Quantcast
Channel: Marefa.org
Viewing all articles
Browse latest Browse all 560

مقتطفات من كتاب من روائع حضارتنا-1

$
0
0

مقتطفات من كتاب من روائع حضارتنا

للكاتب مصطفى حسني السباعي

مقدمة المؤلف
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على باني أنبل حضارة عرفها التاريخ سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الذين بنوا أصرح تلك الحضارة الشامخة بدمائهم وجهودهم فكان لهم الفضل على كل من نعم بخيراتها إلى يوم الدين.

 وبعد فموضوع هذا الكتاب هو أحاديث أذعتها من محطة إذاعة دمشق في الفترة الواقعة بين ٢٠ من المحرم ١٣٧٥هالموافق ٨ من أيلول (سبتمبر) ١٩٥٥م عرضت فيها نماذج من الجوانب الرائعة في حضارتنا، وهي جوانب لا تزال تأخذ بألباب كل باحث منصف، ولم أتقص كل مظاهر الروعة في حضارتنا ولا قصدت تحليلها علميا، لأنني كنت أتحدث إلى جماهير المستمعين ممن يتفاوتون في المستوى الفكري والثقافي، وكان يهمني أن يصغى إليها أولئك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، من صفوة شبابنا ورجال الفكر المؤمن بكرامتنا على الله وعلى التاريخ، ولم يتسع لي الوقت لمتابعة هذه الأحاديث، إذ كنت أستعد للسفر في رحلة علمية إلى ديار الغرب تمت عام ١٩٥٦م، وقد كنت أود أن أتحدث عن روائع كثيرة، منها تلك النماذج الإنسانية للروحانية الإيجابية في تاريخ حضارتنا، ممن كانوا على قدر كبير من الإيمان بالله، والاتباع للحق، والسمو في النفس، والإشراق في الروح، والجمال في الخلق، والرحمة للناس، والعدل في الحكم، هذا مع مساهمتهم في صميم الحضارة ووجودهم في صميم الحياة، سواء كانوا ملوكا أم علماء، أو زهادا، أم فلاسفة، أم قوادا، أم حكاما، أم تجارا، رجالا ونساء، شيوخا وشبابا، أغنياء وفقراء، إنها نماذج للكمال الإنساني الذي لم يكن يعيش في خيال الفلاسفة والحكماء، بل كان يعيش على ظهر الأرض مع أهل الأرض.

 
هذه الروحانية الإيجابية بأمثلتها الرائعة هي مما تفردت به حضارتنا عن سائر الحضارات قديمها وحديثها، فلقد عرف التاريخ رجالا روحانيين في الأمم المختلفة وخاصة في أمم الشرق الأقصى، ويعيش اليوم أناس تغلب عليهم النزعة الروحية الصافية، ولكن هؤلاء وأولئك كانوا سلبيين مع الحضارة، مترفعين عن المساهمة فيها، يعيشون في الأديرة ورؤوس الجبال، أو في المغاور والصحارى، أما نماذجنا الروحية في تاريخ حضارتنا فقد كانوا يخوضون معركة بناء الحياة بكل ما تتطلبه المعركة من عمل وجهد وتضحية وفداء، وهذا هو سر الروعة في هذه النماذج الروحية العجيبة في تاريخ الحضارات.
 
والقصد اليوم من نشر هذه الأحاديث أن نلفت الأنظار إلى هذه الروائع كدليل على استطاعتنا بناء حضارة أكمل وأسمى من هذه الحضارة، وأن نذكر الجيل الجديد من أبناء أمتنا بواجبهم في بناء حضارة إنسانية كريمة كما بنى آباؤهم أمثالها، وهذا أنسب الأوقات لمثل هذا التذكير، فأمتنا تدخل الآن باب التاريخ من جديد دخولا كريما فيه كل تحفز وانطلاق لبناء مستقبل أفضل وأكمل، وفي أمتنا بقايا من سجايا الآباء والأجداد فإذا سمعت حديث أمجادهم وآثارهم وحضارتهم هزها ذلك هزا عنيفا ودفعها إلى العمل دفعا حثيثا.
فلا تسمعوه ما أقول فإنه شجاع متى يذكر له الطعن يشتق
ولسنا نقصد من عرض هذه الروائع الادعاء بأن كل ما في حضارتنا جميل ومشرق، فليس في التاريخ حضارة ليست لها هفوات، وإنما القصد أيضا أن نثبت أن الجوانب الإنسانية الخالدة في حضارتنا أقوى وأجمل، وأن نرد بذلك على افتراء الذين يزعمون لحضارتنا كل عيب ونقيصه، ويتعمدون أن يحذفوها من قائمة الحضارات الأصلية، وأن نحبط بذلك كيد الذين يعملون على أن يصرفوا أنظار جيلنا الحديث عن روائع آثارنا الحضارية، ليجذبوهم إلى حضارة تكشفت مقاتلها للناس، وإلى تاريخ أمم إن كانت لها صفحة واحدة من الفضائل، فإن لها آلاف الصفحات من النقائص والرذائل، وهذا هو هدف الاستعمار الذي يسعى إليه جاهدا، وذلك هو صنيع أذنابه ودعاته الذين ما برحوا على تمجيد حضارته عاكفين.
 
وإذا كنت قد عرضت في هذا الكتاب (نماذج) من روائع حضارتنا فإني لأرجو أن يتم الدارسون لتاريخ حضارتنا ما بدأته من عرض هذه الروائع، بشكل أتم وبحث أوفى وبيان أبلغ وأنصع، لإعطاء جيلنا الحاضر صورة حقيقية كاملة الروعة عن هذه الحضارة التي كانت تشع النور وتبعث الحياة في القرون الوسطى، فلا حاضر لأمة تجهل ماضيها، ولا مستقبل لأمة تنكر خصائصها وفضائلها، وهي مما تتصل بالحضارة بأوفى سبب وأقوى نسب، وإذا كان الوقوف على الماضي للبكاء عليه والنحيب، هو شغل الكسالى العاطلين، فإن تجاهله وازدراءه مع ما يفيض به من خير واسع ونور رحيب، هو شأن الحاقدين أو الجاهلين. ومن الخير أن نستفيد من كنوزنا في بناء نهضتنا العتيدة، لتكون النهضة مأمونة العواقب، غنية بما يمد لها من أسباب النجاح والبقاء، واضحة الملامح فيما تهدف إليه من كرامة وهناء، متصلة أمجادها بأمجاد الماضي، لتتصل أمجاد المستقبل بأمجادها، فيستمر الموكب، وتنسجم الحلقة ويكتمل البناء.
والله من وراء القصد وهو ولي التوفيق
 
مصطفى حسني السباعي
 

 

خصائص حضارتنا
يعرف الحضارة بعض الكاتبين في تاريخها بأنها (نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي) وتتألف الحضارة من العناصر الأربعة الرئيسية: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون. ولإطراد الحضارة وتقدمها عوامل متعددة من جغرافية وإقتصادية ونفسية كالدين واللغة والتربية، ولانهيارها عوامل هي عكس تلك العوامل التي تؤدي إلي قيامها وتطورها، ومن أهمها الإنحلال الخلقي والفكري، واضطراب القوانين والأنظمة، وشيوع الظلم والفقر، وانتشار التشاؤم واللامبالاة، وفقدان الموجهين الأكفاء والزعماء المخلصين .. وقصة الحضارة تبدأ مند عرف الإنسان، وهي حلقة متصلة تسلمها الأمة المتحضرة إلي من.بعدها، ولا تختص بأرض ولا عرق، وإنما تنشأ من العوامل السابقة التي ذكرناها. ولا تكاد أمة تخلو من تسجيل بعض الصفحات في تاريخ الحضارة، غير أن ما تمتاز به حضارة عن حضارة إنما هو قوة الأسس التي تقوم عليها، والتأثير الكبير الذي يكون لها، والخير العميم الذي يصيب الإنسانية من قيامها، وكلما كانت الحضارة عالمية في رسالتها، إنسانية في نزعتها، خلقية في اتجاهاتها، واقعية في مبادئها، كانت أخلد في التاريخ، وأبقي علي الزمن، وأجدر بالتكريم.
 
وحضارتنا حلقة من سلسلة الحضارات الإنسانية، سبقتها حضارات وستتبعها حضارات. وقد كان لقيام حضارتنا عوامل، ولانهيارها أسباب، ليست هي ما تعنيه هذه السلسلة من أحاديثنا، وإنما نريد قبل أن نبدأ الحديث عن روائع هذه الحضارة، أن نتحدث عن دورها الخطير في تاريخ التقدم الإنساني، ومدي ما قدمته في ميدان العقيدة والعلم والخلق والحكم والفن والأدب من أياد خالدة علي الإنسانية في مختلف شعوبها وأقطارها.
 
