وعلى الجانب الآخر من الأطلنطى لم تكن الأمور أهدأ، فقد بدأ الشباب فى التظاهر ضد قوانين التجنيد الإجبارى التى كانت تدفع بهم إلى أتون المعارك فى أوحال الغابات الفيتنامية وتعريضهم – فى أفضل الحالات - للأسر الفيتنامى القاسى للغاية فنزل الشباب إلى الشوارع فى تظاهرات غير مسبوقة فى التاريخ الأمريكى الذى لم يكن يعرف التظاهر على الطريقة الأوروبية وكان سلاح الحكومة هو تهمة التخريب ومساعدة الشيوعيين.
وفى أمريكا لم يكن الأمر مجرد ثورة شباب بل صراع مصالح بين منتجى السلاح والمستفيدين من إستمرار الحرب فى فيتنام بكل ما تحمله من عقود كبرى لتوريد سلاح للبنتاجون وبين شباب لا يريد الخروج من التعليم لكى ينضم لصفوف الجيش فى فيتنام أو على أفضل الحالات لكى يدفع ضرائب تستفيد من حصيلتها شركات الأسلحة..
وقد أدت هذه الإحتجاجات إلى تنازل الرئيس جونسون عن ترشيح نفسه لفترة رئاسة جديدة فى إنتخابات عام 1968 ونزل بدلا عنه نائبه هيوبرت همفرى عن الحزب الديموقراطى لمواجهة المرشح الجمهورى ريتشارد نيكسون..
أما فى إنجلترا التى يبدأ فيها عادة كل شىء ومن على أرضها تأتى كل الأفكار فقد وقعت صدمة إنشقاق عدد من كوادر المخابرات البريطانية عن الصف وإنضمامهم إلى الإتحاد السوفيتى حيث تم كشف شبكة جاسوسية سوفيتية داخل المخابرات البريطانية كلهم من المتعلمين فى الجامعات الراقية ممن كان يرجى لهم مستقبل مرموق فى خدمة مؤسسة الدولة وهى قضية بيرجس وفيلبى ورفاقهم، مما أضاف إلى أوجاع المؤسسة الرأسمالية المشتبكة فى حرب باردة مكلفة ضد الإتحاد السوفيتى.. وهذه الفضيحة أعقبتها فضيحة وزير الدفاع البريطانى الذى وقع فى جنون هوى إحدى الموامس وكان يباشر عمله وفتح أوراق الدولة فى مخدعها وهي بدورها كانت صديقة وعميلة لمندوب المخابرات السوفيتية فى لندن مما إضطره للإستقالة، إنه الوزير بروفوميو.. وقد هاجرت تلك المرأة بعد ذلك مباشرة إلى إسرائيل حيث توفت فيها منذ عدة أعوام بعد نهاية الحرب الباردة..
وكل تلك الأحداث هى مما يمكن إدراجه تحت بند الفساد، سواء جنسا أو مالا أو إساءة إستعمال النفوذ..
ولتحليل تلك الثورة ينبغى العودة إلى الجذور الأولى للنظم التى خرجت من رحم الأحداث الجسام التى وقعت فى الحرب العالمية الأولى وأنتجت تلك الأنظمة..
الواقع أن أوروبا عقب كوارث الحرب العالمية الأولى قد إنقسمت إلى معسكرين فكريين كبيرين أحدهما رأسمالى والآخر إشتراكى.. صحيح أن الإشتراكية لم تكن قد طبقت بعد فى أى مكان سوى فى الإتحاد السوفيتى الجديد ولكن أمل البشرية العاطفى كان معلقا بها.. وعلى الجانب الآخر كشفت الحرب عن عدم إكتراث الآلة الرأسمالية الصناعية بالحياة الإنسانية على الإطلاق حيث أن وقائع الحرب دلت على حدوث جرائم من جانب القيادات كانت تستوجب محاكمات رادعة لو أن هناك قانون يصلح لهذا الغرض فى ذلك الوقت.. فالقتال كان يدور بطريقة أقل ما يقال عنها هى أنها مذابح جماعية مقصود بها فقط المجد الشخصى للقادة دون أى إعتبار لحياة الجنود.. وقد كانت الأوامر تصدر مثلا على الجبهة الفرنسية الألمانية بالهجوم على جنود الأعداء وهم متخندقون فى مواقع ثابتة مما جعل من المهاجمين المتحركين المكشوفين صيدا سهلا تحصده بنادق المتمركزين فى الخنادق.. وتلك الجريمة كان يرتكبها القادة من الجانبين..
