تأليف : محمد السويسي
الأزمة المالية التي انطلقت من أمريكا في العام 2007 لم تكن عشوائية أو مفاجئة كما يعتقد البعض ، بل إنها كانت معدة بدقة وعناية من قبل الرأسمالية الأمريكية ومن وول ستريت بالذات بما تضم من إقتصاديين وصناعيين وماليين ، لما لهذه الأزمة من مؤثرات عليهم جميعاً تتطلب مشاركتهم وتعاونهم لتحقيق الأهداف المرجوة منها .
ولقد سبق لي ان أوضحت معظم هذه الأهداف بالتفصيل الا أنني حددتها جميعاً بشكل مختصر . ولكني أعود اليها بين فترة وأخرى بمقال جديد وفق مايستجد من مشاكل على غير المتوقع أو المخطط له ، بما يتطلب من ضرورة الإيضاح بالشرح من المتخصصين الملمين ، كما المعالجة من اصحاب المال في وول ستريت الذين أدخلوا الطبقة الوسطى ومادونها في متاهة لاأفق لها أو نهاية ، وفق المعالجات العقيمة المطروحة من قبلهم وكأن الأمر لايعينهم ، أو أنهم بانتظار معجزة ما ، أو انهم يهملون الأمر بشكل متعمد دون احتساب للسلبيات ، التي لايمكن التكهن بنتائجها وانعكاسها على شريحة من الرأسمالية يمكن ان يطيح بها أو يطيح ببلدان واوطان كاملة .
والموضوع الذي ساورده هو مشكلة التضخم الزراعي الأمريكي الذي جاء كنتيجة غير محسوبة للأزمة المالية . إذ كان من أهداف الأزمة بشكل أولي وقف النزوح من الريف نحو المدن من أجل العمل في المصانع ، وبالتالي وقف التضخم العمالي الصناعي الذي زاد عن حاجة المصانع بأضعاف أضعاف ، بما أدى الى تنامي أحياء الفقر في مختلف المدن الرئيسية ، وبالتالي تزايد الجريمة على انواعها بشكل آلي مع التنامي المضطرد للبطالة .
لذا كان الغرض الأساس من الأزمة هو ترحيل العمال الفائضين من حيث أتوا ، ووقف الضغط على أصحاب المصانع من خلال النقابات في المطالبة الدائمة بزيادة الأجور بين فترة وأخرى التي زادت من كلفة السلع بما ادى الى انعدام المنافسة أمام البضائع الأجنبية المستوردة من دول العالم الثالث ، كما وقف أزمة السكن المتنامية لارتفاع اسعارها وبدل أجور السكن فيها بما يزيد عن قدرات اصحاب المداخيل المتواضعة من الموظفين لديهم ، نظراً للتوظيف المالي الطارىء وقتذاك في المضاربات العقارية .
كان الأمر معقداً للغاية في وضع حد لهذا السيل من الفائض العمالي او التخلص منه دون سلبيات قد تكون خطيرة ، لذا اتخذت إجراءات قاسية على سبيل التجربة ، إستبقت اربع سنوات من تفجير الأزمة المالية ، وفق خطة اقتضت رفع أسعار النفط الى عشرة أضعاف بهدف رفع اسعار النقل بما يؤدي الى مصاعب كلفة التنقل والإنتقال على سكان الريف في توجههم الدائم نحو المدن بحثاً عن العمل ، إلا أن رد فعل اصحاب المصانع برفع الصوت والتهديد بالإقفال ، خاصة في أوروبا ، للزيادة المضطردة في أسعار المحروقات التي وصلت الى ثمانية أضعاف أدى الى التراجع عن هذه النسبة في الزيادة المتنامية الغير محتملة وتخفيضها بحدود خمسة أضعاف بدلاً من العشرة التي كانت مقترحة .
ولما لم تفد هذه الإجراءات القاسية في وقف النزوح او وقف الضغط العمالي على المصانع ، دفع وول ستريت إلى اتخاذ تدابير أخرى مغايرة اشد قساوة وأذى ، وهي برفع اسعار المواد الغذائية والزراعية ، خاصة الحبوب الى عدة أضعاف كعمل ضروري وملح يسبق إنفجار الأزمة ، ساعد في رفعها إرتفاع اجور النقل مع زيادة اسعار المحروقات .
ومع ترتيب هذا الأمر في العام 2007 واتخاذ كافة الإستعدادات تم الإعلان عن إنفجار الأزمة المالية وإفلاس المصانع والمؤسسات المالية والتجارية الضخمة وتوقفها عن العمل وصرف عمالها وموظفيها للحد من طغيان التضخم المالي للطبقة الوسطى وتوسعها ، على حساب النمو الريفي ، الناتج عن الزيادة المستمرة في الأجور وتعويض الخدمات في المدن وارتفاع بدلات السكن من جراء التجارة بالعقارات المتواضعة بشكل محموم .