إن أبرز ما يلفت نظر الدارس لحضارتنا أنها تميزت بالخصائص التالية:
 
١ - أنها قامت علي أساس الوحدانية المطلقة في.    العقيدة، فهي أول حضارة تنادي بالإله الواحد الذي لا شريك له في حكمه وملكه، وهو وحده الذي يعبد، وهو وحده الذي يقصد {إياك نعبد وإياك نستعين} وهو الذي يعز ويذل ويعطي ويمنح، وما من شيء في السموات والأرض إلا وهو تحت قدرته وفي متناول قبضته.
هذا السمو في فهم الوحدانية كان له أثر كبير في رفع مستوي الإنسان وتحرير الجماهير من طغيان الملوك والأشراف والأقوياء ورجال الدين، وتصحيح العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، وتوجيه الأنظار إلي الله وحده وهو خالق الخلق ورب العالمين .. كما كان لهذه العقيدة أثر كبير في الحضارة الإسلامية تكاد تتميز به عن كل الحضارات السابقة واللاحقة، وهي خلوها من كل مظاهر الوثنية وآدابها وفلسفتها في العقيدة والحكم والفن والشعر والأدب، وهذا هو سر إعراض الحضارة الإسلامية عن ترجمة الإلياذة وروائع الأدب اليوناني الوثني، وهو سر تقصير الحضارة الإسلامية في فنون النحت والتصوير مع تبريزها في فنون النقش والحفر وزخرفة البناء. إن الإسلام الذي أعلن الحرب العوان علي الوثنية ومظاهرها لم يسمح لحضارته أن تقوم فيها مظاهر الوثنية وبقاياها المستمرة من أقدم عصور التاريخ،.  كتماثيل العظماء والصالحين والأنبياء والفاتحين. وقد كانت التماثيل من أبرز مظاهر الحضارات القديمة والحضارة الحديثة، لأن واحدة منها لم تذهب في عقيدة الوحدانية إلي المدى الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية.
وهذه الوحدة في العقيدة تطبع كل الأسس والنظم التي جاءت بها حضارتنا، فهنالك الوحدة في الرسالة، والوحدة في التشريع، والوحدة في الأهداف العامة، والوحدة في الكيان الإنساني العام، والوحدة في وسائل المعيشة وطراز التفكير، حتى أن الباحثين في الفنون الإسلامية قد لحظوا وحدة الأسلوب والذوق في أنواعها المختلفة، فقطعة من العاج الأندلسي، وأخري من النسيج المصري، وثالثة من الخزف الشامي، ورابعة من المعادن الإيرانية، تبدو رغم تنوع أشكالها وزخرفتها ذات أسلوب واحد وطابع واحد.
٢ - وثاني خصائص حضارتنا أنها إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة، فالقرآن الذي أعلن وحدة النوع الإنساني رغم تنوع أعراقه ومنابته ومواطنه، في قوله تعالي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (١). إن القرآن حين أعلن هذه الوحدة الإنسانية العالمية علي صعيد الحق والخير والكرامة جعل حضارته عقدا تنتظم فيه جميع العبقريات للشعوب والأمم التي خفقت فوقها راية الفتوحات الإسلامية، ولذلك كانت كل حضارة تستطيع أن تفاخر بالعباقرة من أبناء جنس واحد وأمة واحدة، إلا الحضارة الإسلامية فإنها تفاخر بالعباقرة الذين أقاموا صرحها من جميع الأمم والشعوب، فأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والخليل وسيبويه والكندي والغزالي، والفارابي، وابن رشد وأمثالهم ممن اختلفت أصولهم وتباينت أوطانهم، ليسوا إلا عباقرة قدمت فيهم الحضارة الإسلامية إلي الإنسانية أروع نتاج الفكر الإنساني السليم.
٣ - وثالث خصائص حضارتنا أنها جعلت للمبادئ الأخلاقية المحل الأول في كل نظمها ومختلف ميادين نشاطها، وهي لم تتخل عن هذه المبادئ قط، ولم تجعلها وسيلة لمنفعة دولة أو جماعة، أو أفراد .. في الحكم، وفي العلم وفي التشريع، وفي الحرب، وفي السلم، وفي الاقتصاد، وفي الأسرة .. روعيت.  المبادئ الأخلاقية تشريعا وتطبيقا، وبلغت في ذلك شأوا ساميا بعيدا لم تبلغه حضارة في القديم والحديث. ولقد تركت الحضارة الإسلامية في ذلك آثارا تستحق الإعجاب وتجعلها وحدها من بين الحضارات التي كفلت سعادة الإنسانية سعادة خالصة لا يشوبها شقاء ..
٤ - ورابع هذه الخصائص أنها تؤمن بالعلم في أصدق أصوله، وترتكز علي العقيدة في أصفي مبادئها، فهي خاطبت العقل والقلب معا، وأثارت العاطفة والفكر في وقت واحد. وهي ميزة لم تشاركها فيها حضارة في التاريخ. وسر العجب في هذه الخاصة من خصائص حضارتنا أنها استطاعت أن تنشئ نظاما للدولة قائما علي مبادئ الحق والعدالة، مرتكزا إلي الدين والعقيدة دون أن يقيم الدين عائقا من دون رقي الدولة واطراد الحضارة، بل كان الدين من أكبر عوامل الرقي فيها، فمن بين جدران المساجد في بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة وغرناطة انطلقت أشعة العلم إلي أنحاء الدنيا قاطبة. إن الحضارة الإسلامية هي الوحيدة التي لم يُفصل فيها الدين عن الدولة مع نجاتها من كل مآسي المزج بينهما كما عرفته أوروبا في القرون الوسطى. لقد كان رئيس الدولة خليفة وأميرا للمؤمنين، لكن الحكم عنده للحق، والتشريع للمختصين فيه، ولكل فئة من.   العلماء اختصاصهم والجميع يتساوون أمام القانون، والتفاضل بالتقوى والخدمة العامة للناس (والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) (١) (الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله) (٢) هذا هو الدين الذي قامت عليه حضارتنا، ليس فيه امتياز لرئيس، ولا لرجل دين، ولا لشريف ولا لغني .. {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} (٣).
٥ - وآخر ما نذكر من خصائص حضارتنا هذا التسامح الديني العجيب الذي لم تعرفه حضارة مثلها قامت علي الدين. إن الذي لا يؤمن بدين ولا بإله، لا يبدو عجيبا إذا نظر إلي الأديان كلها علي حد سواء، وإذا عامل أتباعها بالقسطاس المستقيم، ولكن صاحب الدين الذي يؤمن بأن دينه حق وأن عقيدته أقوم العقائد وأصحها، ثم يتاح له أن يحمل السيف، ويفتح المدن، ويستولي علي الحكم، ويجلس علي منصة القضاء، ثم لا يحمله إيمانه بدينه، واعتزازه بعقيدته، علي أن يجور في الحكم، أو أن ينحرف عن سنن العدالة، أو يحمل الناس على اتباع دينه .. إن رجلا مثل هذا لعجيب أن.  .يكون في التاريخ، فكيف إذا وجد في التاريخ حضارة قامت علي الدين وشادت قواعدها علي مبادئه، ثم هي من أشد ما عرف التاريخ تسامحا وعدالة ورحمة وإنسانية! .. هذا ما صنعته حضارتنا وسنجد له عشرات الأمثلة فيما نذكره في أحاديثنا المقبلة. وحسبنا أن نعرف أن حضارتنا تنفرد في التاريخ بأن الذي أقامها دين واحد، ولكنها كانت للأديان جميعا.  وبعد فأعتقد أني بلغت ما أريد من لفت الأنظار إلى دراسة حضارتنا وإن لم أبلغ ما أريد من توفية هذا البحث حقه، وحسبي أن أعرض في الأحاديث التالية نماذج من روائع حضارتنا نستدل بها على خلود الحضارة التي شادتها الأمة التي وصفها أعدل حاكم وأصدق قائل بأنها: (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (١) 
 
.آثار حضارتنا في التاريخ
تكلمنا في الحديث الماضي عن الخصائص البارزة لحضارتنا، وقلنا إن الحضارات إنما تخلد بمقدار ما تقدمه في تاريخ الإنسانية من آثار خالدة في مختلف النواحي الفكرية والخلقية، والمادية، وأن حضارتنا لعبت دوراً خطيراً في تاريخ التقدم الإنساني، وتركت في ميادين العقيدة والعلم والحكم والفلسفة والفن والأدب وغيرها آثاراً بعيدة المدى قوية التأثير فيما وصلت إليه الحضارة الحديثة، فما هي الآثار؟ وما هي أهميتها؟
 
نستطيع أن نجمل الآثار الخالدة لحضارتنا في ميادين خمسة رئيسية:
 