كما كان دور الشرطة العسكرية فى ذلك الزمان هو الوقوف خلف الصفوف لمنع محاولات الهرب من القتال المتلاحم ولم يكن دورها قتاليا.. وقد روى لى صديق إنجليزى عن جده الذى حارب فى تلك الحرب أن الشرطة كانت تهم بقتل من يحاول الفرار من تلك المحرقة.. والحرب العالمية الأولى كانت ربما آخر الحروب التى كان المتحاربون فيها يرون بعضهم بعضا وينظر كل منهم فى عين عدوه قبل أن يهم بقتله.. وهذه الحرب أنتجت من الأمراض النفسية والتشوهات الجسمانية اكثر مما أنتجته الحرب العالمية الثانية.
كما أن الألمان قد إستعملوا فى هذه الحرب الأسلحة الكيماوية وأهمها الغازات السامة.. وهذه جريمة أخرى..
المهم أن هذه الحرب قد نتج عنها جيل من المحاربين يتسم بالقسوة الشديدة واللامبالاة بالمشاعر الإنسانية حيث أن من رأى هولها وعاش فظائعها يهون عليه بعد ذلك كل أمر..
وتبع الحرب ما تبعها من بلاء إقتصادى وخراب سياسى تمثل فى صراعات بين التيارين الرئيسيين، الإشتراكية التى بدأت تظهر والرأسمالية القديمة التى أعادت تأهيل نفسها وأصبح يطلق عليها الحرية الإقتصادية المدعومة بالديموقراطية.. وفى ظل اليأس من إصلاح الرأسمالية التى عرفها الأوروبيون قبل الحرب الأولى ثم ذاقوا حنضلها خلال تلك الحرب الرهيبة، ظهرت الفاشية التى كان إسمها فى كل من ألمانيا وإيطاليا الحزب الإشتراكى، أو الإجتماعى، على حسب الترجمة.. وبالطبع لاقت هذه الأحزاب رواجا فى تلك الدول حيث أنها كانت تنهض على برامج سياسية وإقتصادية للدولة فيها باع طويل من المزايا المقدمة للمواطنين من إسكان ورعاية صحية وتعليم وخلافه..
وهكذا كان المواطن الأوروبى الذى ذاق المر على يد الرأسمالية العتيدة قد أصبح مستعدا لتقبل الشيطان لو أن الشيطان سيخلصه من سطوة الرأسمالية التى لم ترحم روحا واحدة خلال الحرب.. ولعل هذا الربط بين الرأسمالية وإستغلالها للطبقات الأخرى ووجود بعض عائلات الرأسمالية الغنية بطريقة مبالغ فيها من اليهود هو ما أدى إلى صعود التيار المعادى لليهود فى وسط أوروبا.. مع أن يهود أوروبا لم يكونوا جميعا من الأغنياء بل كان كثير منهم فقراء يعانون من شظف العيش مثلهم مثل باقى السكان فى أوروبا.. بل أن كثيرين من يهود ألمانيا والنمسا كانوا مطمئنين تماما إلى أن شيئا لن يمسهم فقد كان منهم من حصلوا على نياشين الواجب والأداء المتميز فى قتالهم ضد الأعداء فى الحرب الأولى، مما يجعل المساس بهم باسم الأمة هو من غير المتصور.. ولكن الواقع أن اليهود كانوا هم الأضعف فى السلسلة العرقية التى تعيش فى أوروبا حيث أن من السهل جعلهم كبش الفداء لكثير من الأخطاء المتراكمة عبر القرون..
