'''لنتحررْ من سلطة"عقلنا المجتمعي"المتخلف، لنتمكنَ من تحرير أوطاننا'''، '''تحرير الذات من قهر الذات أم تحرير الذات من قهر الآخر؟'''
المقال
1- تخلصنا من عسف الآخر، فوقعنا في عسف أمَــرّ: منذ منتصف القرن الماضي، كنا نحن الشباب العراقيين(بل جميع الشباب العرب) من الجيل الناشئ الواعي، لاسيما فريق من الطلاب في المرحلة الجامعية، ندرك مشكلاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما فيها تفشي الجهل والفقر والمرض والفساد. وكنا نعتقد جازمين، مع القوى الوطنية المعارضة، بما فيها القومية والديمقراطية والاشتراكية، أن السبب الأساسي لجميع تلك الأوصاب هو الاستعمار. فلو تمكنـّا من طرد هذا المارد الجبار؛ الاستعمار البريطاني، والتخلص من أذنابه ابتداء من نوري السعيد وانتهاء بالوصي عبد الأله، وبينهم العديد من الوزراء وشيوخ العشائر المنتفعين، فإننا سنؤسس دولة حديثة، بقيادة وطنية مخلصة وحكيمة، يمكنها استثمار مواردنا الطبيعية الوافرة والبشرية الصاعدة، تحقيقا للتقدم الحضاري وتمهيداً لإنجاز حلم توحيد الأمة العربية.
وقد انطلقت وثبة كانون الثاني 1948، بعد أن أشعلتها معاهدة بورت سموث مع بريطانيا، التي كنا نعتبرها معاهدة استعمارية جديدة تكرس مؤسسات النظام االقائم ، وتحل محل معاهدة 1930. فكانت ثورة شعبية حقيقية بقيادتنا نحن طلاب الثانويات والكليات. وكان كاتب هذه السطور أحد الطلاب المتحمسين الذي اشترك بنشاط في جميع المظاهرات، بل قادها خلال الأيام التي سقط خلالها العشرات من زملائه صرعى برصاص الشرطة. ومنهم قيس الألوسي وجعفر الجواهري شقيق الشاعر العراقي المعروف محمد مهدي الجواهري.
وحدث انقلاب/ ثورة العراق في 14 تموز/يولية (1958)، فخرجنا نحن العراقيين من جميع الطبقات الشعبية، إلى الشوارع محتفلين ومهللين للثورة وروادها. ولكن الشيء الذي شوه الثورة، فظائع القتل والسحل المؤسفة لأقطاب النظام السابق ولاسيما نوري السعيد والوصي عبد الإله. وذكرتني تلك الأحداث الدامية بنظريات الطبيب/ المفكر الفرنسي "غوستاف لوبون Gustave Le Bon"حول سلوك الجماهير العنيف وربما الإجرامي، في كتابه الهام "سيكولوجية الجماهير Psychologie des Foules".
2- "وظلم بني القربى أشد مضاضة على المرءِ من وقع الحسام المهندِ ": المهم أننا بعد أكثر من نصف قرن من تلك الثورات الكبرى التي باركناها بكل حماس، والتي عمّتْ بعض بلدان الهلال الخصيب وشمال أفريقيا المهمة، والتي اعتقدنا أننا حققنا فيها احلامنا بالاستقلال الوطني، وما كان يمكن أن يترتب عليه من تقدم في شتى مناحي الحياة ، لاحظنا بكل أسف أن أوضاعنا لم تتحسن، على وجه العموم، بل ازدادت تردياً وأصبح زعماؤنا الوطنيون الجُددّ، خاصة من الجيل الثاني أو الثالث، ولاسيما في مصر والعراق وسورية وليبيا، أكثر استبداداً وقهراً أحياناً من الأجنبي وأذنابه في الحكم البائد. فضلا عن أن ما وعدونا به من تحرير أراضينا المغتصبة انقلب إلى عكسه، في هزيمة الـ 67 الكارثية.
ومن جهة أخرى، لم نتمكن من معالجة الاختلافات الرأيوية أو العقائدية، التي لا يخلو منها أي مجتمع في العالم، بطريقة عقلانية متحضرة، مما أدى إلى خلافات حادة وصلت غالباً إلى حد الاقتتال، بل الحرب الاهلية أحيانا . وفي مثل هذه الظروف يصفق العدو ويتسلى بصب الزيت على النار، بل يشعلها، بدون أن نتنبه، فنقف في صف واحد لمواجهته.