إلا أن كل ذلك سبقه توظيف رأسماليي وول ستريت أموالهم في الصناعات الصينية بكلفة رخيصة مع تدني الأجور العمالية لديهم بحدود الدنيا ، بحيث أن أجر العامل الصيني السنوي لايزيد عن أجر عامل فني أمريكي لأسبوع فقط .
مع إعلان الأزمة المالية أطيح بمعظم أموال الطبقة الوسطى المدخرة في البنوك التي بدأت تبحث عن أعمال بسيطة لاستثمارماتبقى لها من أموال ، إن في التجارة البسيطة أو الزراعة ، أما الطبقة العمالية الريفية فبدأت تبحث عن أعمال زراعية بسيطة لقاء اي أجر مع عودتها إلى قراها لتوقف مصانعها عن العمل وبالتالي فقدانها مداخيلها .
لقد نجح الإنتقال الى الزراعة عقب الأزمة ، بسبب العائد المربح المخطط له بارتفاع أسعارالمنتجات الزراعية ، و لعدم وجود حد أدنى للأجور وهو الأهم ، بحيث يبقى عقد العمل حراً بين العامل وصاحب الأرض مشافهة دون أي إلزام قانوني ، كما وان الطبقة الوسطى الريفية التي كانت قد نزحت للمدن عادت للعمل كعائلة واحدة دون أجر محدد سوى ماتقتسمه من أرباح متساوية عند بيع المحصول .
سار الأمر جيداً منذ العام 2008 دون أي عوائق الى حين الموسم الحالي لمحصول العام 2014 لترتفع شكوى المزارعين الأمريكيين من كساد منتوجاتهم . إذ أن نتيجة هذا الجهد والتركيز على زراعة الحبوب بما فيها من أرباح مغرية ادى الى وفرة زراعية هائلة مع التوسع الكبير فيها بما يزيد عن حاجة السوق ، خاصة مع نمو الزراعة الروسية والصينية بحيث أن الروس الذين اعتادوا استيراد القمح الأمريكي والكندي والإسترالي في وقت سابق ، أصبحوا حالياً مصدرين له بملايين الإطنان لتوفره عقب تفكك الإتحاد السوفياتي .
أما الصينيين فقد اتبعوا برنامجاً زراعياً دقيقاً ناجحاً بتطوير الريف عقب الأزمة المالية لمنع أبناء القرى الزراعيين من التوجه نحو المدن والتكدس في مساكن قذرة أشبه بالعلب بجوارالمصانع بحثاً عن عمل مع تقديمها الحوافز المغرية لهم في مناطقهم ، الزراعية والخاصة ، التي سبق ان تحدثت عنها بالتفصيل في مقال آخر ، بحيث لم يعد لهم من حاجة للإنتقال الى المدن ، لابل أن كثيراً من عمال المصانع عادوا الى قراهم من حيث أتوا بحثاً عن حياة افضل فيها عقب هذه التقديمات المغرية .
والمشكلة الملحة الآن لدى المزارعين الأمريكيين انهم يهددون بالتوقف عن زراعة الحبوب مع تكدسها لديهم إذا لم تجد الحكومة حلاً لكسادها بتصريفها أو التعويض عليهم كما كان يجري سابقاً في بعض الأحيان بدعم منتوجات زراعية معينة .
لقد كانت الحكومة الأمريكية فيما سبق تهب الفائض من زراعة الحبوب لديها لدول العالم الثالث ، للتعويض عن نهب ثرواتهم من قبلها ومن قبل العالم الغربي . إلا أنها منذ أكثر من ثلاثة عقود امتنعت عن اتباع هذا النهج طمعاً في المزيد من الأرباح ولو ادى الأمر الى أحراق الفائض من المحصول بحجة اضطرارها الى ذلك من أجل إستقرار الأسعار عالمياً ، بعد تعويضها على المزراعين بشراء الفائض منهم ومن ثم حرقه .
ماأود أن الخصة في النتيجة هو أن الهدف الزراعي من الأزمة برفع أسعار المزروعات من خضروات وحبوب وفواكه كان مؤلماً ومرهقاً على كافة شعوب العالم دون استثناء خاصة مع إجبار دول العالم على توقيع إتفاقية التجارة العالمية التي زادت من الإضرار بهم لصالح المزارع الأمريكي فقط .
ومع ذلك فهاقد بدأ المزارع الأمريكي يرفع الصوت مع كساد الإنتاج لديه لكثرة المستثمرين في هذا القطاع مع إنتقالهم من الصناعة الى الزراعة أو من المدن إلى الريف دون وضع خطة زراعية تحتوي أي أزمة مرتقبة .