وهكذا إتجه كثيرون فى أوروبا إلى تصديق الدعاية الفاشية التى تنادى بالسمو العرقى والحق الأعلى فى التسيد على باقى الأجناس واكتسبت الدعوة الفاشية قوة دافعة سريعة قفزت بها إلى مصاف السلطة وجاءت هذه الأحزاب لكى تحكم، دون أن تتخلى عن إسم الأحزاب الإشتراكية عنوانا لها..
وهنا تقع مسئولية المثقفين الأوروبيين من أمثال كورت كيسنجر الذين لم يقفوا وقفة قوية فى وجه تيار الديماجوج ولم يحدوا من إنتشار أفكاره الخطرة، بل بالعكس، كان كثير منهم قد إنضم إليه سواء عن سوء نية ورغبة فى الإستفادة أو فى سبيل بحثهم عن الهوية القومية التى قضت عليها إتفاقية فرساى المجحفة بالخاسرين.. وهذا هو بالضبط إتهام السيدة الشابة للمستشار الألمانى وسبب صفعها له علانية بتلك الطريقة المهينة..
فلما وقعت الواقعة وتمت تصفية ما لا يقل عن 50 أو 60 مليون إنسان فى الحرب الثانية بالإضافة إلى تدمير معظم مدن أوروبا على جانبى خط النار بدأ الناس يدركون عظم الخطأ الذى وقعوا فيه باختيارهم لتلك الأحزاب، حتى أن دساتير الدول الأوروبية حظرت فيما بعد الحرب إنشاء تلك الأحزاب وحرصت على النص على ذلك الحظر صراحة..
وهكذا بدأت الحقبة الديموقراطية التعددية فى أوروبا الغربية التى شاء لها الحظ أن تبقى بعيدة عن منال الدب السوفيتى ذى الأنياب الحديدية كما كان يوصف فى الإعلام الغربى أثناء الحرب الباردة، أولا بفضل مشروع مارشال لإعادة تعمير القارة حتى لا تقع فريسة لهذا الدب، وثانيا بفضل الحماية الأمريكية النووية..
وبذلك تكون الديموقراطية الأوروبية التى بدأت بعد الحرب هى الخيار الثالث أو النظرية الثالثة التى تعرفت عليها بلاد أوروبا بعد فشل كل من الرأسمالية العاتية والإشتراكية الزائفة التى كانت فى واقع أمرها عرقية عدائية دموية لا تعترف بغير نفسها فى هذا العالم..
ولذلك فإن تلك الشعوب بعد أن قهرت مرتين، مرة من الرأسمالية ومرة من الفاشية، إعتقدت أن حل المشاكل يكمن فى الديموقراطية الجديدة والتى سوف تجعل من كل إنسان إنسانا بحق وليس مجرد أداة فى يد الحكام أو أصحاب المال كما كان الحال فى التجربتين السابقتين..
ولعل هذا هو أفضل التفسيرات لرد فعل الشباب العنيف على أحداث الستينات حيث أنهم لم يردوا أن يعيشوا ما عاشه آباؤهم من تجارب قاسية تهلك الإنسان وتحطم العمران.. فرد الفعل جاء مساويا لحجم الأمل المعقود على الديموقراطية، هائلا، حتى لا تفشل التجربة وظهر يومها شعار حتى لا نكرر ما كان وشعار نحن لا ننسى وشعار إحرصوا من البدايات وكلها تصب فى نفس هذه العقلية الحريصة على عدم التكرار..
ولم يكن هناك أسهل من العثور على الهدف الذى لابد من ضربه والإجهاز عليه حتى تكتمل التجربة الديموقراطية، إنهم الكبار الذين لم يتعلموا ويريدون الحفاظ على نظم بالية ثبت تسببها فى وقوع كارثة النازية..
ولذلك إحتاجت تلك المجتمعات فترة بين 1945 و1968 لكى ينمو جيل جديد لا يعترف بسلطة الحكم الأبوي patriarchal الذى كان قائما لمئات السنين قبلها والذى أدى الخضوع له إلى كل تلك الأهوال.