إلا أن هذه الصفات التي عرفناها عن الفلاح المصري وتأكدنا من رسوخها فى نفسه وتمكنها من وجدانه أصبحت صعبة المنال فى هذا الزمن. فمنذ تنامي الحركة الفاشية العربية فى منتصف ثلاثينات القرن العشرين ثم تمكنها من الحكم فى مصر عام 1954 وقعت تحولات كبيرة وتغيرات ضخمة جعلت هذه الصفات تنزوي وتذبل بل وفى بعض الأحيان تموت ولا يعد لها وجود..
وأول هذه التغيرات هو بناء السد العالي الذى وفر لمصر مخزونا هائلا من المياه يجعلها تخرج من دائرة تهديد عوامل الطبيعة لو أن المطر قد قلت كميته أو إنقطع لعام أو إثنين فلا خوف على البلاد بسب وجود هذه البحيرة الكبيرة أمام السد..
لكن السد على الجانب الآخر منع وصول الطمي الذى كان يتوزع بمنتهي الدقة على كل بوصة من أرض مصر لكي يعطيها خصوبة ويقف حائلا فى طريق التصحر. وهذا الإنقطاع لعدد كبير من السنوات أثر بالسلب فى خصوبة الأرض حيث بدأ زحف الصحراء ينتج أثرا ملحوظا وزادت كمية الرمال فى التربة حيث لا يوازن نموها قدوم ذلك الطمي.
وثاني هذه التغيرات كان إجتماعيا حيث حابت النظم الحاكمة سكان المدن ولم تنظر إلى أحوال الفلاحين فى القري مما جعل كثيرا من هؤلاء ينزحون إلى المدينة بحثا عن لقمة العيش التي تأتي بأى وسيلة وهجروا أرضهم التي كانت قبل ذلك هي حياتهم. وهذه المحاباة كانت نابعة من فكرة خبيثة تقول بأن الفلاح لا يثور لأنه فلاح ولأنه مرتبط بالأرض ولا يتدخل فى السياسة والحكم طالما كان بيع المحصول وتحقيق مكسب معقول أمرا متاحا. بينما المرشحون للثورة دائما هم أهل المدن من العمال وصغار الحرفيين حيث أن حياتهم مرتبطة بالأحوال الإقتصادية للدولة بصورة مباشرة ولا يستطيعون غالبا ممارسة العمل الحر كالفلاحين. فكانت الفكرة الخبيثة تحاول تجنب ثورة أهل المدن بأن تستميلها إليهم بغوايات ديماجوجية شعبية مخربة للأساس الإقتصادي للبلاد.. وعلى ذلك تم توجيه جزء هائل من موارد الدولة إلى مرافق المدن وأصبحت القري نسيا منسيا. فلم يكن أحد يهتم بتطهير الترع والمصارف ولا بدعم الفلاح الذى أصبح مضطرا لشراء مزيدا من الأسمدة لتعويض الأثر المفقود بغياب الطمي. ثم جاءت الضربة الثالثة بإدخال نظام البيع الإجبارى للمحصول إلى الدولة بأسعار تحددها مسبقا ولا يصح الطعن عليها وهي ضربة تكفل القضاء المبرم على العملية الإنتاجية الزراعية بأكملها، ليس على طريقة ماوتسي تونج بضربة واحدة من خلال القفزة الهائلة إلى الأمام، ولكن بالتدريج البطىء القاتل..
وبينما كان ذلك هو الوضع فى المجال الزراعي دخلت الدولة المصرية تجارب فاشلة فى مجالات التصنيع أضاعت فيها مبالغ طائلة بدون فائدة إنتهت كلها إلى أنه حتي اليوم لا يمكن تصنيع محرك سيارة يعمل بماكينة الإحتراق الداخلي Internal Combustion Engineبأيدي مصرية خالصة، رغم أن هذه تكنولوجيا القرن التاسع عشر !!