ثم اشتعلت الثورة العربية الأخيرة( الربيع العربي)، في مطلع عام 2011 ، فطالبت الجماهير الهادرة بالخبز والكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. فأسقطت أنظمة فاسدة وعاتية(تونس ومصر و اليمن وليبيا). وانتشرت الثورة في مختلف البلدان العربية وتجلت بشكل مباشر عن طريق الاحتجاجات والانتفاضات، مطالبة بالاصلاح. وفي بلدان عربية أخرى، أجرت بعض الأنظمة العربية بعض الإصلاحات (المغرب الجزائر الأردن) أو قدمت عطاءات كبيرة (السعودية). والخلاصة أن هذ الثورة بقيت قائمة حتى اليوم(نيسان/أبريل 2013) إما بشكل مستعر(سورية) أو بشكل كامن تحت الرماد، يمكن أن يستعر في أي لحظة، رهناً بالظروف والتنازلات التي تقدمها الأنظمة.
المهم في الموضوع أن هذه الثورات التي أشعلها الشباب العربي الليبرالي المتعلم، والتي رفعت شعارات تقدمية حضارية لا يختلف عليها الناس بوجه عام، انتهت بتسلم الإسلاميين مقاليد السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، وهو طريق يجب احترامه. لأن معنى ذلك ان هذه هي إرادة معظم أفراد المجتمع العربي.
لذلك نحن نرى أن تُمنح الفرصة للإسلاميين لقيادة الأمة،(كما حدث في تركيا مثلاً) فإذا نجحوا في قيادتها إلى برّ الأمان والاستقرار والتقدم، وطبقوا مبادئ الديمقراطية، فبها ونعمتْ، وإلا فإن مصيرهم الرفض والتغيير من خلال صندوق الانتخابات كذلك.(انظر بحثنا في مجلة "المستقبل العربي"، بيروت، عدد 404، في 10/2012 ، ص 169) ومع ذلك فان المعارضة ترى أن الإسلاميين، في مصر مثلا، يعملون على أسلمة جميع مرافق الدولة والمجتمع. والسؤال الكبير هو: هل يمكن أن يغير الإسلاميون(لاسيما الأصوليين) معتقداتهم الراسخة بأن "الحاكمية لله حصراً "، والديمقراطية كفر؟ نحن نعتقد، مع الفقيه الشاطبي أن الشريعة وجدتْ لمصلحة البشر، والديمقراطية توسيع تطوري لمبدأ الشورى الذي جاء في قوله تعالى"وأمرهم شورى بينهم".ويطول الحديث في هذا الشأن، مما يتجاوز حدود المقالة.
* * *
3- العقل المجتمعي العربي المتخلف: نتساءل: لماذا يحصل ما حصل، في طول البلدان العربية وعرضها من ثورات ونكسات وتراجعات، حتى بعد هذا الربيع العربي الذي تعلقت به آمال الأمة؟ بل أصبحت معظم البلدان التي نجحت فيها الثورة الأخيرة معرضة لحروب أهلية قد تؤدي إلى التقسيم. ومن جهة ثانية أكثر شمولبة ، لماذا ظلت الأمة العربية متخلفة، ليس بالنسبة للبلدان المتقدمة فحسب، بل بالنسبة لعدد من البلدان الآسيوية التي كانت اكثر تخلفا منـّا قبل أن تستقل بلداننا في منتصف القرن الماضي، ومنها الهند والصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا وتايلند؟
السبب، في تقديري، يكمن في "العقل المجتمعي العربي المتخلف"، الذي شرحت أبعاده في كتابي"أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل"(طبعة ثالثة منقحة ومزيدة؛ دار اخبار اليوم القاهرية،2009).لذلك سأحاول الإجابة عن هذا الموضوع في ضوء نظرية "العقل المجتمعي" .
