الواقع أن القرار بقانون لتأميم قناة السويس كان مرتجلا ومكتوبا بطريقة ساذجة ومنقوصة الحرفية. ورغم أن الرئيس جمال عبد الناصر قد قرأه على الملأ فى خطابه الشهير إلا أن النص الكامل على ما يبدو لم يتح للكثيرين بسبب ضجة الجمهور والصخب الإعلامى الذى صاحب هذا الحدث فلم يتنبه كثيرون إلى بحث نصوصه.
والمادة الأولى والثانية تنصان على تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس وتصبح ملكا للدولة ويتم تعويض حملة الأسهم فور تسلم الدولة لأصول وممتلكات الشركة المؤممة بواقع سعر الاسهم فى البورصة اليوم السابق على القانون مع نقل كافة أموالها وحقوقها وإلتزاماتها إلى هيئة مستقلة لها الشخصية القانونية وتلحق على وزارة التجارة. وتحل جميع الهيئات والمنظمات القائمة حاليا على إدارة القناة.
والمادة الثالثة تنص على تجميد كل أصول وأموال الشركة فى الداخل والخارج ومنع البنوك من التصرف فى أى من أموال الشركة إلا بإذن من الهيئة السابق بيانها فى المادة الثانية. والواقع أن نصا كهذا لم يمكن تنفيذه بسهولة حيث أن الحكومة المصرية قد إضطرت للتنازل عن جميع أصول الشركة خارج مصر كجزء من التعويضات السخية التى قامت بدفعها للمساهمين.
والمادة الرابعة من ذلك القانون جاءت بقاعدة غريبة فى بابها حيث نصت على أن تحتفظ الهيئة بجميع الموظفين والعمال مع إستمرارهم جميعا فى أداء واجباتهم ولا يسمح لأى منهم بمغادرة محل عمله إلا بإذن من الهيئة المذكورة فى المادة الثانية. وهذا الشرط أيضا يصعب تنفيذه إن لم يكن مستحيلا. فالعمل هو من الأنشطة الإختيارية للإنسان ولا يمكن إجبار أحد على أن يعمل ولا منعه من مغادرة محل عمله. والقناة كان بها كثير جدا من العاملين الأجانب وهؤلاء لا يمكن منعهم من مغادرة محل عملهم بالقوة.
ثم جاءت المادة الخامسة بقمة الإرتجال والسذاجة حيث نصت على معاقبة كل من يخالف أحكام المادة الرابعة والخاصة بالعاملين بعقوبة السجن مع حرمانه من أى حق فى التعويض أو المعاش..
وقصة الحرمان من المعاش والتعويض هى نص غالبا تم نقله من قانون الغدر الفاشى الذى أصدرته الثورة فى نهاية عام 1952 حيث نص على عقوبتى الحرمان من العمل الحر والحرمان من المعاش، وكلاهما من الحقوق المكفولة بالدستور والقانون. فالمعاش حق لمن قام بدفع أقساطه طيلة سنوات سريان العقد ولا يمكن حرمان صاحبه منه. والعمل الحر حق دستورى لا يحرم منه أحد..
على أن أمر التأميم لم ينته عند هذا الحد.. فبينما كانت الجماهير منتشية بخمر الإنتصار الهائل على قوى الإستعمار كانت الحكومة المصرية تتفاوض على طبيعة وقدر التعويضات التى سوف تدفع لحملة الأسهم على حسب مقتضى القرار بقانون كما أعلنه الرئيس عبد الناصر فى تلك الأمسية الهادرة.
كانت شركة قناة السويس العالمية تمتلك أصولا وأموالا ليس فقط فى داخل مصر ولكن فى خارجها. وكان على التفاوض بالطبع أن يحل كيفية وصول مصر إلى هذه الاصول. والحقيقة أن الوصول إليها لم يكن سهلا حيث أن الشركة كانت تمارس أنشطة متعددة فى أوروبا لا علاقة لها بالقناة منها على سبيل المثال توليد الكهرباء فى محطات بفرنسا. كما أن الحكومة البريطانية كانت تملك أكثر قليلا من 44% من أسهم شركة قناة السويس وهو ما جعل هذه الحكومة البريطانية برئاسة أنتونى إيدن تدخل طرفا مباشرا فى نزاع عسكرى دارت رحاه على أرض مصر بسبب التأميم. وعلى ذلك كان من غير الممكن عمليا أن تحوز مصر أيا من تلك الأصول خارجها حيث أن حكومة بريطانيا منعت البنوك من التصرف فى تلك الأموال بالإضافة إلي تجميد جميع أرصدة مصر فى بريطانيا وفرنسا ومنع التصرف فيها إلا بأوامر الحكومات (تماما كما فعلت الحكومات الغربية مع الأرصدة العراقية بعد ذلك خلال أزمة إحتلال الكويت) .. وهكذا يبدو أن الحل العملى كان فى التنازل من جانب مصر عن تلك الأصول. وليس لدى علم بقيمة تلك الأصول وعلى أى حال فلابد أن قيمتها قد أدخلت فى التسوية النهائية لقضية التعويضات. وقضية التعويضات التى دفعت عن التأميم قضية كان عليها نوع من التعتيم الإعلامى حتى أننى أول مرة أسمع عنها فى حياتى كانت فى نهاية السبعينات على لسان الرئيس المرحوم أنور السادات فى أحد أحاديثه مع المذيعة همت مصطفى، أى بعد ربع قرن من التأميم، حيث ذكر شيئا