إنه الموز. لم يجد الروائي غابرييل غارسيا ماركيز أفضل من سحر مذاقه وفتنة رائحته سبباً لاجتياح رجال الأعمال الغربيين ب "ماكوندو"السحرية. وفي روايته ذائعة الصيت "مئة عام من العزلة"، بدت "ماكوندو"وحقول موزها، أقرب إلى أيقونة أسطورية لأميركا الجنوبية وجمهوريات الموز المسيطر عليها أميركياً.
إنه الموز أيضاً. يذهب اللاعبون إلى مونديال البرازيل في ظل تناقضات مثقلة بدلالات التاريخ. إذ بات بعيداً زمن الاستعمار الكولونيالي الأوروبي الذي أباد حضارات شعوب قارة أميركا الجنوبيّة كـ"المايا"والـ"آزتيك". المفارقة أن أوروبا تستورد لاعبي تلك القارة، بل تدفع لهم بسخاء، وتعتبرهم الرموز المتألقة في دورياتها. هل إنهم بديل الثروات المجلوبة من بلدان القارة التي افتتحها كريستوفر كولومبوس؟ هل أنهم يشكّلون "موزاً"معاصراً؟
في مباراة بين ناديي "برشلونة"و"فياريال"، ألقى مشجع إسباني موزة على اللاعب البرازيلي دانيال آلفيش (من برشلونة). كانت الدلالة واضحة: لستم سوى قردة من أميركا اللاتينية. تحدّى آلفيش عنصرية المشجّع فوراً. إذ التقط الموزة وأكلها أمام الجمهور فوراً. ثارت ضجة كبرى عن عنصرية أوروبيّة واضحة تجاه اللاعبين الأميركيين الجنوبيين، بل تجاه كل لاعبي العالم الثالث ومن يملكون سحنة سود العالم الثالث، حتى لو كانوا أوروبيي الجنسية، كما يحدث مع اللاعب الإيطالي الأسمر فرانكو بالوتيلي.
في المقابل، اندفعت ثقافة أوروبية عقلانية لتقاوم العنصرية. ولم يتردّد رئيس وزراء إيطاليا عن الظهور أمام الكاميرات مع مدرّب المنتخب الوطني وهما يأكلان الموز، رفضاً لتلك العنصرية.
موت "أسطورة الفقراء"
إنه المونديال الأول لزمن "اللعب المالي النظيف". إذ اندفع ذلك الشعار خلال السنتين الأخيرتين، احتجاجاً على اجتياح الأموال لتلك اللعبة. بمعانٍ كثيرة، حافظت كرة القدم على أسطورة اللاعب القادم من أحياء الفقر في العالم الثالث (أميركا الجنوبية، أفريقيا...)، ليصير أسطورة تقتحم العالم الغني، وترتفع بنفسها ومواطنها. في ذلك النسيج، صنعت أساطير لاعبي البرازيل. جاء بيليه من الفقر. جاء غارينشا ليركض إلى الكأس الذهبية في المجر برجلين مقوّستين من الفقر إلى الحليب في الطفولة. جاء ديديه دروغبا من بيوت قبائل ساحل العاج المعجونة بالفقر والحروب.
لكن الكرة باتت مثقلة بالأموال. تشهد الالتباسات المتّصلة باستضافة بلدين غنيين بالنفط والغاز، هما روسيا وقطر، على كثافة حضور الأموال في الكرة. إنه المونديال الأول الذي يأتي تحت ظلال فضائح المال في استضافة المونديال. ويعرف الجمهور على امتداد العالم أن الأموال صارت تسيطر على تلك اللعبة.
من المستطاع إعطاء ما لا نهاية له من الأمثلة، لكن القارئ ربما يعرف أكثر مما يقال له. مثلاً، تقدّر شركة "ماستر كارد"أن "مونديال البرازيل"يضيف إلى اقتصاديات الدول الـ32 المشاركة فيه، قرابة 213 مليون دولار خلال أيام المنافسة!
وتقدّر القيمة المالية الكلية للاعب الأرجنتيني في برشلونة ليونيل ميسي، بما فيها مردودات الإعلانات والمناسبات الاحتفالية، بقرابة 400 مليون يورو. ونقلت صحيفة "سبورت"الإسبانية عن رئيس نادي "برشلونة"ساندرو روزيل، أن ميسي يكلّف أي نادٍ يسعى لشرائه قرابة 580 مليون يورو. ولم تنكشف حتى الآن الأبعاد الكاملة للفضائح المالية التي رافقت انتقال اللاعب البرازيلي نيمار دا سيلفا إلى برشلونة. وساهمت ملايين الدولارات من الضرائب التي امتنع ميسي عن دفعها، في النيل من صورة ذلك اللاعب.
وليس مبلغ 102 مليون يورو الذي ناله غاريث بايل لقاء انتقاله إلى "ريال مدريد"سوى جزء من إجمالي الصفقة. فيما بلغت قيمة انتقال كريستيانو رونالدو من "مانشستر"إلى "ريال مدريد"في 2009 قرابة 132 مليون دولاراً. يقدّر أن 9 نوادٍ فقط تستطيع شراء رونالدو هي: برشلونة (اسبانيا)، آنزي ماكهاشكالا (داغستان- روسيا)، زينيت بطرسبرغ (روسيا)، تشيلسي ومانشستر سيتي ومانشستر يونايتد (انكلترا)، شنغهاي شينوا (الصين)، باريس سان جيرمان (فرنسا).