أولاً- في ميدان العقيدة والدين: فقد كان.   لمبادئ الحضارة الإسلامية أثر كبير في حركات الإصلاح الدينية التي قامت في أوروبا منذ القرن السابع حتى عصر النهضة الحديثة، فالإسلام الذي أعلن وحدة الله وانفراده بالسلطان وتنزيهه عن التجسيم والظلم والنقص، كما أعلن استقلال الإنسان في عبادته وصلته مع الله وفهمه لشرائعه دون وساطة رجال الدين، كان عاملاً كبيراً في تفتح أذهان الشعوب إلى هذه المبادئ القوية الرائعة، وقد كانت الشعوب يومئذ ترسف في أغلال من الخصام المذهبي العنيف والخضوع لسلطان رجال الدين على أفكارهم وآرائهم وأموالهم وأبدانهم! فمن الطبيعي وقد وصلت فتوحاته في الشرق والغرب إلى ما وصلت إليه، أن تتأثر الأمم المجاورة له بمبادئه في العقيدة قبل كل شيء.
وهذا ما حدث فعلاً، إذ قام في القرن السابع الميلادي في الغربيين من ينكر عبادة الصور، ثم قام بعدهم من ينكر الوساطة بين الله وعباده، ويدعو إلى الاستقلال في فهم الكتب المقدسة بعيداً عن سلطان رجال الدين ومراقبتهم. ويؤكد كثير من الباحثين أن (لوثر) في حركته الإصلاحية كان متأثراً بما قرأه للفلاسفة العرب والعلماء المسلمين من آراء في الدين والعقيدة والوحي، وقد كانت الجامعات الأوروبية في عصره لا تزال.  تعتمد على كتب الفلاسفة المسلمين التي ترجمت منذ عهد بعيد إلى اللاتينية، ونستطيع أن نؤكد بأن حركة الفصل بين الدين والدولة التي أُعلنت في الثورة الفرنسية كانت وليد الحركات الفكرية العنيفة التي سادت أوروبا ثلاثة قرون أو أكثر، وكان لحضارتنا فضل في إيقاد جذوتها عن طريق الحروب الصليبية والأندلس.
 
ثانيا- في ميدان الفلسفة والعلوم: من طب ورياضيات وكيمياء وجغرافيا وفلك. أفاقت أوروبا على صوت علمائنا وفلاسفتنا يدرّسون هذه العلوم في مساجد إشبيلية وقرطبة وغرناطة وغيرها، وكان رواد الغربيين الأُول إلى مدارسنا شديدي الإعجاب والشغف بكل ما يستمعون إليه من هذه العلوم في جو من الحرية لا يعرفون له مثيلاً في بلادهم. ففي الوقت الذي كان فيه علماؤنا يتحدثون في حلقاتهم العلمية ومؤلفاتهم عن دوران الأرض وكرويتها، وحركات الأفلاك والأجرام السماوية، كانت عقول الأوروبيين تمتلئ بالخرافات والأوهام عن هذه الحقائق كلها! ومن ثم ابتدأت عند الغربيين حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية وغدت كتب علمائنا تُدرّس في الجامعات الغربية. فقد تُرجم كتاب (القانون) في الطب لابن سينا في القرن الثاني عشر، كما تُرجم كتاب (الحاوي) للرازي وهو. أوسع من القانون وأضخم، في نهاية القرن الثالث عشر، وظل هذان الكتابان عمدة لتدريس الطب في الجامعات الأوروبية حتى القرن السادس عشر، أما كتب الفلسفة فقد استمرت أكثر من ذلك، ولم يعرف الغرب فلسفة اليونان إلا عن طريق مؤلفاتنا وترجماتنا.



ومن هنا يعترف كثير من الغربيين المنصفين بأننا كنا في القرون الوسطى أساتذة أوروبا مدةً لا تقل عن ستمائة سنة.  
يقول العلامة المستشرق سيديو: (كان العرب وحدهم حاملين لواء الحضارة الوسطى فدحروا بربرية أوروبا التي زلزلتها غارات قبائل الشمال، وسار العرب إلى (منابع فلسفة اليونان الخالدة) فلم يقفوا عند حد ما اكتسبوه من كنوز المعرفة بل وسعوه وفتحوا أبواباً جديدة لدرس الطبيعة)، ويقول أيضاً: (والعرب حين زاولوا علم الهيأة عنوا عناية خاصة بالعلوم الرياضية كلها فكان لهم فيها القدح المعلّي، فكانوا أساتذة لنا في هذا المضمار بالحقيقة).
وإذا كان روجر الأول قد شجع على تحصيل علوم العرب في صقلية ولاسيما كتب الإدريسي، فإن الإمبراطور فردريك الثاني لم يبدو أقل حضاً على دراسة علوم العرب وآدابهم، وكان أبناء ابن رشد يقيمون ببلاط هذا الإمبراطور فيعلمونه تاريخ النباتات والحيوانات الطبيعي.



ويقول هومبلدفي كتابه عن الكون: والعرب هم الذين أوجدوا الصيدلية الكيماوية، ومن العرب أتت الوصايا المحكمة الأولى التي انتحلتها مدرسة (ساليرم) فانتشرت في جنوب أوروبا بعد زمن، وأدّت الصيدلة ومادة الطب اللتان يقوم عليهما فن الشفاء إلى دراسة علم النبات والكيمياء في وقت واحد، ومن طريقين مختلفين، وبالعرب فتح عهد جديد لذلك العلم.
ويقول سيديو عن الرازي وابن سينا بأنهما: سيطرا بكتبهما على مدارس الغرب زمناً طويلاً. وعُرف ابن سينا في أوروبا طبيباً فكان له على مدارسها سلطان مطلق مدة ستة قرون تقريباً، فتُرجم كتابه (القانون) المشتمل على خمسة أجزاء. 
فطُبع عدة مرات، لعدّه أساساً للدراسات في جامعات فرنسا وإيطاليا.
 
ثالثاً- في ميدان اللغة والأدب: فقد تأثر الغربيون وخاصة شعراء الأسبان بالأدب العربي تأثراً كبيراً، فقد دخل أدب الفروسية والحماسة والمجاز والتخيلات الراقية البديعة إلى الآداب الغربية عن طريق الأدب العربي في الأندلس على الخصوص. يقول الكاتب الإسباني المشهور أبانيز: (إن أوروبة لم تكن تعرف الفروسية ولا تدين بآدابها المرعية ولا نخوتها الحماسية قبل وفود العرب إلى الأندلس وانتشار فرسانهم وأبطالهم في أقطار الجنوب).  ومن عباقرة الأدب في أوروبا في القرن الرابع عشر وما بعده من لا شك أبداً في تأثير الآداب العربية على قصصهم وآدابهم، ففي سنة ١٣٤٩هكتب بوكاشيو حكاياته المسماة (بالصباحات العشرة) وهي تحذو حذو ألف ليلة وليلة، ومنها اقتبس شكسبير موضوع مسرحيته.  (العبرة بالخواتيم) كما اقتبس لسنغ الألماني مسرحيته (ناتان الحكيم).
 
وكان شوسر إمام الشعر الحديث في اللغة الإنكليزية أكبر المقتبسين من بوكاشيو في زمانه، فقد لقيه في إيطاليا ونظم بعد ذلك قصصه المشهورة باسم (حكايات كانتربري).
أما (دانتي) فيؤكد كثير من النقاد أنه كان في (القصة الإلهية) التي يصف فيها رحلته إلى العالم الآخر متأثراً برسالة الغفران للمعري ووصف الجنة لابن عربي.
وقد تأثرت القصة الأوروبية في نشأتها بما كان عند.  العرب من فنون القصص في القرون الوسطى، وهي المقامات وأخبار الفروسية ومغامرات الفرسان في سبيل المجد والعشق، وكان لألف ليلة وليلة بعد ترجمتها إلى اللغات الأوروبية في القرن الثاني عشر أثر كبير جداً في هذا المجال حتى أنها طُبعت منذ ذلك الحين حتى الآن أكثر من ثلاثمائة طبعة في جميع لغات أوروبا، حتى ليرى عدد من النقاد الأوروبيين أن رحلات (جليفر) التي ألفها (سويفت) ورحلة (روبنسون كروزو) التي ألفها (ديفوه) مدينة لألف ليلة وليلة، ولرسالة حي بن يقظان للفيلسوف العربي ابن طفيل.
 
