كانت أول خليفة للملك هنري الثامن الذى حول إنجلترا إلى المذهب الجديد هي إبنته إليزابيث التي ورثت العرش من بعده وتحولت إلى الملكة إليزابيث. وقد كانت فتاة حصيفة لم تتزوج ووهبت نفسها لمنصبها الذى كانت تمارسه عن طريق مجموعة من الرجال الاقوياء بعيدي النظر ممن كانوا يخدمونها بإخلاص.
وقد وقع فى عهدها أن تحولت إنجلترا إلى القوة البحرية الأولي فى العالم عقب أن هزمت الاسطول الإسباني الذى كان فى ذلك الحين لا يقهر وحطمت سطوته على الأطلنطي وبدأت إنجلترا تزحف إلى غرب الكرة الأرضية الذى كان قاصرا على الإسبان والبرتغال.
وبسبب إختلاف المذهب المسيحي تحول الإنجليز ألي فكرة أن البروتستانتية هي صنو التقدمية بينما الكاثوليكية هي قرين التخلف. فمنذ إعتناق الملك هنري للمذهب الجديد ثم هزيمة القوة البحرية العظمي إسبانيا فى محاولتها غزو إنجلترا لإعادتها إلى المذهب الكاثوليكي فى عهد الملكة إليزابيث الأولي وطريق إنجلترا إلى السيادة والنجاح فى العالم وفى الداخل أيضا اصبح طريقا سريعا رفعها فوق كثير من الدول الأوروبية الأخري. والبروتستانتية هي بالفعل مذهب مسيحي لا يقف عثرة فى طريق الفكر الحر، خلافا للكاثوليكية التي أثقلت نفسها عبر السنوات بطقوس ومراسم ومعتقدات أفقدتها الإتصال بالعصر.
ولهذ فقد لعب أبناء الطائفة البروتستانتية من الفرنسيين دورا عظيم الثقل فى تطوير الحياة الإقتصادية والفنية والفكرية والعسكرية فى الدول التي هاجروا إليها خوفا من بطش الدولة الفرنسية الكاثوليكية بهم قبل أن تقع ثورة عام 1789، إنها طائفة الهوجينوت التي أثرت الحياة فى ألمانيا وسويسرا وإنجلترا ودول أوروبا الشمالية.
وهذه الروح البروتستانتية التقدمية إنعكست فى جميع تصرفات إنجلترا فى مواجهة العالم. ففي تلك الفترة بدأت تستعمر القارة الأمريكية، وبدأت تنشر نفوذها فى البحر الكاريبي، ووصلت إلى شواطئ الهند وحصلت على منحة السلطان نورالدين سليم جهانجير لتمارس التجارة الغير محدودة مع الهند. والواضح أن كل ما كان يهم صانعي السياسة البريطانية فى تلك الفترة هو إثبات ان النظام "الجديد"هو أكثر جدارة من التظام القديم القائم على الخضوع للبابا.. فالصراع مع أوروبا الكاثوليكية كان إثبات للذات بينما كان التعامل مع باقي دول العالم ينهض على محاولة إبداء الوجه الحسن لبريطانيا وحضارتها ومذهبها السياسي والإقتصادي..
وهكذا بدأ البريطانيون فى صناعة فكرة إمبراطورية عالمية يشترك فى صناعتها كثير من الأجناس والأعراق على أساس المصالح المشتركة، وهو مصطلح كان يتردد كثيرا جدا كلما نوقش أمر إحتلال بريطانيا لبلد من البلاد. وبالطبع لم يكن هناك أي إشتراك فى المصالح بين بريطانيا وأي من هذه البلاد، ولكنه الجهل والإنبهار بالسلاح البريطاني والتنظيم الحربي الدقيق والتقاليد العسكرية المنضبطة للغاية التي يعرضها الإنجليز أمام تلك الشعوب وتنجح باستمرار فى كسب جميع المعارك. كما أن نمو الصناعة البريطانية بسرعة كبيرة كان مبهرا أيضا لتلك الشعوب التى شهدت منتجات لم تكن قد عرضت عليهم أبدا من قبل.
ثم حدث عقب ثورة كرومويل أن تطورت فكرة الملك الذى يملك ولا يحكم بطريقة جعلتها موضع إعجاب الشعوب الأخرى، رغم معرفتها أنها غير قابلة للتطبيق خارج بريطانيا. كما تطور الفكر الإقتصادي بأفكار وليام سميث الذى كان يري فى كل العالم سوقا لا يري فيه المتعاملون دين وهوية الأطراف، ولكن القيمة المضافة والربح.
كما أن الإستعمار الإنجليزى كان حريصا فى إنتقاء نوعية ممثليه فى الدول المستعمرة، فلم يكن يسمح للخارجين عن مقتضى الخلق والآداب المقبولة بتمثيل بريطانيا بل كان يرسل إلى هذه المستعمرات رجال من الأكاديميين والدارسين وأصحاب وجهات النظر السديدة حتي تمثل الإمبراطورية خير تمثيل، بينما يمنع خروج الحرفيين والعمال واصحاب التوجهات الغير لائقة فى التصرفات. وكل ذلك خلافا للطريقة الفرنسية التي كانت تبعث بكل طوائف المجتمع الفرنسي صالحه وطالحه مما قد يؤثر على المكانة التي تكتسبها الدولة الإستعمارية فى الخارج.
لقد كان الأمر يتشابه كثيرا بالفعل مع سلوك شركة تجارية تبحث عن الربح وتريد كسب مكانة لدي "عملائها"فى الخارج بدون نظر لا للدين ولا للأيديولوجية ولا للعرق.
وفى سياق ذلك كان القضاء البريطاني يتمتع بسمعة هائلة الإحترام حتي فى المجتمعات المستعمرة حتي أن غاندي الشاب قال لزوجته فى بداية حياته أنه واثق أن دعواه التي رفعها من موطنه فى ذلك الحين فى جنوب أفريقيا أمام القضاء البريطاني فى لندن سوف تجد أذنا صاغية ولن يلقي بها فى طي الإهمال، وقد كان ذلك فعلا هو ما حدث.
وكل هذه المبهرات لا علاقة لها بالدين ولا بكلمة الرب ولا تتعارض مع أي دين موجود فى أي مكان على الأرض. ولهذا كان المستعمر البريطاني يجد الأرض ممهدة أمامه على عكس الإسباني أو حتي الفرنسي. لقد بدأ نشوء ما يطلق عليه اليوم "التقاليد البريطانية"..
وهذا هو الجانب شبه المضئ من تجربة البريطانيين مع العالم الخارجي.
إلا أن هناك جانبا مظلما لا يمكن إغفاله..