كنت قد كتبت لكم من قبل عن أثر النظام البريطاني فى القانون على كل الفكر السياسي للإمبراطورية البريطانية. والنظام القانوني المقصود هنا هو نظام الشريعة العامة COMMON LAWوهي التي تنهض فى اساسها على الإعتداد بالسابقة القضائية وإعتبارها مرجعية يستند الحاضر والمستقبل إلى ماضيها.
وهكذا فإنه علي ما يبدو قد نشأ فى ذهن واضعي السياسة البريطانيين منذ منتصف القرن السابع عشر أن أفضل الطرق لتعديل الأوضاع أو إعادة رسم خطوط التماس والحدود هو العمل على إيجاد سابقة يستند إليها هذا التعديل. وهذه كانت بالضبط خطة التعامل مع أيرلندا علي يد جيش كرومويل. فقد كان الهدف هو إيجاد جو من التوتر يخلق حربالكي ينفتح باب التعديل عقب الإنتصار فى هذه الحرب. وقد نجحت هذه الخطة فى معظم الحالات تقريبا وعبر كل التاريخ الإستعماري البريطاني. ففي أيرلندا هزم الكاثوليك وبالتالي تحقق وجود سبب لتعديل الأوضاع على الأرض بطريقة نهائية وثابتة فتقرر تهجير الأيرلنديين بقانون التهجير الذي صدر عام 1652 والذى قضي عليهم بأن يتركوا أراضيهم الخصبة شرق نهرالشينونإلى غربه فى مناطق تصعب فيها المعيشة بحيث أنهم فى النهاية قد إضطروا للرحيل للعمل فى مزارع السكر فى أمريكا الوسطي أو هاجروا قسرا لأمريكا الشمالية، وكلاهما كان من ممتلكات التاج البريطاني.. ولم يروا بلادهم الأصلية بعد ذلك أبدا.. والفكرة القائمة خلف هذا التصرف تتلخص فى أن من خسر الحرب لا يحق له رفض ما يملي عليه من المنتصر، فإرادة المنتصر تتحول إلى قانون بينما إرادة المهزوم لا وجود ولا إعتبار لها..
ونفس الشىء وقع مع كل بلد دخله البريطانيون (خارج أوروبا) غزوا، إذ أن الإنتصار العسكري يعيد تكرار السابقة القانونية التي تثبت الإرادة البريطانية باعتبارها عمل قانوني.
كما أن المستعمرات البريطانية فى أمريكا الوسطي تم بناؤها بأيدي قراصنة بريطانيين كانوا يغيرون على سفن الأسطول الإسباني والبرتغالي وينهبونها بما فيها من منقولات وعندما رسخت أقدامهم على تلك الأراضي تم الإعتراف بهم من جانب الحكومة البريطانية بل أن أحدهم وهو الكابتن هنري مورجان حصل على لقب أدميرال البحرية.
كذلك كان النشاط البحري البريطاني هو القوة الدافعة خلف حركة إختطاف وحبس وترحيل مئات الآلاف من الأفارقة قسرا من غرب أفريقيا إلى الأراضي الأمريكية لإجبارهم على العمل كعبيد فى خدمة البيض وذلك فى فترة سيادة بريطانيا على الاراضي الأمريكية .
وفى الجهة الأخرى من العالم كان الأسطول البريطاني هو وسيلة نقل مخدر الأفيون من مكان زراعته فى إقليم البنجال فى الهند التابعة لبريطانيا إلى سواحل الصين لكي يتم تهريبه إلى قوارب تجار المخدرات الصينيين ليدخل البلاد ويدمر حياة مالا يقل عن 12 مليون صيني تحولوا إلى مدمنين، من بينهم إمبراطور الصين نفسه حسب الروايات المتواترة، وذلك فى القرن التاسع عشر.
وفى جميع هذه الحالات كانت الطريقة المتبعة لا تخرج عن نفس السيناريو، إختلاق سبب لدخول الحرب ثم الإنتصار فيها وإملاء الشروط على المهزوم مع الحصول على توقيعه على إتفاق يسبغ الصفة القانونية على الوضع الجديد. وعن هذا الطريق نشأت مستعمرة هونج كونج، وعن هذا الطريق تم إحتلال مصر بعد أن نجحت بريطانيا فى إستصدار قرار من السلطان العثماني بأن عرابي ضابط عاصي للسلطان وبالتالي تم خلق الغطاء القانوني لعمل بريطانيا الإحتلالي لمصر بأسرها. (وقد دفعت الدولة العثمانية بعد ذلك ثمنا غاليا جدا لهذا الإذن الصادر منها لبريطانيا بالدخول حين تبدلت الجبهات وانضمت الدولة العثمانية لألمانيا بعد 30 عاما من تلك الحادثة، إذ أن مصر كانت قاعدة العمليات الحربية البريطانية ضد الدولة العثمانية فى الحرب الأولي، وهي الحرب التي أجهزت على الدولة العثمانية وأنهت وجودها من التاريخ).
وهذه الطريقة كانت سببا فى إنتشار الجيوش البريطانية والسفن الحربية البريطانية حول الكوكب بأسره بحيث أن اصبحت بريطانيا إمبراطورية لا تغرب الشمس عن ممتلكاتها.
وهذه الطريقة هي بالضبط طريقة الإنتشار الأمريكي عبر بحار وقارات العالم فيما بعد، فقد ورثت الولايات المتحدة بريطانيا ليس فقط فى اللغة والمكانة الدولية كقوة عظمي، ولكن أيضا فى الفكر الستراتيجي والتنظيم القانوني.
فالولايات المتحدة دفعت بالهنود إلى غرب نهر أوهايو فى منتصف القرن الثامن عشر قبل الإستقلال بحيث لا يعودون إلى أرضهم فى شرقه مرة أخرى، تماما كما فعل الإنجليز بالايرلنديين فى أيرلندا قبل مائة عام من ذلك.... وهي تدفع دائما بحجة المصالح، وتقيم الدنيا ولا تقعدها من أجل الوصول إلى حالة "التجارة المتحررة من القيود"وتلجأ عند اللزوم للحروب المباشرة لكي تنشئ وضعا قانونيا جديدا يتماشي مع رغبتها ومصلحتها مثلما كان الوضع مع كولومبيا فى شأن إقليم بنما الذى تحول إلى دولة مستقلة فقط لكي يتسني حفر وتشغيل قناة بنما تحت السيادة الأمريكية وذلك بتدبير ومساندة وصلت إلى حد التهديد المباشر.
وكل هذه التصرفات منشأها بريطاني مختلف تماما عما سبقه من نهج أوروبي كاثوليكي فى الحروب الصليبية.