ولا حاجة بنا إلى أن نذكر ما دخل اللغات الأوروبية على اختلافها من كلمات عربية في مختلف نواحي الحياة حتى أنها لتكاد تكون كما هي في اللغة العربية، كالقطن، والحرير الدمشقي، والمسك، والشراب، والجرة، والليمون، والصِّفر، وغيرها مما لا يُحصى.   رابعاً- في ميدان التشريع: فقد كان لاتصال الطلاب الغربيين بالمدارس الإسلامية في الأندلس وغيرها أثر كبير في نقل مجموعة من الأحكام الفقهية والتشريعية إلى لغاتهم، ولم تكن أوروبا في ذلك الحين علي نظام متقن ولا قوانين عادلة.
حتى إذا كان عهد نابليون في مصر ترجم أشهر كتب الفقه المالكي إلى اللغة الفرنسية. ومن أوائل هذه الكتب (كتاب خليل) الذي كان نواة القانون المدني الفرنسي، وقد جاء متشابها إلى حد كبير مع أحكام الفقه المالكي، يقول العلامة سيديو: (والمذهب المالكي هو الذي يستوقف نظرنا على الخصوص لما لنا من الصلات بعرب إفريقية، وعهدت الحكومة الفرنسية إلى الدكتور بيرون في أن يترجم إلى الفرنسية كتاب المختصر في الفقه للخليل بن اسحاق بن يعقوب المتوفى سنة ١٤٢٢م)
 
رابعا-فى مجال الشريعة:
فقد كان لاتِّصال الطُّلاب الغَربيِّين بالمدارس الإسلامية في الأندلس وغيرها - أثرٌ كبيرٌ في نقل مجموعة من الأحكام الفقهيَّة والتشريعيَّة إلى لُغاتِهم، ولم تكن أوربا في ذلك الحين على نظام مُتقن ولا قوانين عادلة؛ حتَّى إذا كان عهد نابليون في مصر ترجمَ أشهر كُتُب الفقه المالكي إلى اللُّغة الفرنسيَّة، ومن أوائل هذه الكتب "كتاب خليل"، الذي كان نواة القانون المدني الفَرَنسي، وقد جاء مُتشابهًا إلى حدٍّ كبير مع أحكام الفقه المالكي، يقول العلامة "سيديو": "والمذهب المالكي هو الذي يستوقفُ نظرنا على الخُصُوص؛ لما لنا من الصِّلات بعرب إفريقيَّة، وعهدت الحُكُومة الفرنسيَّة إلى الدكتور بيرون في أن يُترجم إلى الفرنسيَّة كتاب "المختصر في الفقه"، للخليل بن إسحاق بن يعقوب المتوفى سنة 1422م".
 
خامساً- في مفهوم الدولة وعلاقة الشعب بالحكومة: فقد كان العالم القديم والوسيط ينكر على الشعب حقه في الإشراف على أعمال حكامه، كما. يجعلون الصلة بينه وبين الحاكم صلة بين العبد وسيده، فالحاكم هو السيد المطلق يتصرف بالشعب كما يشاء وكانت المملكة تعتبر ملكا خاصا للملك تورث عنه كما تورث بقية أمواله، ويستبيحون من أجل ذلك أن تقوم الحرب بين دولة وأخرى من أجل المطالبة بحصة أميرة في العرش، أو للخلاف على ميراث الأصهار!
أما العلاقة بين الأمم المتحاربة فهي استباحة الغالب لكل ما في يد المغلوب وما في وطنه من مال وعرض وحرية وكرامة، وظل الأمر كذلك حتى قامت الحضارة الإسلامية تعلن فيما تعلن من مبادئها أن الشعب هو صاحب الحق في الإشراف على حكامه، وأن هؤلاء ليسوا إلا أجراء يسهرون على مصالح الشعب وكرامته بأمانة ونزاهة، وفى هذا يقع لأول مرة في التاريخ أن يحاسب فرد من أفراد الشعب حاكمه عما يلبس، من أين جاء به، فلا يحكم عليه بالإعدام، ولا يقاد إلى السجن، ولا ينفى من الأرض، ولكن يقدم له الحاكم حسابه حتى يقتنع ويقتنع الناس! ولأول مرة في التاريخ يقول أحد أفراد الرعية لحاكمه الأكبر: السلام عليك أيها الأجير! فيعترف الحاكم بأنه أجير الشعب، عليه ما على الأجير من حق الخدمة بإخلاص، والنصح بأمانة. أعلنت الحضارة الإسلامية هذا فيما أعلنته وطبقته.  بعد ذلك، فما هي إلا نسمة الحرية والوعي تهب في الشعوب المجاورة للمجتمع الإسلامي فتتململ ثم تتحرك، ثم تثور، ثم تتحرر.
وكان مما أعلنته حضارتنا في حروبها احترام العهود، وصيانة العقائد، وترك المعابد لأهلها، وضمان حريات الناس وكرامتهم، فأثارت في الشعوب المغلوبة لحكمها روح العزة والكرامة، ونبهت فيهم معاني الإنسانية الكريمة العزيزة.
 
وكان في التاريخ لأول مرة أن يشكو والد مغلوب، الحاكم الغالب إلى رئيس الدولة الأعلى من أن ولد. الحاكم قد ضرب ولده الصغير خفقتين بالسوط على رأسه من غير حق .. ويغضب رئيس الدولة الأعلى ويحاسب ولد الحاكم ويقتص منه، ويقرع الحاكم ويؤنبه ويقول له: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟! إن هذه روح جديدة تبعثها حضارتنا في الأفراد والشعوب.  وبعد، فهذه هي بعض الآثار الخالدة لحضارتنا في خمسة ميادين رئيسية هي أبرز مظاهر الحياة في الأمم والحضارات .. ومن أجل ذلك كان لنا نحن أبناء هذه الحضارة دَين على الشعوب التي حررتها حضارتنا، يجب أن نسترده لا بالتفاخر الكاذب، ولا بالأماني والأباطيل، بل بمعرفتنا، لقدر أنفسنا، وقيمة حضارتنا وسمو تراثنا، واستحقاقنا لأن نكون الأمة الوسط التي تشهد على الناس، وتقودهم إلى الخير والحق والكرامة ولعلنا فاعلون إن شاء الله. 
 
 النزعة الإنسانية
لا يسع الباحث في حضارتنا الخالدة وآثارها إلا أن يعني بالنزعة الإنسانية التي تميزت بها حضارتنا عن كل الحضارات، فنقلت الإنسانية من أجواء الحقد والكراهية والتفرقة والعصبية إلى أجواء الحب والتسامح والتعاون والتساوي أمام الله، ولدى القانون، وفى كيان المجتمع تساويا لا أثر فيه لاستعلاء عرق على عرق، أو فئة على فئة، أو أمة على أمة .. وإن هذه النزعة لتتجلى في مبادئ حضارتنا وتشريعها وواقعها.
أما النزعة الإنسانية في مبادئها فذلك حين يعلن الإسلام أن الناس جميعا خلقوا من نفس واحدة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا.    وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً} (١). فالأصل البشري لأبناء البشرية قاطبة هو أصل واحد. ومهما تفرق الناس بعد ذلك إلى أمم وقبائل وبلدان وأجناس، فإنما هو كتفرق البيت الواحد والأخوة من أب واحد وأم واحدة. وما كان كذلك فسبيل هذا الاختلاف في أجناسهم وبلدانهم أن يؤدي إلى تعاونهم وتعارفهم وتلاقيهم على الخير، ومن ذلك انبثق المبدأ الإنساني الخالد {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (٢) والكل سواء، سواء عند الله في آدميتهم وإنسانيتهم لا تمايز بينهم إلا بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (٣)، وهم سواء أمام القانون في الخضوع له، لا تمايز بينهم إلا بالحق {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (٤)، وهم سواء في كيان المجتمع، يتأثر قويهم بضعيفهم، ومجموعهم لعلم أفراد منهم (مثل المؤمنين في توادَهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر) (٥).  
 
وأما النزعة الإنسانية في تشريعنا الحضاري، فإنك لتلمس ذلك واضحا في كل باب من أبواب التشريع، في.  الصلاة يقف الناس جميعا بين يدي الله لا يخصص مكانا لملك أو عظيم أو عالم. وفي الصوم يجوع الناس جوعا واحدا لا يفرد من بينهم أمير، أو غني، أو شريف. وفي الحجّ يلبس الناس لباسًا واحدًا، ويقفون موقفاً واحداً، ويؤدون منسكاً واحداً، لا تمييز بين قاص ودان، وقوي وضعيف، وأشراف وعامة. فإذا انتقلت من ذلك إلى أحكام القانون المدني وجدت الحق هو الشرعة السائدة في العلاقة بين الناس، والعدل هو الغرض المقصود من التشريع، ودفع الظلم هو اللواء الذي يحمله القانون ليفئ إليه مضطهد ومظلوم. فإذا انتقلت من ذلك إلي القانون الجزائي وجدت العقوبة واحدة لكل من يرتكبها من الناس، فمن قتل قُتل، ومن سرق عوقب، ومن اعتدى أُدب، لا فرق بين أن يكون القاتل عالما أو جاهلا، والمقتول أميرا أو فلاحا، ولا فرق بين أن يكون المعتدي أمير المؤمنين، أو صانع النسيج، والمعتدي عليه أعجمياً أو عربياً، شرقياً أو غربياً، فالكل سواء في نظر القانون {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} (١).
ويسمو التشريع إلى أرفع من هذا حين يثبت الكرامة الإنسانية للناس جميعا بقطع النظر عن أديانهم. وأعراقهم وألوانهم فيقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} (١) هذه الكرامة هي التي تضمن للناس جميعاً حقهم في الحياة والعقيدة والعلم والعيش، هي للناس جميعا، ومن واجب الدولة أن تكفلها لهم على قدم المساواة بلا استثناء. ويسمو التشريع فوق هذا إلى ذروة عالية من السمو الإنساني حين يجعل أساس المثوبة والعقاب للناس لا على ظواهر أفعالهم بل على نواياهم (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم) (٢)، فالنية هي محل المؤاخذة أو الإثابة: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) (٣)، والنية المقبولة عند الله هي نية الخير والنفع للناس وابتغاء وجه الله ومرضاته دون غرض مادي، أو نفع تجاري {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (٤)، ويبلغ التشريع أعلى.  .ذروة من النزعة الإنسانية حين يقرر وحدة العوالم كلها من إنسان وحيوان ونبات وجماد وأرض وأفلاك في سلك العبودية لله والخضوع لنواميس الكون، وما أروع ما يطلبه القرآن من المسلم أن يذكره في كل ركعة من ركعات صلاته {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (١)، إنه لواجب أن يذكر المسلم أنه جزء من الكون مخلوق لإلّه واحد متصف بالرحمة البالغة الشاملة، فليكن المسلم في هذا العالم الذي يعيش فيه وهو محتاج إليه مثالا للرحمة التي يتصف بها الله، وهو غني عن العالمين.
 