4- تحرير الذات من قهر الذات، أم تحرير الذات من قهر الآخر؟
هناك مسألة أساسية تتعلق بالترابط الجدلي بين "تحرير الذات من ذاتها"، و"تحرير الذات من عسف الآخر". ولم أكد أعثر، حتى الآن، على مَنْ طرحها وعالجها جذرياً وعلمياً، على نحو كاف. فعندما كنا وما نزال، نحن العرب نناضل في سبيل تحرير أرضنا، وتحقيق استقلالنا، لم نفكر، في ذات الوقت، بتحرير ذواتنا من تأثير "العقل المجتمعي المتخلف"، الذي سيطر على أفكارنا وسلوكياتنا خلال فترة القرون الماضية، وأثناء الفترة المظلمة بوجه خاص.فنحن ما نزال عبيداً لهذا "العقل"، الذي تشكلت أهم خصائصه منذ ذلك الحين، على الأقل. ومع أن هناك مظاهر وتجليات كثيرة لهذا "العقل المجتمعي"ما تزال باقية تنخر في جسد المجتمع العربي المعاصر، ( كما شرحته في كتابي أعلاه ) مما أدى إلى تخلفنا عن اللحاق بركب الحضارة العالمية المتفجرة، وبالتالي خضوعنا وخنوعنا لسيطرة الآخر؛ إلا أننا سنكتفي بإلقاء نظرة سريعة على أربعة مظاهر أو تجليات لذلك العقل، تتعلق بصُلب موضوعنا:
أولا: الحكم الاستبدادي، الذي تعرض له المجتمع الإسلامي العربي على مرّ العصور، وخاصة منذ نهاية الخلافة الراشدة، أصبح جزءاً مهماً من "العقل المجتمعي العربي". لذلك لم تتمكن الشعوب العربية التخلص منه حتى اليوم، على الرغم من جميع الانتفاضات والثورات، التي حدثت التي ما تكاد تنهي مرحلة من مراحله، حتى يسقط الشعب في مرحلة أخرى، قد تختلف في زعمائها الجدد الواعدين، ولكنهم سرعان ما يعودون إلى قيادة شعوبهم بالقهر والاستبداد، بدرجات وأشكال وذرائع مختلفة. كما حدث تماما بعد الثورات/الانقلابات في مصر والعراق والجزائر وسورية وليبيا واليمن والسودان، منذ منتصف القرن الماضي. يقول هشام شرابي:"إن الذهنية الأبوية أول ما تتمثل في نزعتها السلطوية الشاملة التي ترفض النقد ولا تقبل بالحوار إلا أسلوباً لفرض رأيها فرضاً " (النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي، ص16). وهكذا شكّلت الذهنية الأبوية جزءاً مهماً من "العقل المجتمعي"العربي، حسب مفهومنا . فأصبح الحكم الاستبدادي متجذرا في المجتمع العربي، يسعى إليه القائد بمختلف الحجج، وتقبله الرعية طائعة أو صاغرة، باعتباره قدراً محتوماً، أو إذعاناً لرأي الفقهاء المسلمين، بمن فيهم الغزالي ومن جاء بعده"، الذي يقول: "من اشتدت شوكته وجبت طاعته".(انظر الدين والدولة وتطبيق الشريعة للحابري، ص86) كما يعتبر الحاكم بأمره هذه السلطة التي حصل عليها بالقوة "غنيمة"، حسب نظرية المفكر محمد عابد الجابري في كتابه "العقل السياسي العربي". نعم، يعتبرها غنيمة له ولأولاده من بعده، تماماً كما حدث منذ العصر الأموي. وهو بالضبط ما حدث مؤخراً( قبل الربيع العربي)، في مصر وليبيا وسورية واليمن. وربما ما كان من الممكن أن يحدث في العراق في العهد السابق.
ثانيا: التعصب المذهبي: ابتداء من لحظة وفاة الرسول محمد(ص)، ظهر النزاع على الخلافة. ثم تكثــَف وتعقد واستشرى نتيجة استعار الصراع الدموي بين الأمويين والهاشميين(ومن اتبعهم بعد مقتل الخليفة عثمان، ومبايعة الإمام عليّ بن أبي طالب(ع)، وما اعقب ذلك من حرب صفين، ولاسيما بعد كارثة كربلاء. ومنذ ذلك الحين ظل هذا الصراع، الذي أُطلق عليه تعبير "الفتنة الكبرى" (طه حسين) قائماً يختفي قليلاً ويظهر كثيراً، حسب الظروف وعِبر القرون. فسبب الكثير من المآسي وسفك الدماء، كما هو معروف. المهم في الأمر أننا لم نتمكن حتى اليوم من تحرير أو تنظيف عقولنا من ماجريات تلك الفتنة، وذلك لأننا كنا وما نزال، نواجهها بـ"عقل منفعل"بتأثير "العقل المجتمعي"السائد والمتخلف، الذي ظل مسيطراً على أفكارنا وتصرفاتنا كأفراد منذ اكثر من 14 قرنا، بدلاً من أن نواجهها بـ"عقل حداثي فاعل"، يتجاوز تلك المرحلة السحيقة في القدم، ويدرك ويستوعب مستلزمات اللحظة الحاضرة وما تتطلبه من تكاتف جميع الجهود والإمكانات لتحقيق تقدم المجتمع الحضاري، لاسيما على صعيد الارتقاء بالعلوم والمعارف، لمجابهة "الآخر"، بنفس أسلحته، كما ينصح المفكر والمؤرخ الكبير أرنولد توينبي في كتابه "العالم والغرب ، هذا الآخر الذي استغل تفرقنا وصراعنا وتفككنا وجهلنا، من أجل السيطرة على أراضينا ومواردنا ومقدراتنا.
