ربما يبدو غرائبيّاً القول بوجود دور بارز للشعر والخيال في تقدّم العلوم، بل صنع ثقافة العلوم فعليّاً. وفي التفكير التقليدي المنمّط يظهر الشعر والخيال وكأنهما ضدّ للعلوم، خصوصاً صلابة التفكير العلمي وصرامته المفترضين. هل الأمر كذلك؟ إن كان الشعر مهمازاً يحفز حصان العلم، فلم لا يحصل ذلك في دنيا العرب، وهم غارقون في الشعر قديماً وحديثاً؟
من المستطاع البدء من غاستون بشلار (1884- 1964). المفكر الفرنسي اشتغل على طريقة التفكير العلمي والمفاهيم المرتبطة بالعلوم. ولاحظ بشلار أن الشعر يعمل على تثبيت خيال علمي عن العالم والانسان، وهو أمر يمثل شرطاً ضرورياً للتقدّم العلمي. وفي المقابل، يرى بشلار أن تقدّم العلوم يرتبط أيضاً بأن يلتقط المجتمع ذلك الخيال العلمي ويتشربه، عبر التعليم والتربية والفنون والسياسة (بما في ذلك علاقتها مع الدساتير والقانون) والفلسفة وغيرها من أعمال الفكر، كي يتهيأ المناخ الاجتماعي والثقافي اللازم لتقدّم العلم.
نقد فكرة «النموذج»
اشتغل باشلار على علم يعرف باسم الابستيمولوجيا Epistemology، وهو بالتعريف، تفكير نقدي في العلم. لم يولِ العرب المعاصرون اهتماماً كبيراً بالابستمولوجيا التي تتضمّن دراسة تاريخ العلوم وكيفية تطور وسائلها في البحث ومناهجها في دراسة الظواهر التي تعرض لها.
وتركز المدارس الفلسفية المُعاصرة، خصوصاً في فرنسا، على تعريف الابستمولوجيا باعتبارها دراسة نقدية لما تحمله العلوم من أفكار وقيم وصور وخيالات عن الانسان والعالم والكون، اضافة إلى مناهج البحث التي تضمن الوصول إلى المعلومات والتثبت منها. مثلاً، ثمة فارق كبير بين القول إن المادة تتألف من ذرات لها تركيب متشابه، وتتفاعل فيها قوى معينة، كما يقول العلم الحديث، وبين الفكرة الأرسطية عن المادة ذات المواصفات الأصيلة وميول فطرية. تعطي الذرات، المتشابهة والقابلة للتأثر بعوامل يمكن دراستها والتدخل فيها، صورة عن عالم يرتكز إلى المُساواة ويقبل تدخل العقل الانساني والجهد المُستند إلى العلم. وتُفيد فيزياء أرسطو في تثبيت فكرة عن مجتمع أرستقراطي، تعلو فيه نخب محددة على كل ما عداها، بفضل صفات موجودة في أصلها.
تاريخيّاً، عزّزت فيزياء أرسطو سطوة النبلاء في أثينا، وبرّرت سيطرة السلالات الملكية والأكليروس الكنسي. وفي سياق التجربة التاريخية نفسها، ساهم تحدي الفيزياء الأرسطية، وما استند اليها من علوم مثل تصوّر بطليموس عن نظام شمسي مركزه الأرض، إلى انهيار هيمنة السلطات التي كانت تجد في فيزياء أرسطو وفلك بطليموس دعماً لها.
وساهم تحدي أرسطو في نقل المجتمعات الغربية إلى وضع تتعزز فيه سلطة العقل وقوة الأنسان الفرد، مع اعلاء قيم المساواة والحرية. وشرح غاستون باشلار ذلك المسار في مؤلّفات منها «جدلية الزمن» و «فرضيات عن النظرية الذريّة» و «الأكثرية المتجانسة والكيمياء المعاصرة» وغيرها.
ولم يتردد بعض العلماء في محاولة تنظير المفاهيم الاساسية التي تحملها العلوم التي اشتغلوا فيها، مثل الكتب العديدة لبرتراند راسل عن المنطق الرياضي، و «المسائل الفلسفية في العلم النووي» لورنر هاينزبرغ، و «ما هي الحياة» لايرفينغ شرودنغر و «تطور الفيزياء» لألبرت أينشتاين وغيرها.
وكخلاصة، من المستطاع القول إن العلم يقدّم خيالاً أساسياً عن الكون، يتضمن المُكوّنات الأساسية وتفاعلها والمسائل الرئيسية التي تواجه العلم. ويثبت النظام التعليمي والتربوي تلك الرؤية، في سياق من تداخله مع المؤسسات القانونية والتشريعية.
هناك مسألة أخرى. يُقدم النموذج الأوروبي، والغربي عموماً، في التقدّم العلمي نفياً قوياً، بل وحاسماً، لفكرة «النموذج».
فمن الواضح أن الغرب لم يتّبع نموذجاً مسبقاً في الوصول إلى التقدّم العلمي، ولا يعني ذلك أنها لم تأخذ علوماً من شعوب وحضارات متنوّعة، منها العرب.
واستطراداً، يمكن القول إن الصين راهناً، والهند إلى حد كبير، لم تتبع نماذج مُسبقة قررتها كمدخل وكطريقة للوصول إلى ما تريده في أحوال العلم.
وبالمقارنة، هناك مآسٍ مديدة في تجربة العرب في العصر الحديث مع «النماذج» المُختلفة التي حاولوا، بطرق مختلفة، السير عليها، لكنها لم توصلهم إلى التقاط خيط التطوّر المنشود.