هذه هي مظاهر النزعة الإنسانية في مبادئ حضارتنا وتشريعها حين أُعلنت للناس، فكيف كان واقعها حين حكمت وانتصرت؟ هل ظلت تلك المبادئ ميثاقاً كميثاق حقوق الإنسان في شرعة الأمم تحتفل الدول بذكرى إعلانه يوماً في كل عام، بينما تمتهنه الدول الكبرى في كل ساعة وفي كل يوم وفي كل شهر من شهور السنة؟ .. هل ظلت تلك المبادئ حبيسة في البلد الذي أُعلنت فيه كما احتبست مبادئ الثورة الفرنسية في فرنسا وحرِّمت علي.   مستعمراتها والبلدان الواقعة تحت حكمها أو انتدابها؟ هل نصبت تماثيل جديدة كما نصب تمثال الحرية في نيويورك أول ما يراه القادم إلى تلك الديار، بينما تنطق أعمال أمريكا في خارجها نطقا يلعن الحرية ويهزأ بها ويضطهد عشاقها الأحرار؟ .. لنستمع إلى التاريخ فهو أصدق شاهد، لنستمع إلى روائع النزعة الإنسانية في حضارتنا وكيف أعلنتها حقائق ناطقة في تصرفات أفرادها وحكامها:
تغاضب أبا ذر، وهو عربي من غفار، مع بلال الأسود الحبشي مولى أبي بكر رضي الله عنه وتطور النزاع بينهما إلى أن أخذت أبو ذر الحدة فقال لبلال: يا ابن السوداء! فشكاه بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأبي ذر: (أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية)! فقال أبو ذر وقد ظن الجاهلية هي الانحراف الأخلاقي الشهواني الذي لا يأتيه إلا الشباب: على ساعتي هذه من كبر السن؟ .. قال: نعم، (هم إخوانكم) (١). فندم أبو ذر وتاب حتى أنه أمر بلالا أن يطأه على وجهه مبالغة في التوبة والندم.  وسرقت امرأة من بني مخزوم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وجيء بها إليه لتعاقب، فأهم ذلك قريشا وقالوا: من يشفع لنا عند رسول الله في إسقاط الحد عنها؟ ثم ذكروا أن أسامة بن زيد حبيب إلى قلب الرسول فكلموه في أن يشفع لها عنده، فكلمه بذلك فغضب عليه الصلاة والسلام غضبا شديدا وقال لأسامة: أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام في الناس خطيبا فقال: (إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) 
ولما كان عهد أبي بكر كان مثال الرئيس المتواضع الذي تملأ الإنسانية قلبه ونفسه، فإذا هو وهو خليفة، يأتي لبنات الحي ممن فقدن آباءهن في الحروب فيحلب لهن غنمهن ويقول: أرجو أن لا تغيرني الخلافة عن خُلق كنت أعتاده من قبل.
وكان عمر مثال الخليفة الغيور على الشعب البار بالضعفاء، الشديد في الحق، الناس عنده سواء، بل يحرم نفسه ليعطي الناس، ويجوع ليشبعوا، وكان يتفقد.  الناس في بيوتهم ومنازلهم وقصصه في ذلك مشهورة ومعروفة:
 
