الأندلس إلى أراضى الإمبراطورية الرومانية المقدسة sacrum imperium romanumفى مناطق وسط وغرب أوروبا.
وهذه الإمبراطورية الرومانية المقدسة هى خليفة الإمبراطورية الرومانية القديمة بعد أن وقع حدثان مهمان. أولهما دخول الإمبراطور كونستانتين إلى المسيحية وبالتالى كل رعاياه معه وثانيا القسمة إلى كنيستين شرقية فى كونستانتينوبل وغربية فى روما. وبالتالى كانت الديانة المسيحية الكاثوليكية التى تقوم على شأنها كنيسة القديس بطرس فى روما جزءا لا يتجزأ من المكونات الاساسية للإمبراطورية الرومانية المقدسة.
فكيف كان رد الكنيسة الكاثوليكية؟