و لم تكن مصر بعيدة عن كل ذلك وما حركة الإصلاح التي قادها محمد على ومن بعده الخديو إسماعيل إلا تنفيذ لهذه الفكرة القومية على الطريقة المصرية، بل أن إبراهيم باشا إبن محمد على كان يباهي مجالسيه بأنه جاء إلى مصر صغيرا ولكن قد "مصّرته شمسها"أي جعلت منه مصريا، وهو قول ينطوي لو أنه صادق على بعث للشعور القومي المصري ولو أنه مخادع لمجالسيه فهو لابد وأن كان له تاثير يبث فيهم الشعور القومي الذي كان مدفونا منذ قرون طويلة.
وأغلب الظن أن محمد علي بعد تجربة هزيمته فى اليونان قد راجع نفسه ورأي أن الفكرة القومية يمكن لها أن تنجح وتنشئ مملكة فقام بعد الهزيمة هو نفسه بإنشاء أسطول جديد وأسرع الخطي فى تقوية جيشه لكي يخرج بعد ذلك عن سلطة السلطان ويشق عصا طاعته ويهدده فى عقر داره فى إستنبول.. وهذه قصة أخرى ليس هنا محلها..
وقد وقع في عام 1885 أن دعا المستشار الحديدي أوتو فون بسمارك إلى مؤتمر دولي عقد فى برلين لمناقشة موضوع الكونجو الذى كان حتي ذلك الحين مطمعا خاصا للملك ليوبولد ملك بلجيكا يريد أن يستنزف ثرواته كما يحلو له ويستولي على عوائدها ملكا خالصا خاصا له وحده.
وفى هذا السبيل لجأ الملك ليوبولد إلى الإستعانة بكل من وجده مستعدا لارتكاب الفظائع فى سبيل الربح أو فى سبيل المال فجمع شذاذ الآفاق من كل أوروبا لكي يشرفوا على مناجم الماس والنحاس من الكونجو وكانت التعليمات واضحة فى شأن الإستنزاف الكامل للموارد.. ولجأ هؤلاء المجرمون إلى تشغيل المواطنين المحليين السود بطريقة أسوأ من تشغيل الحيوانات حيث كانت تقطع أياديهم وأرجلهم ويقتلون لأبسط مخالفة ترتكب فى حق النظام الذي بلغت صرامته حدا لا يتفق مع الإنسانية.
ويقدر المؤرخون أن ضحايا هذه العملية الإستغلالية للكونجو بلغت ما لا يقل عن 10 مليون مواطن أفريقي أسود فقدوا حياتهم على أيدي هذا النظام المبني على المرتزقة والمجرمين من كافة أركان أوروبا.
ومن خلال هذا المؤتمر أصبح السعي إلى الحصول على مستعمرات فى أفريقيا أمرا شرعيا لا غبار عليه حيث أن الدول الأوروبية كانت ترى في القارة السوداء منهبا إقتصاديا يمكن الإعتماد عليه وخصوصا أن الأحوال الإقتصادية فى أوروبا كانت تعاني من الكساد.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فهنا ينبغي أن يحني المرء رأسه أمام شجاعة إحدي السيدات وليس أحد الرجال.
إنها الصحفية المصورة البريطانية أليس سيلي هاريس. Alice Seeley Harris .
صحيح أنها لم تكن قد دخلت ساحة العمل بعد عندما إنعقد مؤتمر الكونجو، لكن جهدها وحدها ونشرها لصور فظائع حكم ليوبولد لمستعمرته هو أثار الرأي العام فى أوروبا وهو ما أدي إلى وقف هذه المجازر العنصرية فى حق السود حيث أجبر الملك ليوبولد على التخلي عن مستعمرته الخاصة وسلمها للدولة البلجيكية التي أدارتها بطريقة أقل إجراما من الطريقة السابقة وكان ذلك فى عام 1904. وهذه قصة من قصص ما هو أسوأ من الهولوكوست ولكنها لا تروي ولا يعرف كثيرون عنها شيئا حيث كان الأطفال يقتلون وتقطع أياديهم وارجلهم ويشوهون لإجبارهم على العمل سواء فى مناجم النحاس أو مزارع المطاط.
نعود الآن إلى مؤتمر عام 1885..