رأى مرة في السوق شيخاً كبيراً يسأل الصدقة فقال له: ما أنت يا شيخ؟ قال: أنا شيخ كبير أسأل الجزية والنفقة، وكان يهودياً من سكان المدينة. فإذا بعمر الإنساني العظيم يقول له: ما أنصفناك يا شيخ. أخذنا منك الجزية شاباً ثم ضيعناك شيخاً. وأخذ بيده إلى بيته ففرض له ما كان من طعامه. ثم أرسل إلى خازن بيت المال يقول: إفرض لهذا وأمثاله ما يغنيه ويغني عياله! .. ووضع الجزية عن فقراء أهل الذمة.   ولنستمع إلى ما هو أروع من هذا في تاريخ حضارتنا .. حدث أسلم خادم عمر قال: خرجت مع عمر ليلة وبعدنا عن المدينة ونحن نتفقد أهل المنازل النائية، فبصرنا بنار من بعيد فقال عمر: إني أرى هاهنا ركباناً قصّر بهم الليل والبرد، انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم فإذا بامرأة معها صبيان وقدر منصوبة على نار، وصبيانها يتضاعون (أي يتصايحون ويبكون) فسلّم عمر ثم سأل المرأة ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد، قال وما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع، قال: وأي شيء في القدر؟ ماء أسكتهم به حتى يناموا .. والله بيننا وبين عمر! (تشكو عمر وتدعو عليه) فقال: أي رحمك الله وما يُدري عمر بكم؟ قالت: يتولى أمرنا ثم يغفل عنا؟. فأقبل عليَّ فقال: انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عدلاً من دقيق، وكبة من شحم، وقال: احمله عليّ، قلت: أنا أحمله عنك: قال: أنت تحمل وزري يوم القيامة لا أم لك؟! فحملته عليه، فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئاً، فجعل يقول لها: ذري علي وأنا أحرُّ لك، وجعل ينفخ تحت القدر وكانت لحيته عظيمة، فرأيت الدخان يخرج من خلال لحيته حتى طبخ لهم، ثم أنزلها وقال: أبغني شيئاً، فأتته بصفحة فأفرغها فيها، فجعل يقول لها أطعميهم وأنا أسطح لهم (أبسطه حتى يبرد)، فلم يزل حتى شبعوا، وترك عندها فضل ذلك وقام وقمت معه، فجعلت تقول: جزاك الله خيراً، كنت بهذا الأمر أولى من أمير المؤمنين! فيقول: قولي خيراً، إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك إن شاء الله! ثم تنحى ناحية عنها، ثم استقبلها فربض مربضاً، فقلت له: لك شأن غير هذا؟ فلا يكلمني، حتى رأيت الصبية يصطرعون، ثم ناموا وهدأوا. فقام يحمد الله، ثم أقبل علي فقال: يا أسلم، إن الجوع أسهرهم وأبكاهم، فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما رأيتَ.     ويأتي عمر يوما شابٌ مصري قبطي يحمل شكوى من ابن حاكم مصر، العربي الشريف عمرو بن العاص .. وقد سابق ابنه محمد يوماً، فسبقه القبطي .. فضربه ابن عمرو بن العاص وهو يقول: (أتسبقني وأنا ابن الأكرمين) .. فيستدعي عمر الحاكم وابنه .. ويناول القبطي الدرة ويقول له: (اضرب ابن الأكرمين) .. فيقتص القبطي من ابن حاكم بلده .. ثم يقول عمر: (أدرها على صلعة عمرو .. فما ضربك إلا بسلطان أبيه) .. ثم يلتفت إلى عمرو بن العاص وابنه ويعلنها مدوية خالدة .. (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)؟!
وبعد فليس عمر وحده هو الذي صنعته حضارتنا رجلاً يمثل الإنسانية الكاملة الرحيمة، ففي أبي بكر وفي عثمان وفي علي وفي عمر بن عبد العزيز وفي صلاح الدين وفي غيرهم من علماء حضارتنا وعظمائها وقادتها وعبّادها وفلاسفتها، في كل واحد من هؤلاء مثلٌ خالد على سمو النزعة الإنسانية في حضارتنا الخالدة.   المساواة العنصرية
وهذا جانب آخر من جوانب النزعة الإنسانية في حضارتنا الخالدة، ذلك هو تقرير المساواة حقا بين الناس من غير نظر إلى ألوانهم. فبعد أن أعلن القرآن مبدأ المساواة في قوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (١) وقف الرسول في حجة الوداع ليعلن في خطابه الخالد: (الناس من آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى) (٢) ولم تكن هذه المساواة لتقف عند حدود المبادئ التي تعلن في مناسبات متعددة- كما يقع من زعماء الحضارة الحديثة اليوم- بل كانت مساواة مطبقة تنفذ كأمر عادي.   .لا يلفت نظراً، ولا يحتاج إلى تصنع أو عناء، فقد نفذت في المساجد حيث كان يلتقي فيها الأبيض والأسود علي صعيد واحد من العبودية لله عز وجل والخشوع بين يديه. ولم يكن الأبيض ليجد غضاضة أو حرجا في وقوف الأسود بجانبه. ونفذت في الحج حيث تلتقي عناصر البشرية كلها من بيضاء وملونة على صعيد واحد وبثياب واحدة من غير تميز بين أبيض وأسود أو استعلاء من البيض على السود. بل إننا لنجد ما هو أسمى من هذا، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً الحبشي يوم فتح مكة أن يصعد فوق الكعبة ليؤذن من فوقها ويعلن كلمة الحق، والكعبة هي الحرم المقدس عند العرب في الجاهلية، وهي القبلة المعظمة في الإسلام، فكيف يصعد عليها عبد ملوّن كبلال؟ .. كيف يطؤها بقدميه؟ إن مثل هذا أو قريبا منه لا يتصور في الحضارة الحديثة في أمريكا مثلا، ولكن حضارتنا فعلته قبل أربعة عشر قرنا، فما كان صعود بلال على سطح الكعبة إلا إعلانا لكرامة الإنسان على كل شيء وأن الإنسان يستحق هذه الكرامة لعلمه وعقله وأخلاقه وإيمانه لا لبشرته وبياضه، فما يقدم الإنسان بياضه إذا أخره عمله، ولا يؤخره سواده إذا قدمه ذكاؤه واجتهاده.  التسامح الديني
وهذا جانب جديد من جوانب النزعة الإنسانية في حضارتنا الخالدة، جديد في تاريخ العقائد والأديان، وجديد في تاريخ الحضارات القديمة التي ينشئها دين معين أو أمة معينة.
لقد أنشأ الإسلام حضارتنا فلم يضق ذرعاً بالأديان السابقة، ولم يتعصب دون الآراء والمذاهب المتعددة، بل شعاره {فَبَشِّرْ عِبَادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (١) ومن أجل ذلك كان من مبادئ حضارتنا في التسامح الديني:
١ - أن الأديان السماوية كلها تستقي من معين واحد: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا  .الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (١).
٢ - وأن الأنبياء إخوة لا تفاضل بينهم من حيث الرسالة، وأن على المسلمين أن يؤمنوا بهم جميعاً: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (٢).
٣ - وأن العقيدة لا يمكن الإكراه عليها، بل لابد فيها من الإقناع والرضا {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (٣). {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (٤).
٤ - وأن أماكن العبادة للديانات الإلهية محترمة يجب الدفاع عنها وحمايتها كحماية مساجد المسلمين {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (٥).
٥ - وأن الناس لا ينبغي أن يؤدي اختلافهم في.  .أديانهم إلى أن يقتل بعضهم بعضاً، أو يتعدى بعضهم على بعض، بل يجب أن يتعاونوا على فعل الخير ومكافحة الشر {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (١). أما الفصل بينهم فيما يختلفون فيه فلله وحده هو الذي يحكم بينهم يوم القيامة {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (٢).
٦ - وأن التفاضل بين الناس في الحياة وعند الله بمقدار ما يقدم أحدهم لنفسه وللناس من خير وبر (الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله) (٣). {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (٤).
٧ - وأن الاختلاف في الأديان لا يحول دون البر والصلة والضيافة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ.    وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (١).
٨ - وإن اختلف الناس في أديانهم فلهم أن يجادل بعضهم بعضاً فيها بالحسنى، وفي حدود الأدب والحجة والإقناع: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (٢) ولا تجوز البذاءة مع المخالفين، ولا سب عقائدهم ولو كانوا وثنيين: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (٣).
٩ - فإذا اعتُدي على الأمة في عقيدتها، وجب رد العدوان لحماية العقيدة ودرء الفتنة: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (٤). {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} (٥).
١٠ - فإذا انتصرت الأمة على من اعتدى عليها في الدين، أو أراد سلبها حريتها، فلا يجوز الانتقام منهم بإجبارهم على ترك دينهم، أو اضطهادهم في عقائدهم، وحسبهم أن يعترفوا بسلطان الدولة ويقيموا  .على الإخلاص لها حتى يكون (لهم ما لنا وعليهم ما علينا).
وعلى هذه الأسس قامت حضارتنا، وبها رأت الدنيا لأول مرة ديناً ينشئ حضارة فلا يتعصب على غيره من الأديان، ولا يطرد غير المؤمنين به من مجال العمل الاجتماعي والمنزلة الاجتماعية. وظل هذا التسامح شرعة الحضارة الإسلامية منذ وضع أساسها محمد صلى الله عليه وسلم، حتى أخذت في الانهيار، فضاعت المبادئ، ونسيت الأوامر، وجهل الناس دينهم،. فابتعدوا عن هذا التسامح الديني الكريم.
الواقع العملي يؤيد مبادئ التسامح الديني:
لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وفيها من اليهود عدد كبير، كان من أول ما عمله من شؤون الدولة أن أقام بينه وبينهم ميثاقاً تحترم فيه عقائدهم وتلتزم فيه الدولة بدفع الأذى عنهم، ويكونون مع المسلمين يداً واحدة على من يقصد المدينة بسوء. فطبق بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مبدأ التسامح الديني في البذور الأولى للحضارة الإسلامية.
وكان للرسول جيران من أهل الكتاب، فكان يتعاهدهم ببره ويهديهم الهدايا ويتقبل منهم هداياهم. ولما جاء وفد نصارى الحبشة أنزلهم رسول الله في المسجد، وقام بنفسه على ضيافتهم وخدمتهم، وكان مما قاله يومئذ: إنهم كانوا لأصحابنا مكرِمين فأحب أن أكرمهم بنفسي.
وجاء مرة وفد نصارى نجران فأنزلهم في المسجد وسمح لهم بإقامة صلاتهم فيه، فكانوا يصلون في جانب منه، ورسول الله والمسلمون يصلون في جانب.  آخر. ولما أرادوا أن يناقشوا الرسول في الدفاع عن دينهم، استمع إليهم وجادلهم، كل ذلك برفق وأدب وسماحة خلق.
وعلى هدي الرسول الكريم في تسامحه الديني ذي النزعة الإنسانية الرفيعة سار خلفاؤه من بعده. فإذا بنا نجد عمر بن الخطاب حين يدخل بيت المقدس فاتحاً يجيب سكانها المسيحيين إلى ما اشترطوه: من أن لا يساكنهم فيها يهودي، وتحين صلاة العصر وهو في داخل كنيسة القدس الكبرى، فيأبى أن يصلي فيها كيلا يتخذها المسلمون من بعدُ ذريعة للمطالبة بها واتخاذها مسجداً! ونجده وقد شكت إليه امرأة مسيحية من سكان مصر أن عمرو بن العاص قد أدخل دارها في المسجد كرهاً عنها، فيسأل عمراً عن ذلك فيخبره أن المسلمين كثروا وأصبح المسجد يضيق بهم وفي جواره دار هذه المرأة وقد عرض عليها عمرو ثمن دارها وبالغ في الثمن فلم ترض، مما اضطر عمرو إلى هدم دارها وإدخاله في المسجد، ووضع قيمة الدار في بيت المال.  تأخذه متى شاءت، ومع أن هذا مما تبيحه قوانيننا الحاضرة وهي حالة يعذر فيها عمرو على ما صنع، فإن عمر لم يرض ذلك، وأمر عمراً أن يهدم البناء الجديد من المسجد ويعيد إلى المرأة المسيحية دارها كما كانت!
هذه هي الروح المتسامحة التي سادت المجتمع الذي أظلته حضارتنا بمبادئها فإذا بنا نشهد من ضروب التسامح الديني ما لا نجد له مثيلاً في تاريخ العصور حتى في العصر الحديث!
فمن مظاهر التسامح الديني أن المساجد كانت تجاور الكنائس في ظل حضارتنا الخالدة، وكان رجال الدين في الكنائس يعطون السلطة التامة على رعاياهم في كل شؤونهم الدينية والكنسية، ولا تتدخل الدولة في ذلك، بل إن الدولة كانت تتدخل في حل المشاكل الخلافية بين مذاهبهم وتنصف بعضهم من بعض.   أما حرية رجال الدين في طقوسهم، وإبقاء سلطتهم على رعاياهم دون تدخل الدولة في ذلك، فقد شعر المسيحيون من سكان البلاد بالحرية في ذلك ما لم يشعروا ببعضه في حكم الروم. ولعل أحداً منا لا ينسى موقف السلطان محمد الفاتح حين استولى على القسطنطينية مقر البطريركية الأرثوذكسية في الشرق كله، فقد أعلن يومئذ تأمين سكانها - وكلهم نصارى - على أموالهم وأرواحهم وعقائدهم وصلبانهم وأعفاهم من الجندية، ومنح رؤساءهم سلطة التشريع والفصل في الخصومات التي تقع بين رعاياهم، دون أن تتدخل الدولة فيها! فرأى في ذلك سكان القسطنطينية فرقاً كبيراً بين ما كانوا يعاملون به في عهد البيزنطيين وبين معاملة السلطان محمد الفاتح لهم، إذ كان البيزنطيون يتدخلون في الخلافات المذهبية ويفضلون أتباع كنيستهم على أتباع الكنائس الأخرى.  ومن مظاهر التسامح الديني أن كانت الوظائف تعطى للمستحق الكفء، بقطع النظر عن عقيدته ومذهبه، وبذلك كان الأطباء المسيحيون في العهدين الأموي والعباسي محل الرعاية لدى الخلفاء، وكان لهم.  الإشراف على مدارس الطب في بغداد ودمشق زمنا طويلا. كان ابن أثال الطبيب النصراني طبيب معاوية الخاص، وكان (سرجون) كتابه. وقد عين مروان (اتناسيوس) مع آخر اسمه إسحاق في بعض مناصب الحكومة في مصر، ثم بلغ مرتبة الرئاسة في دواوين الدولة.
ومن أشهر الأطباء الذين كانت لهم الحظوة عن الخلفاء جرجيس بن بختيشوع، وكان مقرباً من الخليفة المنصور واسع الحظوة عنده.   وكان سلمويه بن بنان النصراني طبيب المعتصم، ولما مات جزع عليه المعتصم جزعاً شديداً، وأمر بأن يدفن بالبخور والشموع على طريقة ديانته!
وكان بختيشوع بن جبرائيل طبيب المتوكل وصاحب الحظوة لديه، حتى أنه كان يضاهي الخليفة في اللباس وحسن الحال، وكثرة المال وكمال المروءة.
 
