طرح الأستاذ "السيد ياسين"ورقة عمل للسياسة الثقافية لمصر ، لتناقشها لجنة بالمجلس الأعلى للثقافة ، وربما يتسع طرحها بعد نشرها فى الأهرام ( 9/8/2014) ليناقشها المجتمع الثقافى .
ورغم اعتماد الورقة مسبقا"كرؤية ثقافية"فانني اخشي من سيطرة الموقف الدولتي المعتاد في صياغة الاستراتيجيات,لكن هاهي المسالة مطروحة للنقاش , مقدرين للاستاذ السيد ياسين جهده التاسيسي بالطبع.
ولأنه تأسيسي بالذات فإنني أشير إلي عمل كبير سابق أشرف عليه الاستاذ ياسين بالمركز القومي للبحوث الاجتماعيه بإسم"المناخ الثقافي في مصر"عام 2000 , وكتب فيه عن خطة السياسة الثقافية وقتها . يراوح الاستاذ ياسين في ذاك البحث بين تعريفين , احدهما كسياسي , ينظر الي السيلسة الثقافية "باعتبارها توجهات الدولة الايديولوجية معبر عنها في مجمل القرارات والتدابير ... الخ بهدف تحقيق غايات تتفق وتوجهات الدولة الايديولوجية ...", والاخر كسوسيولوجي , ينظر اليها باعتبارها "مجمل التوجهات الثقافية ...تعكسها ايديولوجيات القوي السياسية والاجتماعية.."ولان هذا المفهوم الاجتماعي الاخير لا تعكسه الورقة المطروحة بما تتطلبه الاوضاع الراهنة , فاني اتمني علي وزارة الثقافة الالتزام باكتمال تماهيها مع ثلاثية الدولة \الثقافة \المجتمع,لتقوم الجماعة الثقافية بواجبها.
ولن نتحدث هنا عن خبرة مثقفى مصر الصعبة فى النقاش العام لأوضاع الثقافة , وما واجهوه من تحديات، بل وأزمتهم مع السلطة بين فترة واخري , وخاصة منذ بدء سياسات "الانفتاح"عند تأسيس اتحاد الكتاب (1975) ، أو عقب اتفاقيات "كامب ديفيد"وحركة مثقفى الثقافة الوطنية 79-1980، بل ومحاولات عقد مؤتمر عام للمثقفين فى أكتوبر 2001 ، وما واجه محاولاتهم من مشكلات مفهوم الهيمنة والدولتية أو التحرر منهما، وحتى ثورة المثقفين فى مايو / يونيو 2013 على وزير الثقافة الإخوانى لمفاهيمه المتردية فى الثقافة ، مما قاد لتحرك المثقفين ضده ضمن بشائر 30 يونيو , وهذه كلها مما لا يجب نسيانه الان خاصة بعد ثورة 25 يناير 2011 وامتدادها فى 30 يونيو 2013.
لم يكن المثقفون إذن غائبين كما يتصور البعض، أو كانوا دائما فى انتظار خطط الدولة الثقافية ومقابلة الرئيس وفق أيديولوجية رسمية كما يتصور آخرون ، وإنما قامت الجماعة الثقافية ، مثل الرموز التاريخية التى يكتفى بالتركيز عليها – بواجبهم الثقافى ..وإن بدأ ضعيفا ، فإننا يجب أن ندعم تفعيله ولا نسهم فى تآكله ..والورقة المقدمة لهم للنقاش الآن تنطلق من مفاهيم هامة بعضها لابد من مراجعته، وطبيعى أن يكون الاستاذ ياسين قد اختار بينها بحكم خبرته الطويلة ، لذا نضع هنا بعض هذه المدركات المختلفة لتوضع موضع النقاش الموسع على النحو الذى نرجوه...
ولنبدأ ببعض النقاط التى أرى أن الورقة تثير التحفظ على المفهوم المقدم لها . كما أن ثمة نقاط أخرى أرى أن الرأى بشأنها قد غاب بدرجة أو أخرى عن الورقة .
أولا: النقاط الجدلية
• تنطلق الورقة من ثقة فياضة بأن ثورة يناير استطاعت "أن تغير بشكل جذرى المجتمع السياسى السلطوى الذى كان قائما ...بل "واسقطت النظام بالفعل فى فترة قياسية ...!" . ولا أظن من جانبى أن كثيرين ولا حتى "الثوار"أنفسهم يقولون بذلك ...وبصرف النظر عن مناقشة هذه المسألة هنا ,فاني أرى تأثيرها الاكبر على خطط وضع السياسات الثقافية ، لأن ثمةفرق بين خطة تنطلق من "بنية ثورية ,او بنية تكتمل ثورتها "وهذاغير قائم ، وخطة تقوم على ضرورة "تطهير "الثقافة المصرية القائمة من بنى مترهلة وأوتوقراطية واتسمت لعشرات العقود بل ومئاتها بالجمود والعزلة .