ثالثا : رفض الرأي الآخر: قد يتفرع هذا المظهر من ظاهرة التعصب المذهبي بوجه خاص. إذ أصبح صاحب الرأي الآخر متهماً غالباً بالكفر أو الخيانة أوالعمالة أو التخريب أو الإرهاب أو غير ذلك. ويرتبط هذا المظهر بالعقل المجتمعي العربي المتخلف. فمعظم العرب يرون الأشياء بمنظار الأبيض والأسود، الصحة والخطأ الإيمان أو الكفر، ويصرفون النظر عن الخيارات الكثيرة المتوسطة التي تقع بين كل من هذين النقيضين. كما لا يقبلون بالحلول الوسط أو الحلول التوفيقية. ونتج عن ذلك طبعاً رفض الاجتهاد في الرأي في مجال النص الديني وفي مختلف ميادين الإبداع. لذلك قتلنا روّادنا ومجتهدينا إما جسديا(فرج فودة في مصر، ومحمود محمد طه في السودان، ونجيب محفوظ، أُنقذ بإعجوبة)، أو معنوياً (علي عبد الرازق ونصر حامد أبو زيد وعلي الوردي ولويس عوض، وغيرهم ).
رابعا، العِلم : مع أن المسلمين العرب كانوا رواداً في العلوم والمعارف في القرون الوسطى،(ابن الهيثم، ابن باجة، البيروني، ابن عراق، البغدادي، الرازي، ومئات غيرهم) انطلاقاً من تشجيع الدين الإسلامي الحنيف على طلب العلم من المهد إلى اللحد، وطلبه مهما كان بعيداً حتى إن كان في الصين، في وقت كانت أوروبا فيه تضطهد علماءها أوتحاكمهم بقساوة في محاكم التفتيش،(غاليلو غاليلي) لترغمهم على إنكار مكتشفاتهم ؛ أقول مع ذلك ظل العرب، ولاسيما زعماؤهم، في العصر الحديث رهائن العقل المجتمعي العربي المتخلف، الذي لا يضع العلم والمعرفة في رأس الأولويات. لذلك تخلفنا علمياً وتكنولوجياً عن معظم دول العالم، ولاسيما إسرائيل التي أصبحت تصدر منتوجاتها التكنولوجية إلى مختلف أرجاء العالم بما فيها روسيا وأوربا والهند. بينما أصبحت البلدان العربية(350مليون) سوقاً مستهلِكة فقط لتلك المنتجات الجاهزة . ويعتبر بعض المتدينين الأصوليين العلوم الحديثة وبالاً على المجتمع الإسلامي وإنكاراً لعلوم الدين التقليدية أو تقليلاً من شأنها. كما يعتبر بعضهم أن الأخذ ببعض مبادئها كفر وإلحاد. وينكرون أصلاً نزول الإنسان على سطح القمر، ويستنكرون محاولات الوصول إلى الاجرام الأخرى كالمريخ. بل يشير بعضهم إلى أن "القول بدوران الأرض، قول باطل والاعتقاد بصحته مـُخرج من الملة،(أي خروج عن الإسلام) لمنافاته ما ورد في القرآن الكريم من أن الأرض ثابته، وقد ثبّتها الله بالجبال أوتاداً" (عبد العزيز بن عبدالله بن باز، من علماء الدين). وهذه بعض الأسباب التي جعلت العرب يتخلفون عن ركب الحضارة الحديثة الصاعدة. وبالتالي لم يتمكنوا من بناء بلدانهم ، ولاسيما البنية التحتية للقاعدة العلمية الرصينة التي من شأنها تطوير كل مرافق البلد.
* * *
كأن الأمة العربية تسعى إلى حتفها بظلفها، كما يبدو من سلوك قيادتها وتصرفات معظم أبنائها اليوم. ينسب إلى الرسول (ص) قوله "يصيب الأحمق بجهله أكثر من فجور الفاجر" (رواه انس بن مالك). ويقول الشاعر:
لاا يُدرك الأعداءُ من جاهل *** ما يُدرك الجاهلُ من نفسه
لذلك يجب أن نفكر أولاً بتحرير عقولنا من سلطة "العقل المجتمعي"المتخلف والسائد، تمهيداً لتحرير أراضينا ومواردنا واقتصادنا.
علاء الدين الأعرجي
محامي وباحث مقيم في الولايات المتحدة