وكذلك كانت الحظوة للشعراء والأدباء لدى الخلفاء والأمراء، بقطع النظر عن أديانهم ومذاهبهم. وكلنا يعلم مكانة الأخطل في العهد الأموي.  وكان الأفراد كالخلفاء يصادقون من تروق لهم مصادقتهم بقطع النظر عن دينهم. كان إبراهيم بن هلال (الصابي) أي من الصائبة - وهم قوم المجوس لهم ديانة خاصة بهم - قد بلغ أرفع مناصب الدولة، وتقلد الأعمال الجليلة في تقدمه الشعراء، وكانت بينه وبين زعماء الأدب والعلم من المسلمين صلات حسنة، وصداقات وشيجة، حتى أنه لما مات رثاه الشريف الرضي شيخ الهاشميين العلويين ونقيبهم بقصائد خالدة.   وكانت الحلقات العلمية في حضرة الخلفاء تجمع بين مختلف العلماء على اختلاف أديانهم ومذاهبهم. كانت للمأمون حلقة علمية يجتمع فيها علماء الديانات والمذاهب كلها، وكان يقول لهم: ابحثوا ما شئتم من العلم من غير أن يستدل كل واحد منكم بكتابه الديني، كيلا تثور بذلك مشاكل طائفية.
ومثل ذلك كانت الحلقات العلمية الشعبية. قال خلف بن المثنى: لقد شهدنا عشرة في البصرة يجتمعون في مجلس لا يُعرف مثلهم في الدنيا علماً ونباهة، وهم الخليل بن أحمد صاحب النحو (وهو سني)، والحميري الشاعر (وهو شيعي)، وصالح بن عبد القدوس (وهو زنديق ثنوي)، وسفيان بن مجامع (وهو خارجي صفري)، وبشّار بن بُرد (وهو شعوبي خليع ماجن)، وحمّاد عجرد (وهو زنديق شعوبي)، وابن رأس الجالوت الشاعر (وهو يهودي)، وابن نظير المتكلم (وهو نصراني)، وعمر بن المؤيد (وهو مجوسي)، وابن سنان الحرّاني الشاعر (وهو صابئي)، كانوا يجتمعون فيتناشدون الأشعار ويتناقلون الأخبار، ويتحدثون في جو من الود لا تكاد تعرف منهم أن بينهم هذا الاختلاف الشديد في ديانتهم ومذاهبهم!
 
ومن مظاهر التسامح الديني في حضارتنا الاشتراك بالأعياد الدينية بمباهجها وزينتها. فمنذ العهد الأموي كانت للنصارى إحتفالاتهم العامة في الشوارع تتقدمها الصُلبان ورجال الدين بألبستهم الكهنوتية. وقد دخلالبطريرك ميخائيل مدينة الإسكندرية في احتفال رائع وبين يديه الشموع والصُلبان والأناجيل، والكهنة يصيحون: قد أرسل الرب إلينا الراعي المأمون الذي هو مرقس الجديد. وكان ذلك في عهد هشام بن عبد الملك.
وجرت العادة أيام الرشيد بأن يخرج النصارى في موكب كبير وبين أيديهم الصليب وكان ذلك في يوم عيد الفصح.
 
ومن الغريب أن مثل هذه المظاهر من الود ظلت حتى في الحروب الصليبية حيث كان الغرب يشن أقسى الحملات التاريخية على بلاد الإسلام باسم الصليب، وهذا هو الرحالة ابن جُبير يقول لنا في رحلته: ومن أعجب ما يحدث أن نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين ونصارى، وربما يلتقي الجمعان منهم ويقع المصاف بينهم، ورفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض. واختلاف القوافل عن مصر إلى دمشق على بلاد الإفرنج غير منقطع، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم، وهي من الأمنة على غاية، وتجار النصارى يؤدون في بلاد المسلمين ضريبة على سلعهم، والاتفاق بينهم الاعتدال، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية والدنيا لمن غلب.
وبعد، التسامح الديني في حضارتنا مما لا يعهد له مثيل في تاريخ العصور الماضية، وقد أجمع.  .  المؤرخون الغربيون ممن يحترمون الحق على هذا التسامح وأشادوا به.
يقول المستر (درابر) الأمريكي المشهور: إن المسلمين الأولين في زمن الخلفاء لم يقتصروا في معاملة أهل العلم من النصارى النسطوريين ومن اليهود على مجرد الاحترام، بل فوضوا إليهم كثيراً من الأعمال الجسام ورقوهم إلى مناصب الدولة، حتى أن هارون الرشيد وضع جميع المدارس تحت مراقبة حنا بن ماسويه، ولم يكن ينظر إلى البلد الذي عاش فيه العالم، ولا إلى الدين الذي ولد فيه، بل لم يكن ينظر إلا إلى مكانته من العلم والمعرفة.
ويقول المؤرخ الشهير المعاصر (ولز) في صدر بحثه عن تعاليم الإسلام: (إنها أسست في العالم تقاليد عظيمة للتعامل العادل الكريم، وإنها لتنفخ في الناس روح الكرم والسماحة، كما أنها إنسانية السمة، ممكنة التنفيذ، فإنها خلقت جماعة إنسانية يقل ما فيها مما يغمر الدنيا من قسوة وظلم اجتماعي عما في أية جماعة أخرى سبقتها .. ) إلى أن يقول عن الإسلام: (إنه مليء بروح الرفق والسماحة والأخوة).  ويقول (رينو) في تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط: (إن المسلمين في مدن الأندلس كانوا يعاملون النصارى بالحسنى، كما أن النصارى كانوا يراعون شعور المسلمين فيختنون أولادهم ولا يأكلون لحم الخنزير).    وإذا كنا قد توسعنا في التدليل على التسامح الديني في حضارتنا، فإنما نريد أن نرد فرية هؤلاء الغربيين المتعصبين على تاريخنا، بأننا كنا قساة أكرهنا الناس على الدخول في ديننا وعاملنا غير المسلمين بكل مذلة واضطهاد. وكان من الخير لهم أن لا يفتحوا على أنفسهم هذا الباب، فإن مخازيهم في التعصب الديني ضد المسلمين في الحروب الصليبية وفي إسبانيا وفي العصر الحاضر مما يطأطؤون منه رؤوسهم حياء وخجلاً، بل إن مخازيهم في اضطهاد بعضهم لبعض مما لا ينكره كل دارس للتاريخ.    
ألست ترى معي أن قول غوستاف لوبون: (إن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب ولا ديناً سمحاً مثل دينهم) هو إنصاف للحق قبل أن يكون إنصافاً للمسلمين؟!.  
 