• تتردد الورقة بوضوح بين حق جماهير يناير فى "الشرعية الثورية "وبين تناولها بشكل يكاد يكون سلبيا تماما لمعنى "سيكلوجية الحشد"التى تؤدى إلى "الاندفاع " ..والتطرف فى رفع الشعارات ، ورفع سقف المطالب ...كما تؤدى "الشرعية الثورية "فى رأي الورقة – إلى زعم بعض شباب الثوار أن ميدان التحرير ومظاهراته هى المعبر عنها ، حتى لو خالفت "الشرعية الديمقراطية ..الخ, وتؤدي هذه الصورة بالمخطط إلى التحفظ على مفهوم الحركة الشعبية و الثقافة الجماهيرية ، أو اتهام التحركات الشعبية "بالعفوية "الدائمة بما لا تلزمه بأى عمل تثقيفى فى اتجاهها ,او التاريخ الصحيح لها .
• و تنتقل الورقة وبنفس الروح إلى ربط مربك بين "المثقف التقليدى"، والناشط السياسى ..فالأول,عنده يقدم طوال القرن رؤية نقدية لأحوال المجتمع ..ويتبنى أيديولوجيات متعددة...أما الثانى ، فليس من الضرورى أن يصدر عن أيديولوجية محددة ..لانه يصدر عن قدرته الفائقة على تحريك الشارع " ...أو انه- فى موقع آخر- من "المحترفين الثوريين"الذين يصوغون التطرف...الخ
المشكلة هنا هى خلط دور "المثقف "بدور"الناشط السياسى"، بينما الجدل كما أتصوره بين المثقف التقليدى الذى سرعان ما يميل للمحافظة ، والمثقف العضوى الذى أصبح دوره مؤكدا فى عملية التغيير الاجتماعى ,والالتزام بالتحرر والتقدم.وهنا مطلبنا تجاه السياسة الثقافية التى ستدعم دور المثقف الجديد أو المجدد ، ودور الشباب ، واتاحة فضاءات الثقافة المختلفة لأفكار التجديد ,لا المحافظة التي تخدم ايديولوجية الدولة او اتهام الناشطين الدائم بالتطرف سواء كانوا شبابا أو شيوخا.
• تضع صياغة الاستاذ ياسين معنى "التراتبية الاجتماعية "ضمن أزمة القيم، وليس ضمن معالجة أزمة الفوارق الطبقية التى تقترب من حالة "الأبارتهايد"فى مجتمعنا!. فبعد أن تسخر الورقة –تقريبا- من حالة التناقض بين "شرعية الميدان"و"شرعية البرلمان"، فإنه يرى فى مجال أزمة القيم ان ما يسميه "نسف التراتبية الاجتماعية - عند المتطرفين - تعنى عدم الاعتراف بالمديرين والرؤساء وشرعية الانقلاب عليهم ...وعدم الاعتراف بالمكانات الادارية ...الخ."، وبهذه الطريقة وحدها تمضي معالجته للأزمة بين الأجيال ،او تصور شعار تسقط دولة العواجيز!
ولا أظن أن "السيد ياسين "بغافل عن أهمية التحليل الاجتماعى الجدلى لربط الثقافة بمفهوم الديمقراطية الاجتماعية ، التي يدعمها التغيير الثقافى المنشود خاصة وانه سبق و تحدث عن الخريطة الاجتماعية ، وثقافة الريف والمدن ,,, ..الخ ونعرف من خبرتنا ان ذلك لن ينطلق فى السياسة الثقافية فى أجواء الأوتوقراطية والبيروقراطية الضاربة.ناهيك عن أى تسلط مستدام للاستبداد الدولتى القديم والعميق!
