هناك فرق ثقافي واضح جدا بين الحياة فى ألمانيا والحياة فى مصر. وهنذا الفارق الثقافي لا أجد تعبيرا عنه أقوي من النصوص القانونية.
فحسن النية فى القانون الألماني هو من المزايا التي يجزيها المشرع جزاءا حسنا. والطرف حسن النية فى القانون الألماني لا يخسر أي شىء تقريبا بل يحصل على معظم المميزات.
فلو أن شخصا قام باستئجار شىء معين من صاحبه الذى هو مالكه، ثم قام هذا المستأجر ببيع هذا الشىء لشخص ثالث حسن النية لا يعرف أنه ملك للمؤجر الأصلي تنتقل ملكية الشىء فعلا إلى الحائز الجديد حسن النية ولا يبقي للمالك الاصلي سوي رفع دعوي التعويض على المستأجر سىء النية..
وهذا الوضع يثير شبهة حول دستورية هذا القانون، إذ أن المالك الأصلي بهذه الطريقة قد فقد ملكه، أي أنه قد نزعت ملكينه.. ونزع الملكية ممنوع بحكم الدستور إلا لقاء تعويض عادل. فكيف يمكن لهذا القانون أن يمر دون السقوط فى حومة عدم الدستورية؟
الحل موجود طبعا..
بالطبع هناك قواعد كثيرة للتعويض العادل أهمها الإثراء بلا سبب والمسئولية التقصيرية والتعويض عن العمل الضار وكلها تصب فى قناة تعويض هذا المالك عن فقدان ملكه.
وهذه القاعدة إحتاجت مني وقتا طويلا حتي أهضمها وأقبلها.. حيث أن القانون المصري - وأظن أيضا الفرنسي الذى هو أبوه الروحي وملهمه - به قاعدة أخرى هي أن عقد البيع هذا يكون ساريا ونافذا فى مواجهة الكافة إلا فى مواجهة المالك الاصلي الذى له أن يطالب - لا بفسخه ولا ببطلانه كما قد يعتقد البعض - ولكن يطالب بعدم نفاذه فى مواجهته.
إذ أن القانون يشترط لنشوء العقد شروطا معينة ليس من بينها أن البائع هو المالك. ولهذا ينشا العقد صحيحا.. وهذه أيضا قاعدة إحتاجت مني وقت لكي أهضمها فى مصر.
وعلي ذلك فلو أن المالك الأصلي تقدم للقاضي بطلب إبطال العقد فسوف يرفض القاضي الدعوي. وهذه النتيجة هي تجسيد لمبدأي حياد القاضي وحماية الحيازة.
وإن لم يتقدم المالك الأصلي بهذا الدفع الذى يرتبه له القانون والذى هو موجود لمصلحته فإن البيع يظل ساريا حتي تنتهي فترة التقادم ويصبح المالك الأصلي فى مركز متساوي مع غيره ويفقد ملكه لأن العقد يصبح نافذا في مواجهته.
أي أن القاضي لا يحكم بعدم النفاذ إلا بناءا على دفع مقدم من المالك الأصلي.. وهو ما يعني أن القاضي لا يساند المالك الأصلي إن هو لم يطلب ذلك..
هذا بالطبع فى المنقولات، أما العقارات فلها نظام الشهر العقاري الذى ينظم إنتقال ملكيتها والتصرفات التي تجرى عليها..
وهذه المميزات التي تعطيها القوانين للحائز حسن النية قصد من ورائها أن تستقر المعاملات وتنشأ الثقة بين الناس.
وكما أسلفت فقد تطلب الأمر مني وقتا ومجهودا ذهنيا عاتيا حتي أتقبله وأتفهمه.
وهذه الحماية التي تسبغها القوانين المختلفة على الحيازة هي ظاهرة جديرة بالدراسة العميقة.
وأظن أن أساسها يقع لدي الرومان. ولهذا يجد المرء تلك الحماية واضحة فى كل النظم القانونية ذات الأساس الروماني. أما نظم الشريعة العامة فليس لدي فكرة عنها ولعل الإخوة أبناء العم سام ينيرونا بعلمهم فى هذه النقطة.
والحيازة هي ظاهرة محيرة للغاية ويتعثر فى فهمها تقريبا كل دارس للقانون.
فالحيازة هي السلطة المنفردة على شىء مادي قابل للإحتواء فى حيز معروف. وعلى ذلك التعريف لا تعتبر الأشياء الغير مادية كحقوق الملكية لبفكرية محلا للحيازة..
الأستاذ السنهورى كما سبق وذكرت لكم ذكر فى كتابه الشهير عن القانون المدني أن التقنين الألماني يعد أدق التقنينات وأكملها صنعة وهو يبز كافة التقنينات الأخري إلا أنه يتميز بالتعقيد وتناول الكثير من الحالات مما يجعله يبدو صعبا عصيا على التطبيق ولهذا لم ينل نصيبا من النقل إلى الدول الأخري..
وهذا الكلام صحيح إلى حد بعيد ولكن نقله جاء من نصيب اليونان التي أخذته وترجمته وجعلته قانونها المدني، تماما كما نقلت تركيا التقنين السويسرى وترجمته وجعلته قانونها المدني.