أخلاقنا الحربية
 
وإليكم جانباً جديداً من جوانب النزعة الإنسانية في حضارتنا، وهو جانب تنفرد به حضارتنا أيضاً. إن حسن الخلق، ولين الجانب، والرحمة بالضعيف، والتسامح مع الجار والقريب، تفعله كل أمة في أوقات السلم مهما أوغلت في الهمجية. ولكن حسن المعاملة في الحرب، ولين الجانب مع الأعداء، والرحمة بالنساء والأطفال والشيوخ، والتسامح مع المغلوبين، لا تستطيع كل أمة أن تفعله، ولا يستطيع كل قائد حربي أن يتصف به. إن رؤية الدم تثير الدم، والعداء يؤجج نيران الحقد والغضب، ونشوة النصر تسكر الفاتحين فتوقعهم في أبشع أنواع التشفي والانتقام، ذلك هو تاريخ الدول قديمها وحديثها، بل هو تاريخ الإنسان منذ سفك قابيل دم أخيه هابيل: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ.    يُتَقَبَّلْ مِنَ الآَخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (١). وهنا يضع التاريخ إكليل الخلود على قادة حضارتنا عسكريين ومدنيين، فاتحين وحاكمين، إذ انفردوا من بين عظماء الحضارات كلها بالإنسانية الرحيمة العادلة في أشد المعارك احتداماً، وفي أوقات الحالات التي تحمل على الانتقام والثأر وسفك الدماء. وأقسم لولا أن التاريخ يتحدث عن هذه المعجزة الفريدة في تاريخ الأخلاق الحربية بصدق لا مجال للشك فيه، لقلت إنها خرافة من الخرافات، وأسطورة لا ظل لها على الأرض!.
جاءت حضارتنا والعالم كله يسير على سنة الغاب. القوى يقتل الضعيف، والمسلّح يسترق الأعزل، والحرب شرعة معترف بها بين جميع الشرائع والديانات والأمم والشعوب، من غير قيدٍ ولا حدّ، ومن غير تفريق بين حرب جائزة وحرب ظالمة، فكل من استطاع أن يغلب أمة على أرضها ويكرهها على عقيدتها، ويسترق رجالها ونساءها، فعل من غير تحرج ولا تأثم. فلم ترضّ حضارتنا أن تقر هذه الشرعة الظالمة التي تردت فيها الإنسانية إلى مستوى الحيوانية الشرسة، بل أعلنت أن الأصل في العلائق بين الأمم التعارف

.والتعاون: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (١) وبذلك كان السلم هو العلاقة الطبيعية بين الشعوب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (٢) فإذا أبت أمة إلا الحرب والعدوان على أمة أخرى، كان على هذه الأمة أن تستعد لمجابهة العدوان، فإن ترك الاستعداد يغري بالعدوان ويسرع به: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (٣). فإذا عدلت تلك الأمة عن نية العدوان ورهبت السلم المسلح، كان على الأخرى أن تركن إلى السلم وتحرص عليه: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (٤). وإن أبت إلا الحرب، فالقوة تدفع القوة، والعدوان يدفع بمثله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} (٥). وهنا تعلن مبادئ حضارتنا تحريم الحروب للغزو ونهب الأموال، وإذلال كرامة الشعوب، إنما الحرب المشروعة ما كانت إلا لغايتين اثنتين:١ - دفاع عن عقيدة الأمة وأخلاقها.

٢ - ودفاع عن حرية الشعب واستقلاله وسلامه، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (١). وليست حرية العقيدة هي المطلوبة للأمة التي تعلن الحرب فحسب، بل عليها أن تضمن حرية العقائد كلها، وتحمي أماكن العبادة لكل الديانات: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (٢). وأروع ما نادت به حضارتنا أن الدفاع عن الضعفاء المستذلين في الشعوب الأخرى واجب علينا كما يجب الدفاع عن حريتنا وكرامتنا: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (٣).
وإذا كانت هذه الغاية من حروب حضارتنا، لم يجز لها حين تعلن الحرب في سبيل الحق والخير أن تنقلب إلى أداة تصنع الباطل والشر. ومن أجل ذلك كان من مبادئ حضارتنا في الحرب أن لا تقاتل إلا من يقاتلها ويعتدي عليها: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}   .     فإذا قامت الحرب كان علينا أن لا ننسى مبادئنا فنقسو ونفسد ونظلم وننشر الخراب والدمار .. كلا .. فالحرب الإنسانية الخالصة لله يجب أن تظل إنسانية في وسائلها وعند اشتداد وطيسها. ومن هنا جاءت الوصايا التي لم يسبق لها في التاريخ: (لا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولاشيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له) (١).
أريت كيف تكون الحرب الإنسانية التي تشرع في سبيل الله لا للشر والعدوان؟ .. وتستمر هذه الحرب متقيدة بهذه المبادئ الإنسانية الرحيمة حتى تنتهي بأحد أمرين: إما الصلح، وإما النصر. أما الصلح فالعهود فيه محترمة، والوفاء بما تضمنته واجب: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ.  .اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} (١). وأما النصر، فهو انتصار الجماعة التي غضبت للحق واستشهدت في سبيله. فلن تفعل حين انتصارها إلا ما يوطد أركان الحق في الأرض، ويمنع البغي والفساد بين الناس: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (٢). وهذا كما ترون تحديد لأعمال الدولة المنتصرة ورسالتها بعد النصر: سمو بالروح، وعدالة في المجتمع وتعاون على الخير ونفع الناس، ومكافحة للشر والفساد في الأرض.
هذه هي مبادئ الحرب في حضارتنا، وتلك هي أخلاقنا الحربية: عدل ورحمة ووفاء.
وليس يكفي هذا في رأينا للإشارة بروح حضارتنا المسالمة في الحرب، فالمبادئ وحدها ليست دليلاً على سمو أمة وإنسانيتها. ولطالما رأينا أمما تحمل للناس أرفع المبادئ وهي تعيش معهم في أقساها وأخسها وأبعدها عن الإنسانية والرحمة!
 
ولنبدأ قبل كل شيء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو رائد حضارتنا وواضع أساسها وشريعتها، وهو التعبير الصادق عن أخلاقها وأهدافها ورسالتها، ولسنا نعلم أحداً من الأنبياء والمرسلين والمصلحين عُذب واضطهد وأوذي في سبيل دعوته كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاثة عشر عاماً في مكة .. كلها كيد وأذى وسب وتعذيب له ولجماعته، ومؤامرات على حياته وحياة أصحابه. وعشر سنوات في المدينة .. هي كفاح ومعارك متواصلة، لم يخلع فيها لباس الحرب إلا حين خضعت له جزيرة العرب قبيل وفاته! ومن خاض الحروب وحمل السيف، وقاتل وقوتل، وعودي واضطهد، كان من أشد الناس شوقاً إلى الدماء وظمأ إلى الانتقام. فكيف كان خلق رسول الله في حروبه؟ كيف طبق صاحب الحضارة مبادئها التي أعلنها للناس؟ ..
 
في معركة أُحد قُتل أسد الله حمزة، عم النبي وأشهر أبطال العرب، قتله رجل يقال له وحشي، بتحريض من هند زوج أبي سفيان. ولما خر البطل، أخذت هند تفتش عن قلب حمزة حتى احتزته، ثم مضغته مبالغة في التشفي والانتقام! ثم أسلمت هند وأسلم وحشي. فماذا كان من رسول الله؟ لم يزد على أن استغفر لهند، وقبل إسلام وحشي وقال له: إن استطعت أن تعيش بعيداً عنا فافعل. هذا كل ما كان من رسول الله مع قاتل عمه حمزة ومع ماضغة قلبه!
ورأى في بعض حروبه امرأة من الأعداء مقتولة، فغضب وأنكر وقال: ألم أنهكم عن قتل النساء؟ ما كانت هذه لتقاتل. هذا هو رسول الله المحارب يطبق مبادئه الإنسانية وهو يخوض الغمار ويقود الكتائب. ولما فتح مكة ودخلها الرسول ظافراً على رأس عشرة آلاف من أبطاله وجنوده، واستسلمت قريش، ووقفت تحت قدميه على باب الكعبة، تنتظر حكم الرسول عليها بعد أن قاومته إحدى وعشرين سنة .. ما زاد صلى الله عليه وسلم على أن قال: يا معشر قريش: ماذا تظنون أني فاعل بكم؟
قالوا خيراً: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: اليوم أقول لكم ما قال أخي يوسف من قبل: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. إذهبوا فأنتم الطلقاء .. إنه أيها الناس محمد الرسول معلم الإنسانية الخير، لا القائد السفاح الذي يسعى لمجده وسلطانه فتسكره نشوة النصر.
وسيرة أصحابه وخلفائه من بعده في حروبهم وفتوحاتهم كانت قبساً من هذا النور، وسيراً في هذا الطريق، وتنفيذاً لتلك المبادئ، لم يفقدوا أعصابهم في أشد الأوقات حرجاً، ولم ينسوا مبادئهم في أعظم الفتوحات انتصاراً.
ثار بعض سكان لبنان على عاملها علي بن عبد الله بن عباس، فحاربهم وانتصر عليهم، ورأى من الحكمة أن يفرقهم ويجلي فريقاً منهم عن ديارهم إلى أماكن.   

Viewing all articles
Browse latest Browse all 560

Trending Articles