هذه الكلمة لها أصل لاتينى وعند الكشف عنها وجدت أنها ذات أصل إغريقى وتعنى بالضبط "المرابى"أى الشخص الذى يتقاضى أجرة عن إقراض المال للآخرين. وتكتسب هذه الكلمة أهميتها فى عالم اليوم من واقع أن النظام المصرفى الدولى قائم على الإقراض بالفوائد. بل أن النظام النقدى للدول ذات السيادة ينهض أيضا على أساس من تلك السياسة التمويلية بالإقراض والإقتراض والفائدة، أى أن كل إنسان يعيش على سطح هذا الكوكب هو بالتعريف دائن ومديون فى نفس الوقت، حتى وإن لم تكن له مع البنوك أية تعاملات مباشرة..
ونظرا لتمكن هذه الظاهرة من حياة البشر فى عصرنا هذا فقد سمى البعض فى ألمانيا هذا العصر بأنه عصر ال DANISTAKRATIEأى حكم المرابين ومؤجرى المال، ولست أدرى إن كان لهذه الكلمة الألمانية مرادف فى اللغة الإنجليزية.
يتكون النظام النقدى فى كل دول العالم من مجموعة من البنوك التى هى فى الغالب شركات مساهمة أصبحت على قدر عال من الثراء بفعل عاملين مهمين: الأول هو إمتلاكها لكثير من الأصول فى كل عناصر الإقتصاد الوطنى من صناعة وتجارة وزراعة وخدمات، والثانى هو إحتفاظها بمدخرات عدد كبير للغاية من أفراد الشعب.. وهذه المجموعة من البنوك هى التى تهيىء المناخ العام للبنك المركزى لكى يقوم بعمله، أى أن الأخير يعتمد على ما تمارسه هذه البنوك من أعمال كأرضية لعمله. والبنوك المركزية هى فى الحقيقة كائن غريب فى تكوينه القانونى، فهى فى الأصل تتكون أيضا من مجموعة من رجال البنوك الموجودة بالفعل ثم تحصل من الدولة على حق إمتياز إصدار عملة هى الوسيلة الوحيدة للإبراء ولاقتضاء الديون والمدفوعات ولها قابلية لدى كل من يعيش على أرض هذه الدولة بحيث أنه من غير المسموح به رفضها.. وفى مصر كان هذا الإحتكار من نصيب البنك الأهلى المصرى الذى صدر قرار بقسمته إلى جزئين سمى أحدهما البنك المركزى المصرى وظل الآخر محتفظا بإسم البنك الأهلى المصرى.. وفى حالة بنك أوف إنجلاند لم تكن هذه المؤسسة خاضعة للدولة ولا علاقة لها بها، بل كانت مجموعة من التجار والمرابين إقتطعوا من الملك وليام الثالث إمتياز إصدار أوراق مالية باسم البنك الذى أسسوه وهو بنك أوف إنجلاند..
وفي فرنسا كان رجال البنوك هم من قام بتمويل إرتقاء نابليون بونابرته إلى الحكم حيث أنهم توسموا فيه القدرة على إنهاء حالة الفوضي فى البلاد، وفي مقابل ذلك أصدر هو بمجرد توليه الحكم قانون إنشاء بنك فرنسا عام 1800 ومنحه حق إصدار العملة الورقية المقبولة فى جميع أنحاء البلاد.
ومجلس الإحتياط الفيدرالى فى أمريكا ليس إستثناءا لهذا العرف السائد فقد صدر به قانون عام 1913 ينشئه من أشخاص كلهم من العاملين فى القطاع البنكى الخاص وتم منحهم إمتياز إصدار أوراق النقد للولايات المتحدة..
وفى الأيام البعيدة الماضية عندما كنا أطفالا كانت العملة المصرية ذات طبيعة سندية حيث كتب عليها: "أتعهد عند الطلب بدفع مبلغ كذا جنيه لحامل هذا السند"أى أنه كان من الممكن إستبدال هذا السند المالى مثلما كان الحال فى أمريكا.. فقد كانت أمريكا حتى عام 1971 تضمن تسليم حامل الأوراق النقدية كمية من الذهب تعادل الرقم المكتوب على السند.. وكان ذلك هو أساس إختيار(أو إجبار) بقية دول العالم على إعتبار الدولار الأمريكى العملة العالمية المقبولة فى كل مكان بمقتضى إتفاقية بريتون وودز الموقعة عام 1944 قبل نهاية الحرب والتى وقعت عليها مصر فى حينها بوفد سافر إلى هناك وحضر المفاوضات.