يبلغ عدد مواد القانون الألماني 2385 وعدد مواد القانون المدني المصري 1150 على ما أذكر.. ولكن الألماني به أحكام الأسرة والمواريث بينما المصري لا يشمل تلك الأحكام
ومنشأ القانون المدني الألماني كان مختلفا جدا عما وصل إليه الآن. فقد خرج إلى الوجود فى عام 1896 لكي يتدارسه الناس ويبدي الفقهاء ملاحظاتهم عليه ولم ينفذ إلى الحياة القانونية إلا عام 1900. وفى ذلك الوقت كانت نظرة المشرع للمجتمع مختلفة جدا عن النظرة السائدة حاليا. فقد كان المشرع يري أن الداخلين فى تعاقدات أو تصرفات قانونية هم من الأشخاص المتساوين قدرا وقدرة وبالتالي فإن مراكزهم القانونية كانت متساوية. وقد كان ذلك النظر هو السائد خلال القرن التاسع عشر عندما كانت ألمانيا إمبراطورية يحكمها القيصر.
لكن هذه الأوضاع سرعان ما تغيرت عقب هزيمة الحرب العالمية الأولي وأصبح هناك تيار عريض يدعو إلى إعادة تقسيم ثروات البلاد وأعباء الضرائب وكان هذا التيار ممثلا فى الفكر الإشتراكي الديموقراطي وكذلك فى الفكر الإشتراكي العلمي (الشيوعي) حيث كان الجناحان يطالبان بحماية الضعيف من القوي.
وهكذا عندما نشأت الحاجة الإجتماعية إلى التغيير وقع هذا التغيير أيضا فى القوانين فظهر قانون العمل الذي أخرج علاقات العمل من القانون المدني وجعل لها بابا مستقلا بمحاكم مستقلة تراعي المركبة الإجتماعية سواء من جهة عقد العمل وإثباته وأحكامه وفسخه والتعويضات المترتبة على فسخه وكلها أمور لم تكن ماثلة لواضعي هذا القانون المدني الذى تعدل عدة مرات.
كذلك كان القانون المدني يفترض أن التركيبة الأسرية الألمانية (فى ذلك الوقت طبعا) هي تركيبة أبوية يقوم الرجل الزوج فيها بدور رئيس الاسرة بلا منازع فأعطاه القانون المدني بعضا من المميزات التي تصادمت عقب الحرب العالمية الثانية مع مطالبات حركات تحرير المرأة فتم إلغاء هذه المواد، التي كان منها موافقة الزوج علي عمل زوجته وقدرته على فسخ عقد عملها بإرادته دون الرجوع إليها ووجوب الحصول على إذنه لفتح حساب مصرفي للزوجة ومسألة الذنب فى أحوال الطلاق وإستحالة الحياة الزوجية إلخ...
وهكذا ألغيت المواد التي كانت تمثل هذه الروح التقليدية المحافظة وكان آخرها على ما أعتقد عام 1958.
كذلك عندما فتحت الأسواق وتدفقت السلع الأجنبية من كل حدب وصوب وأصبح العالم متصلا بلا إنفصام وبرزت مشاكل حماية المستهلك من خداع بعض الشركات عدل المشرع الألماني من أوضاع القانون المدني فوسع جدا من دائرة حقوق المستهلك فى مواجهة الشركات وجعل الرقابة القضائية فى كثير من الأحيان إلزامية خصوصا فى حالات الشروط والقواعد العامة فى العقود والتي تدخلها الشركات كجزء من العقد أو جزء مكمل له.
وحديثا عندما دخلت التجارة الإلكترونية إلى حيز البيوت والمستهلكين أصبح من الضرورى تنظيم عقودها بنصوص لم تكن موجودة من قبل فتم تعديل مواد القانون المدني لكي يشمل تنظيم تلك العقود.
وعندما برزت السياحة والنشاط الإرتحالي فى المجتمع كظاهرة ملحوظة لها وزنها إستحدث المشرع الألماني أيضا مواد أسمها مواد عقد الرحلات تتناول العلاقة العقدية بين المسافر ومنظم الرحلة.
وعندما ظهرت حركات المطالبة بحقوق الحيوان لم يتوان المشرع الألماني عن إخراج الحيوانات من دائرة الأشياء المادية وجعل لها طبيعة خاصة تنطبق عليها قوانين الأشياء فى حدود معينة فقط وغير ذلك لها قانون للحفاظ عليها وعلى وجودها وحقوقها ككائنات وليس كأشياء..
واستحدث أيضا فى باب أحكام الأسرة مواد تنظم علاقات المعاشرة على أساس لا زواجي إذ أن هذه المعاشرة تنتج أطفالا وبالتالي فهي ترتب حقوقا ولابد من تنظيمها، وقد كان..
ثم إبتدع حديثا جدا فى باب العقود المسماة أحكام عقد العلاج الطبي وشدد المسئولية المهنية على الطبيب المعالج وجعل عبء الإثبات دائما عليه وشدد على واجب إبلاغ المريض مقدما بأخطار العمليات الجراحية أو العلاجات التي قد تشمل نوعا من الخطر.. وهكذا
وهكذا هو التشريع، إذ لابد له أن يأخذ فى إعتباره الحاجات المتجددة للناس ويكون منتبها متيقظا لما يستجد من تعاملات وما ينشأ فى الحياة من صور لم تكن متواجدة لكي يتناولها بالتنظيم ويراعي حقوق الأطراف..