بادىء ذي بدء لابد من إلقاء نظرة علي فيللي براندت نفسه لمعرفة خلفيات شخصيته.
فيللي براندت هو رجل ولد بإسم هربرت فرام فى مدينة لوبيك وهي ميناء فى شمال المانيا عام 1913 لأم لم تكن متزوجة من أبيه وإنما كان نتاج علاقة لم تستمر ولم توضع فى قالب قانوني وبالتالي خرج الطفل إلى الدنيا فى تلك المدينة العمالية الفقيرة لا يعرف له ابا إلا شخص يدعي فرام كان يعطف على الأسرة المكونة منه وأمه فاعتبره أباه وسمي على إسمه.
وهو آخر سياسي وصل للسلطة فى ألمانيا وهو من أوساط عمالية حقيقية وليس لمجرد إنتمائه للحزب الإشتراكي كما هو الحال في كل من تبعه. وهو لم يتلق قسطا من التعليم كما هو الحال فى كل جيله من العمال إذ إتجه مبكرا للعمل من أجل لقمة العيش وعن طريق النقابات شق طريقه إلى عالم السياسة.
وكما هو معروف من علم السياسة بالضرورة فإن الفاشية تساوي بين الشيوعية والإشتراكية البرلمانية لأنها تري كليهما عنصرا هداما يعمل على تقويض دعائم السيادة القومية وتخريب الإقتصاد الوطني. ولهذا فقد كانت أول خطوة إتخذها العامل الشاب هربرت فرام البالغ من العمر 20 عام عند وصول الفاشية للسلطة عام 1933 هو الهرب من المانيا سرا إلى النرويج.
وهناك تزوج إمرأة نرويجية وأنجب منها إبنه الأول وأطلق على نفسه إسم فيللي براندت، وهو الإسم الذى لصق به طيلة حياته.
نعود الآن إلى عام 1970.
عاد هذا الرجل إلى عاصمة بلاده بون بعد زيارة وارسو فوجد أبواب جهنم مفتوحة عليه من كل جانب إذ وجدت فيه المعارضة المحافظة هدفا سهلا يمكن إسقاطه بعد أن قضم من الثمرة المحرمة وأدي ركعة "مهينة لكل الالمان"أمام البولنديين.
وعلت الأصوات المطالبة باستقالته..
أنت لا تمثل نفسك ولكنك تمثل شعبا بأكمله وهذا الشعب لم يعطك الإذن لكي تقوم بتلك الركعة المهينة.. لقد تجاوز المستشار حدود ولايته ووجب عليه العزل.. لقد أساء لأرواح ومشاعر مئات الآلاف من القتلي وممن فقدوا ارضهم بسبب إستيلاء بولندا على أرض الآباء..
لقد تسبب المستشار الألماني فى إضعاف التحالف الغربي بأسره عندما قرر وحده أن يقوم بتلك السقطة فى بلد يحكمه نظام شيوعي يريد القضاء على الديموقراطية فى كل العالم..
كانت هذه بعض من الحجج التي ساقها نجوم المعارضة أمثال شتراوس وبارسل وكول ضد المستشار فيللي براندت الذى كان بسبب نشأته المعقدة وكونه طفلا لقيطا يتعرض كثيرا حتي وهو مستشار إلى حالات إكتئاب تصيبه برغبة فى البقاء بالمنزل وعدم ممارسة الحكم.. وقد كانت الحياة بالفعل قاسية عليه فهربه إلى النرويج الدولة التي إحتلتها ألمانيا أثناء الحرب وكان شعبها مستبسلا فى مقاومته للالمان وكان براندت نفسه مشاركا فى الحرب ضد بني جلدته من الألمان، كل تلك المواقف جعلت شخصيته حقا معقدة وشديدة الحساسية فى أشياء بينما تمتاز باللامبالاة فى حالات أخرى..
وقد سجل التاريخ خطابا شهيرا مليء بالحماس لونستون تشرشل رئيس وزراء إنجلترا يمتدح فيه بشدة المقاومة النرويجية ضد الإحتلال النازي ويقول عدة مرات: أنظروا إلى النرويج Look to Norway باعتبارها مثالا يحتذي على عدم التسليم بالأمر الواقع والعمل على التخلص من المحتل.. وهو لم يكن يعلم بالطبع أن من بين صفوف هذه المقاومة الشاب الإشتراكي فيللي براندت الألماني.. !!
وللتاريخ أحكام..
Brandt an die Wand!!
كانت هذه العبارة تكتب أحيانا فى صحف التابلويد وأحيانا على حوائط المدن الكبري وكانت تتردد على ألسنة الكثيرين شفاهة وهي تعني: أوقفوا براندت إلى الحائط.. (تمهيدا لإطلاق النيران عليه أى إعدامه لخيانته)..
كل هذه القصة التي يبدو أنني قد توسعت فيها الغرض منها كان لفت النظر إلى المسئولية التي كان براندت يعتقد أنها تقع علي عاتقه، رغم أنه شخصيا لم يكن له أي دور فيما حدث من أهوال علي يد النظام الفاشي بل على العكس فقد كان هو أحد رجال المقاومة المبكرة للغاية ضد هذا النظام، ولكن هذه المسئولية التي بدأ براندت ممارسة حملها لم تكن واضحة فى ذهنه كما هي واضحة اليوم فى أذهان السياسيين المحدثين.
وكالعادة فإن الخطيب المفوه والمفكر اللامع للحزب كان هلموت شميدت الذى وضع لتلك المسئولية ملامح أكثر وضوحا وأشد تحديدا فقد قال فيما بعد عندما أصبح هو نفسه مستشارا: نحن جميعا لم نشارك فى هذه الجرائم بصفة شخصية وليست لدينا مسئولية مباشرة عن وقوعها، ولكننا جميعا نحمل المسئولية السياسية لأنها إرتكبت بإسم الشعب الالماني وبالتالي فنحن نتحمل وزرها سياسيا وليس بصفة شخصية أو جنائية..
وهذه القصة تفتح لنا باب دراسة موضوع المسئولية..