لكن السيد/ ريتشارد نيكسون الرئيس الأمريكى أعلن فى أغسطس عام 1971 أن الإلتزام الأمريكى بتحويل الدولار الورقى إلى كمية من الذهب لم يعد قائما وهو ما يعنى أن حامل الدولار لم يعد فى مكنته تبديله على مقتضى الإتفاقية الدولية، وهذا يعد فسخا من جانب واحد لهذه الإتفاقية.. وبالطبع فإن سبب هذا الإجراء كان التخلص من عبء عالمى فى ظل تدهور واضح لسعر صرف الدولار فى مقابل الذهب مما كان من الممكن أن يتسبب فى إفلاس الخزانة الأمريكية.. ولكن أين كانت تقع المصلحة الأمريكية فى الدخول فى إلتزام كهذا؟
الواقع أن إتفاقية بريتون وودز هذه من الإتفاقيات المعقدة التى يحتاج فهمها إلى وقت طويل. ولكن العلامة المميزة لهذه الإتفاقية هى إلتزام الدول بالحفاظ على حدود لعلاقة عملتها بالدولار الأمريكى حتى يحتفظ هذا بوضع العملة العالمية المقبولة.. وفى مقابل ذلك كانت الولايات المتحدة تتعهد بالتبديل عند الطلب..
إلا أن نمو إقتصاديات الدول المهزومة فى الحرب وهى ألمانيا واليابان جعل من بضائعها مغناطيس للعملاء الأجانب وباتلتالى تدفقت على هذين البلدين أموال غزيرة معظمها بالدولار المقبول عالميا مما جعل كمية النقد المحلى لديها قليل بالنسبة لكمية الدولار وبتطبيق قواعد العرض والطلب هبط سعر الدولار أمام هاتين العملتين بالذات. ولما تذرعت الولايات المتحدة بالإتفاقية وطالبت من ألمانيا الغربية أن تتدخل لحماية الدولار ورفع سعره فعلت ألمانيا الغربية ذلك عدة مرات لكنها فى النهاية رفضت المزيد من الإجراءات الحمائية وتركت الدولار لكى يهبط سعره بطريقة سريعة وغير مسبوقة وقد كان ذلك فى أبريل ومايو 1971 ولا أزال أذكر غلاف مجلة نيوزويك مرسوما عليه عديد من العملات وسهم كبير يهبط إلى أسفل وفى آخره الدولار الأمريكى.
المهم أن الدولار أثبت عدم جدواه كعملة عالمية لوقت طويل وبدأ العالم يرى أن الإعتماد عليه أمر محفوف بالمخاطر.. وتقع المصلحة الأمريكية بالطبع فى إعتبار الدولار عملة قياس كل السلع الإستراتيجية كالقمح والبترول والذهب والسلاح فى حماية الإقتصاد الأمريكى من تقلبات السوق.. ولكن الميزة الأكبر هى فى قبول سندات الخزانة الأمريكية فى كل دول العالم كمرفأ آمن للإستثمار حيث أن الخزانة الأمريكية لا تفلس إلا إن قام يوم الحساب.. وبما أن المخاطرة فى هذه الحالة هى أقل مخاطرة ممكنة بسبب الثبات المفترض للخزانة الأمريكية فإن سعر فائدة الإقراض، وهو إقراض من العالم كله للولايات المتحدة، فإن هذا السعر يقع زهيدا وبالتالى تحصل الولايات المتحدة على قروض منخفضة الفائدة خلافا لكل الدول الأخرى التى تحصل على قروض بشروط أصعب بسبب زيادة نسبة المخاطرة فى هذه الحالة عن نسبة المخاطرة (شبه المعدومة) فى حالة إقراض أمريكا.. وبهذه المناسبة قامت فى أمريكا أيضا شركات مكونة من أفراد من القطاع الخاص نصبوا من أنفسهم حكاما على السوق العالمى وأنشطته بلا إستثناء وذلك عن طريق إصدار تقييمات لكل منشآت العالم الإقتصادية بما فى ذلك الدول ذات السيادة بل والولايات والمقاطعات فى كثير من دول العالم طالما أن لها شخصية قانونية ويمكن إقراضها بصفتها هذه.. وهذه الشركات الثلاث هى ستاندارد آند بور وفيتش ومودى ولا يوجد هذا النشاط التقييمى خارج الولايات المتحدة !!!
أى أن أسهل الحلول على المستثمر أصبح بمقتضى إتفاقية بريتون وودز هو نقل الأموال من العالم بأسره إلى الولايات المتحدة مع الإكتفاء بسعر فائدة بسيط وكذلك الإعتماد فى إجراء التقييم الإقتصادى لكل العالم على شركات أمريكية خالصة تبدى ما يحلو لها من آراء !!! وفى الوقت الذى تقترض فيه الولايات المتحدة بسعر فائدة زهيد كما أسلفت تعود فتقرض الدول المختلفة بسعر مرتفع يتحدد على ضوء تقييم الشركات المذكورة لاقتصاديات تلك الدول بمعنى أن أموال المقرضين تعود إليهم ولكن بسعر فائدة أعلى عليهم هم فقط !!
