'''في الذكرى الثانية للثورات العربية'''، بحثا ً عن الثورة الثقافية، صحيفة "القدس العربي"في 22/1/2013.
تمر الأمة العربية اليوم في مرحلة خطيرة وحاسمة في مسيرتها التاريخية الحديثة، بعد اندلاع هذه الثورة التي أتت على عدد من رؤوس الأنظمة الاستبدادية الفاسدة. وما لم تحصل رِدة، أو ثورة مضادة يقوم بها بعض فلول الأنظمة السابقة بدعم من "الآخر"، أو لم تقم بعض القوى الرجعية بتحويل مسارها التقدمي، فمن المتوقع، أن يظل أوار هذه الثورة مشتعلاً إلى فترة طويلة ، كما يحدث في بعض البلدان العربية اليوم.
ولئن نأخذ بعين الاعتبار فترة الجيشان والاضطرابات، وبالأحرى مرحلة الانتقال العسيرة التي ستمر بها هذه الثورة الشعبية، في ظروف دولية وإقليمية ومحلية صعبة وجدّ معقدة، شأنها شان جميع الثورات الكبرى، ولاسيما الثورة الفرنسية(1789) التي شكلت نقطة تحول حاسمة في تطوير المجتمع العالمي؛ فإننا نقترح أن يُـفَجِّرَ الأكاديميون والمفكرون والعلماء والفلاسفة العرب، وهم كـُــثر، ثورة فكرية وعلمية تتناول مختلف ميادين المعرفة التي كانت مقموعة أو مغيـّـبة، في ظلّ الأنظمة الاستبدادية السابقة، التي كانت مشغولة بالمحافظة على مراكزها ومصالحها مع بطانتها. أو بسبب جهل معظم رموز هذه الانظمة بأهمية العلوم والمعارف في نهوض الأمم. بل تعمُدها تجهيل شعوبها خوفاً من انتشار الوعي المؤدي إلى إدراك مدى فساد تلك الأنظمة و"طبائع استبدادها"، على حدّ تعبير الكواكبي.
وفي أسوأ سيناريو يمكن ان يُتوقع نتيجة هذه الاضطرابات والتجاذبات بل المؤامرات الجارية في الوطن العربي، فإن الشروع بإرساء مؤسسة معرفية عربية تقوم على أسس موضوعية وعلمية رصينة، قد تشكل ثورة إصلاحية مؤثِرة وناعمة تعتبر مكملة، بل ربما بديلة للثورة الساخنة. لاسيما وأن جميع الثورات التاريخية الكبرى، التي غيرت وجه العالم ونقلته من مرحلة إلى أخرى، أكثر تقدما، كانت تتضمن سابقاً أو لاحقاً ثورات ثقافية، كما سيلي ذكره.
الثورات العالمية الكبرى هي ثورات ثقافية
يمكن القول إن جميع النهضات أو الثورات العالمية التقدمية الكبرى المعروفة، قامت على أسس ثقافية وفكرية جديدة من شأنها تغيير بنية "العقل المجتمعي"، ووضعه على طريق التقدم الحضاري. نذكر منها على سبيل المثال فقط:
1- ثورة الإسلام: ونشرع بمثال ثورة الإسلام في القرن السابع الميلادي، على "العقل المجتمعي العربي"البدوي المتخلف القائم على العصبية القبلية، الذي كان سائداً في الجاهلية. قال الرسول (ص) في خطبة الوداع :"إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء؛ كلكم لآدم وآدم من تراب، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى". وفي القرآن الكريم "إن أكرمكم عند الله أتقاكم". ووحَد الإسلام العرب تحت رايته، بعد أن كانوا شراذمَ متناحرة ومتحاربة نتيجة العصبيىة القبلية، فقال"إنما المؤمنون أخوة". ووضع لهم كتاباً ينظم معاملاتهم وحياتهم.