الأرجُل المهاجرة تساهم في العولمة
في سياق رصد نخبة "الأرجل"المهاجرة، يلاحظ "مركز بيو"للبحوث المتّصلة بالحياة اليومية، وجود 736 لاعباً من منتخبات وطنية تتنافس في "مونديال البرازيل"، يلعبون في منافسات الدوري في 53 دولة. ومع الأهمية التي تمثّلها الدوريات الأوروبية، وهي باتت معولمة في جمهورها البصري المتلفز، تجتذب "القارة العجوز"معظم تلك النخبة المهاجرة، وهي من دلالات العولمة في كرة القدم، وتلعب دوراً في الطابع المعولم للدوريات الأوروبية. وتضمّ أندية دوريات الدرجة الأولى في أوروبا، 515 لاعباً مهاجراً من البرازيل، و269 فرنسياً يلعبون خارج بلاد الغال، و205 لاعباً من صربيا، و188 لاعباً من البرازيل، و117 لاعباً من نيجيريا.
ويظهر البُعد المعولم للكرة الأوروبية في صورة أخرى تجسّدها أعداد اللاعبين في أندية أوروبية كما يشاركون في منتخبات بلادهم. إذ يضمّ منتخب البرازيل 19 لاعباً يلعبون في أوروبا، والأرجنتين 20 لاعباً، والتشيلي 18 لاعباً، والولايات المتحدة 14 لاعباً، وبلجيكا 20 لاعباً، وفرنسا 15 لاعباً، البرتغال 15 لاعباً، والجزائر... 21 لاعباً! ثمة تفرّد جزائري في أن المنتخب لا يضمّ سوى اثنين من اللاعبين المحليين. والأرجح أن ذلك البعد المعولم للكرة الجزائرية ساهم في وصولها الى المونديال، بل إنها الممثل الوحيد للدول العربية فيه.
في وجه آخر من الصورة عينها، يعيش فقراء أميركا الجنوبيّة أحلاماً تعويضية شتى، أبرزها الهجرة إلى بلاد الحلم الأميركي، وليس أقل منها التألق في أندية أوروبا للخروج من الفقر.
الأرجح أن اللاعب دييغو كوستا، وهو مهاجم نادي "أتلتيكو مدريد"يمثّل تلك المفارقة الكثيفة. ويعيش اللاعب البرازيلي الحلم الأوروبي. وعندما حاول الاستمرار في الانسجام مع الحلم، بمعنى المصالحة بين هويته البرازيلية وحياته اليومية في أوروبا، استيقظ بقسوة على واقع أن البرازيل ترفضه. ولم يجد صعوبة في الانتقال الى الهوية البديلة، فصار لاعباً في المنتخب الإسباني! بالنسبة لمن يصرّون على الخوض في كثافة صراعات الهوية، يبدو بؤساً أن يلحق المرء هزيمة ببلده لمصلحة الاستعمار الدموي القديم. لكن نقاشاً من هذا النوع لا مكان له في المجتمعات المعاصرة، على الأقل ليس في أوروبا ولا أميركا اللاتينية أيضاً. والأرجح أن البرازيل الصاعدة اقتصادياً تفكر بأوروبا بطريقة أكثر تحرّراً من ذلك النقاش المضني عن إمساك من في قبور التاريخ بتلابيب من يركضون في ملاعب الحاضر، في اقتباس معدّل عن قول شهير لكارل ماركس.
بتخفف من ذلك النقاش، يركض دييغو كوستا لابساً قميص المنتخب الإسباني، في "بلاده": البرازيل.
استطراداً، في منحى تلك الخفة في صراع الهويات والدول، على رغم استمرار حضورها، تظهر كلمات أغنية محمد عسّاف "قوي قلبك شوط"كأنها باقية في ذاكرة قديمة. "خلي علمك يعلى أكتر/ وبلادك باسمك بتكبر/ شعبك جنبك، عايش لعبك/ هيدي حربك.. خلي الملعب، متل بلادك". بطريقة مباشرة، تصف الصراع الرمزي بين الدول في ملاعب كرة القدم، بل أن عسّاف يؤدي حركة مستوحاة من الرقص الذكوري بالسيف، لكنه يحمل خليوياً في يده، فالعولمة مقتحمة لذلك المشهد.
يصحّ القول إن أغنية عسّاف، هي الأولى التي تكرّس للمونديال في الغناء العربي، مع ملاحظة أن لصباح أغنية خفيفة "بين الأهلي والزمالك محتارة والله"عن الكرة، لكنها لم تكن للمونديال، كما لم تصنع لتغنّى فيه، كحال أغنية عسّاف.
في المقابل، تنسى كلمات أغنية عسّاف أن العولمة والتفاعل بين الشعوب سكب كثيراً من الماء في كأس مرارات الصراع بين الهويّات، التي تندلق تكراراً في كل مونديال.
وللحديث بقية.