كما أهدرت الدولة المصرية كثيرا من الثروات وتركتها للتآكل والضياع عن طريق التأميم وعن طريق قانون إيجارات المباني الذى أهدر ثروة مصر العقارية عقودا طويلة ولا تزال آثاره قائمة حتى الآن.
وهذا الوضع بالذات جعل من سكني المدن أمرا رخيصا هينا مما عجل بالهجرة من الريف والتزاحم داخل المدن.
وفي كتاب لهيكل عن أحداث فترة الستينات وقبل نكسة يونيو يروي أن مجلس الوزراء قد إنعقد برئاسة الرئيس عبد الناصر وكان الموقف الإقتصادي حرجا للغاية والمالية العامة مكشوفة بحيث أن مشاريع مرافق تم الإتفاق عليها لم يعد ممكنا تمويلها. وحسب رواية هيكل فقد قال رئيس الوزراء فى تلك الجلسة ما معناه "إن الفلاح المصري يعيش منذ آلاف السنين على العيش والبصل وجلبابه ممزق ولهذا فهو لن يتأثر كثيرا لو زدناه عاما أو إثنين يقضيها على هذا الحال" !!..
وهذه الجملة البسيطة تشرح فى وضوح كامل العقلية التي كانت تحكم البلد فى تلك الفترة وتبين النظرة الإستعلائية التي كان الفلاح محطا لها من جانب السادة الحكام..
ثم جاءت ضربة أخري جديدة هي الإنفتاح على الدول العربية التي ظهر فيها البترول وبانت أرباح بيعه للمستهلك فى الدول الصناعية. وهذه الفوائض الكبيرة نتج عنها رغبة فى الإستثمار الوحيد الذى تمارسه معظم دول العالم الثالث، وهو إستثمار العقارات.
وبذلك وقع طلب هائل على عمالة غير مدربة تتحمل الجو الصعب فى تلك البلاد وتقوم بالعمل اليدوي لسلعات طويلة وهو أمر لا يتطلب أكثر من قوة التحمل، وهل هناك من هو أكثر تحملا من فلاح مصر؟
وبالتالي إنتقل آلاف الفلاحين المصريين للعمل فى دول الخليج وليبيا قياما بأعمال لا تتعلق بالزراعة ولا بالنبات مما أنساهم الزراعة ففقدت مصر مستودعا كبيرا للخبرة الزراعية عبر سنوات تقترب من نصف القرن..
وكالعادة كان الأستاذ لويس عوض من أوائل من تنبهوا إلى هذا الخطر الإجتماعي الإقتصادي حيث أنني قرأت له رأيا قديما يصب مباشرة فى هذا الإتجاه المناهض لإرسال فلاحي مصر للعمل كعمال يومية فى الدول العربية مما سوف يجعل الفلاح بنص كلماته التي أذكرها جيدا "ينسي أي المحاصيل تزرع فى الصيف وأيها فى الشتاء بينما لا يكتسب أي خبرة جديدة سوى حمل الطوب إلى الأدوار العليا"..
بيد أن الأخطر من ذلك كثيرا هو أن ذلك الخروج من وادي مصر (الذى أضحي رمليا من بعد أن كان طينيا)، جعل العودة إليه مرتبطة بتغيير النشاط نهائيا.. فمن عرف دولارات البترول لن يلوث يديه أو قدميه أبدا بالطين، أو الرمل.!!
وهكذا تولد طلب إقتصادي جديد على عقارات للسكني داخل القرية لأن المدينة قد تكون غالية أو لأن طبيعة الفلاح لا ترتاح إليها أو لأنه لا يريد التخلي عن زيه التقليدي أو لأنه يريد مباهاة أقرانه بنجاحه وفوزه بجزء معتبر من الثروة المالية ولذلك فهو لا يريد المدينة.. تعددت الأسباب والنتيجة واحدة، وهي رغبة الفلاح فى أن يتحول إلى عمل آخر مع بقائه فى قريته..وأن نظرته للثروة قد تحولت من تركيزها على التربة إلى تركيزها على ورق البنكنوت.. وهكذا بدأت صناعة قنبلة البناء على الأراضي الزراعية..