• طرح الاستاذ"ياسين"حديثا طيبا عن سيكلوجية العلم والتعليم، وضرورة تجسير الفجوة بين التعليم الدينى والتعليم المدنى ...الخ. لينتقل لمطلب"الخطاب الاسلامى الوسطى"، والاشارة لدور الأزهر ، وعدم اعترافه بالكهانة فى الاسلام ، ويتحفظ على ترك عملية التطوير "للمتخصصين فى الدين"فقط، لكنه يقتصر هنا بدوره على القول بأن تجديد الفكر الاسلامى إنما يجب أن يفتح "للمفكرين المؤهلين للتجديد "بما يلائم حاجات العصر ، وخص منهم خريجى الحقوق من مثل شيوخهم القدامى...ويعرف الأستاذ "ياسين"أن عملية تطوير الموقف الثقافى من المسألة الدينية تحتاج إلى تطوير ثقافى وتعليمى شامل ، سيرتبط بالضرورة بالتحولات الاجتماعية ، بل والثورية، بما لا يبقى معه للأزهر من دور إلا كجامعة متخصصة وليس "مؤسسة الدين"فى مصر ، ذات المفسرين المتخصصين , كما هو الحال الان , فتنخرط فى السياسة وقتما تشاء أو يشاء لها الحاكم ...,وهنا لابد أن ندخل الكنيسة دائما فى مثل هذا المطلب الاصلاحى للظاهرة الدينية ,وذلك بسبب مخاطر تسييسها بين حين وآخر.
القضايا الغائبة :
سأطرح هنا عناوين القضايا التى أرى أنها غابت عن النص ,لأهمية انشغال خطة ثقافية بمعالجتها لتأثيرها البعيد فى العمل الثقافى نفسه
- المفهوم الجدلى حول "الهوية الثقافية"، وامتدادها الرأسى التاريخى والأفقى الاجتماعى . تذكرها الورقة متناثرة فى الصياغة ، بينما الجدل واسع الآن بين ثقافة مصرية أم عربية ؟، وعربية أم إسلامية ؟، وأين مكانة الفرعونى والقبطى؟ ,او مكانة النخبوي والشعبي فى العمل الثقافى ..الخ ؟ وهذا ما يتطلب ابرازه إزاء المناهج الجديدة فى تحليل التفاعل الثقافى ، والثقافة الجماهيرية ...الخ
- الثقافة السياسية : وتترك دائما للإعلام بينما مكانها التأسيسى ثقافى بالضرورة , فنحن أمام أوضاع ثقافية راسخة ، تستنكر "العمل فى السياسة " ( بلغة الفنانين..) بينما نحن فى أشد الحاجة لتنشئة ثقافية سياسية تعرف قيمة تنظيم المجتمع السياسى التعددى الديمقراطى ، وبالمثل نحتاج إلى صياغة وضع مصر مع الثقافات الأفريقية والآسيوية ، بل والوعى الفكرى بتحدى ثقافة الجنوب ، لثقافة العولمة ، والتعريف بمثقفى وعلماء القارات الثلاث ، وبقضايا مصر مع العالم ، ورؤية المصرى للعالم من حوله عربيا وأفريقيا ..
- يرتبط بالنقطة السابقة ، ضرورة الحديث عن طبيعة الحوار الحضارى ، أو التفاعل الثقافى العالمى . لقد استحوذ على هذا المجال لفترة طويلة ، الحوار الدينى ( وكان يتوقف للاسف على حوار الإسلام والمسيحية وليس حوار العقائد علي مستوي عالمي...) وفي فترة أخرى ساد الحوار الحضارى ( ليقتصر بدوره على الحوار العربى الأوربى )... فهل هذا هو "مفهوم العالم"أو تفهم حدود آليات العولمة..؟.وماذا عن طبيعة الحوار الديني والثقافي في مجتمعنا نفسه ؟ الا نعاون المثقف أو المواطن المصرى ليقارن بين هيمنة العولمة المتوحشة ، ومطالبة دولته بحضور ثقافي ,اقليمي و عالمى , يحول دون عزلته التى فرضها عليه النظام السابق عن عالم الجنوب .. وحتى عن حوض النيل!
- سأنتهى إلى أخطر ما تجاهلته الورقة عما قلت أن السيد ياسين نفسه قد نبه إليه فى مواقع سابقة، وهو أن "التوجهات الثقافية "تنعكس أيضا فى أيديولوجيات القوى السياسية المختلفة بكل ما تحمل من صراعات وجدل ..الخ . وأنا أتوقع أن يبادر "المسئول"إلى المحاججة بأن"وزارة الثقافة لا تعمل مع الأحزاب...الخ .! وأرى من جانبى أن هذا هو الموقف الدولتى بامتياز ، والذى أشرت إليه سلفا. إن ورقة عن استراتيجية الثقافة لابد أن تصدر عن "تجمعات ثقافية "، ورؤى ثقافية واجتماعية لمختلف القوي الفاعلة، لكي تحتوى هى وزارات التعليم والثقافة , والاعلام ...الخ ولا تحتويها الدولة ...وهنا ستصبح الجملة السابقة ذات مصداقية .