عن هيئة المنتفعين (يقصد حملة الأسهم) ومفاوضات دارت فى لندن إلخ.. وفى النهاية فقد تم الإتفاق على أن تدفع مصر للمساهمين مبلغ 23 مليون جنيه مصرى على ستة أقساط تبدأ فى يناير 1959 وتنتهى فى يناير 1964 وقيمة كل قسط منها 4 مليون جنيه عدا القسط الأخير.. وقد يبدو هذا الرقم تافها من منظور يومنا هذا ولكنه فى ذلك الزمان كان مبلغا هائلا من المال. ولبيان قدر هذا المبلغ يكفى أن نعلم أن التمويل الأمريكى البريطانى لمشروع السد العالى الذى بسببه وقع التأميم كان متفقا على أن يبلغ 70 مليون دولار أمريكى أى 24.4 مليون جنيه مصرى بأسعار ذلك الزمان حين كان الدولار الأمريكى يعادل أقل من 35 قرشا، وهو تقريبا نفس القدر الذى دفعته مصر تعويضا لحملة الأسهم. على أن مصر قد تحملت، بالإضافة إلى الخسائر البشرية، تكاليف تدمير جيشها بالكامل ومدينة بورسعيد وبعض منشآت البنية التحتية فى حرب أعقبت التأميم بثلاثة شهور ولم تتقاض عن خسائرها فى تلك الحرب التى لم تشعلها أى تعويضات. أى أن مصر لم تحصل على 24 مليون جنيه من البنك الدولى بل دفعت 23 مليون جنيه وتكاليف حرب لكى تحصل على كامل منشأ قناة السويس مبكرا عن موعد حصولها الطبيعى عليه بأحد عشر عاما. والرأى عندى كان هو الإقتراض بضمان العوائد المستقبلية التى سوف تحصل عليها مصر بمجرد نقل الملكية عام 1968 حين تصبح القناة ملكية خالصة للدولة المصرية بمقتضى عقد الإمتياز الذى كان محددا له 99 عاما فى مقابل تجنيب مصر خسائر الحرب التى وقعت. والصين الشعبية التى لا تستطيع أى قوة على الأرض أن تناصبها العداء المفتوح بسبب كثافتها السكانية الهائلة وتعدادها الكبير وقدرتها على ممارسة حرب الإستنزاف لسنين طويلة لم تحصل على هونج كونج بطريق الإجراءات العنيفة الغير متوقعة وإنما حصلت عليها عن طريق التفاوض السلمى الذى تم بين مارجريت ثاتشر ودنج شياو بنج زعيم الصين فى عام 1986 والذى نتجت عنه إتفاقية الجلاء بسلام عن هونج كونج بعد ذلك بأحد عشر عاما فى عام 1997 بلا حروب وبلا خسائر من أى نوع. كل ذلك رغم أن هونج كونج لم تكن محلا لعقد إمتياز ولا كان لها مدى زمنى تنتهى فيه أحقية إنجلترا فى حيازتها.
والواقع أن الرئيس عبد الناصر قد دخل فى مخاطرة غير محسوبة بقرار التأميم حيث أن ذلك قد جر على البلاد حربا لا مبرر لها. لأنه حتى وإن كانت مصر سوف تدخل تحكيما ضد إنجلترا فى عام 1968 عند تسليم القناة فإن التحكيم لا يعنى تغييرا فى الحالة السيادية قد ينشأ عنه تدهورا للوضع السيادى المصرى. فالتحكيم كان سوف يجرى بين الدولة المصرية وشركة تجارية بصفتها هذه وليس بين الدولة المصرية والدولة البريطانية. صحيح أن الدولة البريطانية تملك نصيب الأسد من الأسهم ولكنها تملكه بصفتها مستثمر وليس بصفتها صاحبة سيادة. وهذه النقطة بالذات كانت محلا لمركز تفاوضى قوى فى جانب مصر. أى أن التفاوض كان سيتم على قدر من المال فقط للتعويض وليس حول شروط سيادية أو سياسية جديدة. وفى التاريخ الحديث وأثناء مفاوضات الوحدة الألمانية عام 1990 أثار وزير الخارجية البريطانى فى المفاوضات نقطة حق إنجلترا فى إجراء مناورات وتدريبات لقواتها فى أى وقت تراه وذلك على أرض ألمانيا الموحدة فكادت هذه النقطة أن تنهى المفاوضات بالفشل. ولكن جورج بوش الأب كان قد حدد موقعه ورغبته بأن تتم الوحدة وتصبح ألمانيا دولة ذات سيادة فطلب من ثاتشر أن تسحب طلب وزيرها ففعلت بالطبع. والمقصود هو أن بريطانيا تحاول دائما – حتى وهى فى وضع القوة المتوسطة وليس حتى الكبرى – أن تحصل لنفسها على ما هو ليس من حقها. والتحكيم بين مصر وملاك الأسهم (على رأسهم بريطانيا) كان ربما سيقع أرخص مما وقع للبلاد من خسائر بفعل حرب لا لزوم لها. ولكننى أظن أن ماتم كان شبه مقصود من جانب إدارة الرئيس آيزنهاور لكى تنتهى الحقبة الإستعمارية البريطانية والفرنسية إلى غير رجعة حيث أن فكرة وكنه الإستعمار كان شوكة فى جانب إدارة أمريكية تريد مكافحة الشيوعية فى كل مكان على الأرض من خلال التعاون مع "أمم حرة"كما أسلفت. وهكذا فإن الرئيس آيزنهاور صرخ فى المعارضين من أعضاء الكونجرس أثناء أزمة القناة بأن "إصمتوا فلدى خطة"أى أنه كان يعرف ماذا يفعل بتأييد مصر ضد الغزو.
↧
قناة السويس (الجزء الأخير)
↧