ولنستمع إلى احد أعمدة الفكر العربي الإسلامي يصف الثورة الثقافية، موضوع الحديث، في عصر التدوين ، الذي انطلق في منتصف القرن الثاني للهجرة، يقول أحمد أمين:
” كان نشاطُ المسلمينَ في ذلك العصر يَسترعي الأنظارَ ويَستخرجُ العَجب، وليس هناك من نشاطٍ يُشبهُه إلاَّ نشاطُ العَرب في فُتوح البلدان—وقد نظَّمَ العُلماءُ أنفسَهم فِرقـًا كفِرَق الجيش، كلُّ فرقةٍ تغزو الجهلَ أو الفوضى في ناحيتها حتَّى تُخضعَها لنظامها. ففرقةٌ للُّغة، وفرقةٌ للحديث، وفرقةٌ للنَحو، وفرقةٌ للكلام، وفرقةٌ للرياضيَّات، وهكذا، وهُم يتسابقونَ في الغَزوِ والانتصارِ(يقصد في مضمار المعرفة) وتَدوينِ العِلم وتنظيمهِ، تَسابُقَ قبائلِ العَرب في الفتوحِ والغزوات، كلُّ قبيلةٍ تودُّ أن تكونَ السَابقة في الميدان".( أحمد أمين، "ضحى الإسلام"،ط10، ج2، ص19)
كما أتم الإسلام نهضته الفكرية والعلمية بالتفاعل والتلاقح الثقافي مع الحضارات الأخرى: الفارسية والهندية واليونانية والرومانية. هذا التفاعل الذي أدى إلى ظهور أعظم حضارة في القرون الوسطى، أسهمت عند نهايتها في انبثاق النهضة الأوربية الحديثة منذ القرن الثالث عشر، تلتها النهضة الأمريكية، فنهضة بلدان النمور الآسيوية القائمة اليوم. ولكن هذه الانتفاضات/الثورات الأخيرة تجاوزت كثيراً، النهضة العربية الإسلامية القديمة، التي تقوقعت، فتخلفت وفشلت، حتى الآن، في إستعادة نشاطها الحضاري بحُلة حداثية جديدة، تواكب، بل تتجاوز، الحضارة العالمية الحديثة. لهذا أصبحنا مستهلكين غير منتجين، تابعين غير متكافئين. لأننا لم نأخذ بالحديث الشريف "إن الله يبعث لهذه الأمة على كل رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها".(رواه أبو داود في سنته)
2- ثورة النهضة الأوربية La Renaissance))، التي تغذت في بداياتها على نواتج الحضارة الإسلامية لاسيما في الاندلس. كما استفادت مما نقلته تلك الحضارة عن أعلام الفلاسفة الإغريق، الذين كانوا مجهولين بالنسبة للأوربيين في القرون الوسطى. ومثلت هذه النهضة الأوربية، ثورة فكرية/علمية بكل معنى الكلمة، قامت على أكتاف نـخبة من أصحاب "العقل الفاعل"الذين تمردوا على "العقل المجتمعي"الكنسي الغيــبـي الـمتخلف الذي كانت تتبعه العامة بـ"عقلها المنفعل"، بشكل غير واع . ومن جملة هؤلاء المفكرين نذكر على سبييل المثال فقط: كوبرنيكس وغاليلو ودافنشي وديكارت ولوك وهوبز وكانط وهيغل ونيوتن ودارون واينشتاين، وعشرات غيرهم، فضلاً عن المفكرين الفرنسيين الذين سنأتي على ذكر بعضهم، في الفقرة التالية.
3- الثورة الفرنسية: قبل انطلاقة هذه الثورة ، وضع الإنسكلوبيديون الفرنسيون، وعلى رأسهم ديدرو ومونتسكيو وروسو وفولتير، أسس الثورة الفكرية الفرنسية، ولاسيما من خلال كتابة الموسوعة الفرنسية الأولى، التي هاجمتها الكنيسة بضراوة. وأرست هذه الموسوعة، جنباً إلى جنب مع مؤلفات روسو في "العقد الاجتماعي"ومونتسكيو في "روح القوانين"وكتابات فولتير النقدية، القاعدة الثقافية االراسخة للثورة، وأسهمت في إشعالها بشكل غير مباشر.
وبعد أعوام قليلة من قيام الثورة الفرنسية، (1789) التي غيرت مجرى التاريخ العالمي، وبعد إسقاط النظام القديم، تنادى الحكماء والمثقفون والعلماء الفرنسيون، المتأثرون بالأعمال الفكرية السابقة الممهـِدة للثورة، فقرروا إشعال ثورة ثقافية موازية للثورة الساخنة. وهكذا شرعوا، في عام 1795، بإنشاء "المعهد القومي للعلوم". ويتكون هذا المعهد من ثلاثة أقسام: قسم العلوم الطبيعية وقسم الفنون الجميلة، وقسم علوم الاخلاق والسياسة. ويتفرع هذا الأخير بدوره إلى ستة فروع:تحليل الإحساسات والأفكار وعلم اللغة، الأخلاق، علم الاجتماع، الاقتصاد السياسي، التاريخ والجغرافية. ثم تفرع هذا المعهد، فنشأت أكاديمية العلوم في 1816، والمركز الوطني للبحث العلمي في 1939، وهما من أكبر المؤسسات المعرفية في العالم.