والسندات التى يصدرها كل بلد يتم بيعها أولا إلى البنوك العاملة فى هذا البلد ثم تعيد البنوك بيعها إلى العملاء سواء كانوا أشخاصا أو دولا.. وفى جميع الحالات تكسب البنوك العاملة فى أمريكا من ذلك مكاسب هائلة لأن العمولة حتى ولو كانت بسيطة للغاية فهى تنتج مبالغ هائلة بسبب كبر حجم التعاملات..
أى أن مجلس الإحتياط الفيدرالى أصبح يقوم بمهمة البنك التجارى الربوى، DANISTAمن جديد..
بل أكثر من ذلك، فقد كان مجلس الإحتياط الفيدرالى يقوم بحركة بارعة لا تتسنى إلا له وحده بسبب تراكم كميات النقود المتوافرة لديه من كل العالم، فقد كان يبيع لليابان مثلا فيما مضى أو للصين حديثا كميات هائلة من الدولارات الرخيصة على صورة تلك السندات بينما يكون سعر الدولار منخفضا أمام الين ويقوم بعد ذلك بسحب كميات هائلة من الدولارات يرفع بها سعره فى مواجهة الين ، وذلك قبل نهاية المدة المحددة لرد قيمة القرض على صورة سندات، بحيث يرد القرض بدولار قوى ويكسب من الفرق.. وبديهى أن تلك الألعاب لا يمكن أن يمارسها سوى من توافرت لديه كميات هائلة من الإعتمادات وله عملة مقبولة فى كل العالم..
ولعل هذا هو سبب قلق الأمريكيين من الصين التى توافر لها العنصر الأول فأصبحت صاحبة أكبر إحتياطى نقدى على وجه الأرض، إلا أن هذا الإحتياطى النقدى مودع فى جزء كبير منه على صورة سندات خزانة أمريكية وبذلك تصبح الصين من كبار دائنى الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى الجانب الآخر فإن أمريكا تفتح أبوابها لمنتجات الصين لتغرق بها أسواق أمريكا ويتكرر معها النموذج الألمانى واليابانى وترتفع عملتها فى مواجهة الدولار بحيث يتباطأ إقتصادها بسبب قلة الطلب على منتجات زاد سعرها عالميا بسبب إرتفاع سعر عملة إنتاجها.. ذلك أن طلب أمريكا العزيز على قلبها منذ سنوات عديدة هو إعادة تقييم اليوان الصينى ليرتفع ويصبح ممثلا للقوة الحقيقية للإقتصاد الصينى ولكن الصين ترفض ذلك بشدة منذ وقت طويل لعلمها أن ذلك سوف يؤثر بالسلب على مئات المصانع التى تنتج سلعا رخيصة للتصدير..
ولعل هذا أيضا هو سبب نقمة أمريكا على صدام حسين فى الماضى وإيران فى الحاضر حيث يتقاضيان سعر البترول الخام ليس بالدولار وإنما باليورو أو الين.. فالخروج من حظيرة الدولار هو فى نفس الوقت خروج من حظيرة أمريكا التى تشكل عملتها فى نظرها العملة الوحيدة المقبولة عالميا..
وإستكمالا لحديث البنوك فالصحف كانت العام الماضى مليئة بأخبار من إيطاليا عن فضيحة إقتراض الحكومات المحلية والبلديات فى إيطاليا أموالا بلغت فى عشر سنوات 111 مليار يورو من بنوك إستثمارية (أى تقوم بالتعامل فى الأوراق المالية). وهذه الحكومات المحلية والبلديات ليس بها مستودع خبرة يسمح لها بفحص العقود التى تم بمقتضاها الإقراض.. اللطيف فى الموضوع هو أن مجلس اللوردات البريطانى أصدر قانونا يحرم على البنوك الإستثمارية أن تقرض الحكومات المحلية والبلديات فى كل بريطانيا، وبالتالى شرعت فى البحث عن زبائن آخرين لا يقعون تحت طائلة الحماية القانونية ووجدوهم فى إيطاليا..
والوسيلة التى تتبعها هذه البنوك (وهى يو بى إس السويسرى ودويتشه الألمانى وجى بى مورجان الأمريكى ونومورا اليابانى وكلها شركات بريطانية تابعة للبنوك الأصلية المذكورة ومقرها لندن) هى إنشاء ما يسمى المشتقات DERIVATIVESوهى منتجات مالية تتسم بالتعقيد حيث أن سعرها يتم إشتقاقه من أسعار عدة أوراق مالية تتغير نسبها باستمرار وتدخل وتخرج إلى ومن المشتقة أيضا باستمرار أى أنها منتج غير محدد المعالم.. وهذه المشتقات هى سبب خراب العالم الإقتصادى لأنها عندما تنهار وتفقد قيمتها لا تعطى صاحبها الحق فى أى شىء لأنه لا يملك ورقة أصلية بل مشتقة..
أما إصدار العملة الورقية وإحلالها محل الذهب فهو أمر له حديث مستقل..