بعد 84 من ولادته تحت ظلال الهواية في الأورغواي، يعود المونديال إلى البرازيل، الأرض الأسطورية لكرة القدم، محمّلاً بأثقال سيئة: اللعب غير النظيف ماليّاً.
نعم. لتكن الصراحة أولاً. في الوقائع المحضة، يسجل لمونديال البرازيل 2014، أنه الأول تاريخياً الذي يلعب بعد ظهور مطالبة مريرة للـ"فيفا"بالسعي إلى فرض اللعب النظيف ماليّاً، على غرار ما جرى بالنسبة للعب النظيف من العنف. تخلّصت الكرة من العنف كثيراً، خصوصاً لكن رئاسة الـ"فيفا"لم تحرّك ساكناً لحد الآن لفرض "اللعب النظيف ماليّاً". أسوأ من ذلك، أن المونديال يعقد في ظلّ تحقيق عن دور سيّء للمال، بمعنى الرشاوى وشراء الذمم وتحطيم الأخلاق، في استضافة دولتين هما روسيا وقطر.
وبغض النظر عما آلت إليه الأمور في ذلك التحقيق، بمعنى رفع كثير من الشبهات عن بلدي الاستضافة المذكوريين، إلا أن ذلك لا يغيّر من واقع أن البرازيل ستشهد أول مونديال تفوح رائحة الفساد بالأموال وشراء الذمم منه، بطريقة يصعب تجاهلها. لعله أمر سيّء أن تسجل البرازيل "سابقة"من ذلك النوع. لكنها ليست ضحية. ليست البرازيل مجرد ضحية للمال وفساده في المونديال، على رغم أنها ليست روسيا ولا قطر.
يخشى عشاق الساحرة المستديرة عليها من أن تلاقي مصير رياضيتين تاريخييتين، ضربتهما أموال الفساد وحطمتهما. كانت الملاكمة معبوداً للجماهير في الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة. تدخّلت المافيات وتبييض الأموال فيها. لم ينقذها اللعب الأسطوري للبطل الرائع محمد علي كلاي، الذي كان آخر الأبطال الشعبيين، خصوصاً أن صعوده ترابط مع نضال الحقوق المدنية للسود وثقافة رفض حرب فيتنام في أميركا. ذوت تلك اللعبة، التي سمّاها اليونانيون في أولمبياداتهم التاريخية "الفن النبيل".
مازالت مباريات الملاكمة تُجرى. مازالت تنقل على الشاشات والإذاعات، لكنها ماتت في مخيلات الجمهور الواسع. مات "الفن النبيل"واقفاً، لم ينقذه أحد من قبضة فساد الأموال.
على غرار ذلك، سارت المصارعة إلى الضمور والانحسار. من يذكر آخر مصارع ارتسم في صورة البطل في أذهان جمهور الرياضة عالميّاً؟ أهو هالك هوغان؟ ربما. ما زالت المصارعة تلعب، لكنها كثيراً ما تشاهد كأنها أفلام أكشن ورعب ودماء، وليس كفن رياضي راقٍ.
كذلك من المستطاع ادراج رياضة كمال الأجسام في السياق عينه. الأرجح أن مدن لا حصر لها فيها أندية رياضية تدرب على ترويض الجسد وصنع عضلاته. في ستينات القرن الماضي، وصلت تلك الرياضة إلى قمة مذهلة، خصوصاً حين احتل الرياضي ستيف ريفز، صاحب الجسم الأكمل في تلك الرياضة تاريخياً، المخيلات الواسعة. وأدى ريفز دور البطل الأسطوري هرقل في سلسلة من أفلام هوليوود، حين كانت أميركا تقتحم عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية بقيم التحرر الفردي والجماعي وإزالة الاستعمار القديم، ومقاومة الشيوعية أيضاً. ربما كان أرنولد شوازنغر حسن الحظ لأنه آخر من تمددت شهرته كبطل للعضلات الهرقلية، والتقطه السينما ثم عالم السياسة. وأفسد المال والهرمونات وصراعات السياسة تلك الرياضة المنقوشة في أولمبيادات اليونان القديمة.
لماذا طالبت أندية كثيرة في أرجاء الأرض، ومنها أندية القارة العجوز نفسها، بأن تنقذ كرة القدم من فساد الأموال؟ لأن الأموال وأرقامها تضخّمت بطريقة مفزعة في تلك الرياضة.
لا يستطيع من يملك حدّاً أدنى من الحس البديهي إلا أن يحدس بأن كل تلك الأموال لا بد أن تحرك كثيراً من الضعف لدى البشر، وترجمة ذلك الفساد ومزيداً منه. عندما يكون في ملف قطر 22 ألف مليون دولار، ألا تنبهر عيون كثيرة، وتندلق ألسنة لا حصر لها باللهاث خلف الأموال؟ لا يتعلق الأمر حتى بقطر نفسها. لنفكر بمن ينال الحصص في بناء الملاعب والمنشأت وشراء التجهيزات وحقوق البث والإعلانات والسياحة الرياضية وغيرها.
كيف لا يرتفع الصوت ضد الأموال في كرة القدم، حين يكون التفاوت في القدرات المالية بين الأندية إلى حدّ أن لاعبين في نادي "برشلونة"، هما ليونيل ميسي ونيمار دا سيلفا، تبلغ قيمتهما ماليّاً ما يزيد على مجموع رأسمال نادي "أتلتيكو مدريد"الذي خاض حرباً شرسة لينال بطولة الدوري؟ هل أنه "لعب"ذلك الدور كي تزيد إثارة الدوري، ويتدفق مزيد من الأموال إلى المضاربات والمراهنات والبث المتلفز وأسعار التذاكر وحقوق الرعاية وغيرها؟
سجّل العام 2013 الذي سبق سنة مونديال البرازيل، اعترافات للاعبين دوليين بأن كثيراً من المباريات في كبريات الدوريات الأوروبية كانت مرتبة النتائج.
كذلك يصعب نسيان أن المنتخب الإيطالي وصل إلى مونديال العام 2006، بعد أن كُشِف أن نادي "جوفنتوس"كان يتلاعب في المباريات بطريقة مكّنته من الفوز مرات كثيرة بالدوري. حُرِم جوفنتوس من اللعب في دوري الدرجة الأولى الإيطالي، لكن نجومه ملأوا صفوف المنتخب الإيطالي في السنة التي دوّت فيها فضيحته ماليّاً! النتيجة؟ فاز المنتخب الإيطالي وأبطال فضائح الأموال، بمونديال العام 2006!