3- ثورة المايجي إيشين: وفي اليابان، وبعد سقوط الحكم العسكري والإقطاعي (شوغوتة توكو غاو) في عام 1868، بدأت ثورة "المايجي إيشين "، التي تعني التطوير والتجديد والابتكار. وفي خلال فترة لا تتجاوز جيلاً واحداً تحولت اليابان من مجتمع إقطاعي زراعي متخلف، إلى دولة عصرية صناعية حديثة، ثم دولة عسكرية كبرى في النصف الأول من القرن العشرين. وبعد أن خرجت من الحرب العالمية الثانية مُدمَرَة في جميع مرافقها وبنُاها الأساسية، استعادت اليابان عافيتها بعد عقدين من الزمن تقريباً، ثم أصبحت قوة أقتصادية عظمى تنافس الولايات المتحدة، منذ نهاية القرن العشرين،.(انظر كتاب"نهضة اليابان؛ ثورة المايجي إيشين"، صدر في عام 1996، بالتعاون مع جامعة الأمم المتحدة)
الدعوة إلى إشعال الثورة الثقافية
بقدر ما تأثرت الثورة الفرنسية الساخنة بالنهضة الفكرية الأوربية، عامة، ونتائج كتابات الإنسكلوبيديين الفرنسيين، بوجه خاص، تأثرت هذه الثورة العربية الأخيرة، برأيي، بالثورة الفكرية العالمية، بما فيها الثورة العلمية والتكنولوجية الـمتفجرة في كل يوم. فهذه النخبة التي أشعلت الثورة التونسية ثم الثورة المصرية مثلا، كانت تمثل الشباب المتعلم المطــّلع تماماً على آخر ما وصل إليه العالم المتقدم من تطور علمي وفكري واجتماعي وسياسي. فضلاً عن أنها استخدمت أحدث منتجات ذلك التقدم التكنولوجي، ولاسيما وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال الشبكة العنكبوتية (الإنترنيت)، أستخداماً ثورياً وعلى أفضل وجه.
وإذا سلـــَّمنا أن أية حركة ثورية تتشكل نتيجة تراكم فكري وثقافي تدريجي قد يستمر عدة عقود بل ربما قروناً ، فلا بد أن تكون هذه الثورة، قد تأثرت، بشكل غير مباشر، أيضا بالنهضة الفكرية العربية، بما فيها الأعمال التي قامت بها نخبة من المفكرين العرب، ابتداءً من الطهطاوي والكواكبي وقاسم أمين ومحمد عبده والأفغاني، وانتهاء بنصر حامد أبو زيد والجابري، وغيرهم من عشرات الرواد.
وهكذا نقترح ان يتنادى العلماء والمفكرون العرب لإنشاء "مؤسسة معرفية"يمكن أن تعمل بالتعاون مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم"اليكسو"، أو بشكل مستقل، لوضع استراتيجية لإقامة "مجتمع المعرفة". ويمكن لهذه المؤسسة أن تأخذ بعين الاعتبار أهم الجهود السابقة في هذا الميدان. ومنها تقرير الأمم المتحدة للتنمية الأنسانية العربية لعام 2003 المعنون"نحو إقامة مجتمع المعرفة"، الذي يتضمن رؤية استراتيجية لإقامة مجتمع المعرفة في الوطن العربي.
وفي هذا السبيل، حاولنا من جانبنا ومنذ سنوات طويلة إنشاء مؤسسة موسوعية في المهجر، لأن المهجر يزخر بالطاقات العلمية والفكرية المهملة والضائعة بالنسبة للوطن الأم، بالتعاون مع النادي العربي في الأمم المتحدة، بحكم عضويتي فيه منذ عام 1981. وقد كتبت في أهمية هذا المشروع عشرات المقالات والدراسات. ولي فيه كتاب مخطوط.
علاء الدين الأعرجي
محامي وباحث مقيم في الولايات المتحدة