وكان كل من سن وطبع وتعليم وذكاء وتاريخ هونيكر جميعا من العوامل التي لا تساعد على المرونة أو القدرة علي تعديل مواقفه السياسية والأيديولوجية.
وهكذا لم يتنبه هونيكر إلى التغيير الهائل الذى جاءت به أحداث المجر قبل ذلك فى بداية ذلك العام. إذ أنه بفتح الحدود بين النمسا والمجر لم يعد هناك ما يمنع المصطافين الألمان الشرقيين من الذهاب إلى المجر باعتيارها من دول "الخارج الإشتراكي"ومن هناك يتم عبور الحدود المفتوحة إلى النمسا ومنها إلى جنوب ألمانيا فى بافاريا حيث يتقدمون رسميا بطلب التجنس بالجنسية الألمانية الإتحادية الغربية – وفقا لنص الدستور الألماني الذى يعتبر أرض ألمانيا الغربية وطنا لكل الألمان – ويتحولون فى لحظات إلى مواطنين غربيين.
وهذا هو بالضبط ما كان يقع طوال ذلك الصيف. فقد تم إستنزاف الإقتصاد الألماني الشرقي عن طريق هجرة الشباب الطموح الرافض للعيش فى ظل الأوضاع الإشتراكية السابق بيانها ففقدت ألمانيا الشرقية كثيرا من العاملين مما تسبب فى تباطؤ عجلة الإنتاج وبالتالي وقوع أزمات وإختناقات فى سلسلة الإنتاج أدت إلى ندرة السلع وخواء الرفوف فى محلات بيع المواد الإستهلاكية والغذائية. وتزامن هذا الخواء مع إحتفالات أكتوبر التي حضر إليها جوربي من موسكو يحمل رسالة أخري لا تقل إيلاما لهونيكر ولنظامه.
فقد أعلن جورباتشوف قبل ذلك عدة مرات أن إعادة البناء هي أساس سياسة الإتحاد السوفيتي فى مرحلته الجديدة. وكانت مناهج التعليم فى ألمانيا الشرقية على إمتداد عمر تلك الدولة تقوم بتمجيد الإتحاد السوفيتي البطل ورفع إسهامه الحضاري الإشتراكي فى التاريخ الإنساني إلى مصاف القداسة وكان الشعار المرفوع فى كل مكان هو أن النظر إلى الإتحاد السوفيتي والعلم منه هو نظر إلى النصر وتعلم دروس فى النجاح.
وهكذا وقع نظام ألمانيا الشرقية بين فكي الكماشة، فهو لا يستطيع ولا يجرؤ على إنتقاد الإتحاد السوفيتي علنا وفى نفس الوقت لا يمكنه قبول مبدأ إعادة البناء الصادر عن الإتحاد السوفيتي نفسه والذى منه يتعلم المرء النجاح ويبصر بعينيه النصر.
وفى أحد لقاءات جوربي باللجنة المركزية للحزب الألماني قال هونيكر موجها الحديث إليه:
نحن لا نحتاج إلى إعادة البناء، فلدينا فى ألمانيا الديموقراطية الإقتصاد رقم 9 فى العالم، والعامل العادي يسكن شقة لا يزيد إيجارها عن 70 مارك، ونسبة تشغيل العمال هي 100% حيث أنه لا توجد بطالة فى ألمانيا الديموقراطية.
وجاء رد جوربي علي ذلك سريعا وحاسما ومفتوحا، فقد قال للصحفيين المتحلقين حوله: "إن من يتأخر في سماع نبض الشارع تعاقبه الحياة".
لقد كانت ألمانيا الديموقراطية تحتضر بالفعل، وكان الجميع يعرفون ذلك إلا هونيكر نفسه، حيث أدخل نفسه فى حوصلة من الوهم تقيه من سماع ومشاهدة كل ظواهر الإحتضار فلم يلحظها.
كذلك لم يلحظها قائد عربي تاريخي هو ياسر عرفات الذى كان يجلس فى الصف الأول من المهنئين بالعيد الأربعين لتاسيس الجمهورية الإشتراكية، وهو لا يعرف أن النظام سوف يسقط خلال أسبوعين!!
وقصة تصنيف ألمانيا الديموقراطية علي أنها القوة الإقتصادية التاسعة فى العالم هي قصة تنهض على الوهم والمغالطة المكشوفة.
فألمانيا الشرقية كانت تعتبر أن عملتها المارك الشرقية مساوية فى سوق العملات للمارك الغربية. وبالتالي كان ناتجها القومي عندما يقوم بهذه العملة يجيء بالفعل فى المركز التاسع. إلا أن حقيقة سعر التبديل كانت لوقت طويل 1:3 أى أنه لكل مارك غربية يتقاضي المتعامل ثلاثة ماركات شرقية. وفي نهاية ذلك الصيف وصل السعر إلى عشرة ماركات شرقية لكل مارك غربية واحدة، وهو مقياس مؤشر على الإنهيار الوشيك. أضف إلى ذلك أن فاتورة الطاقة فى ألمانيا الشرقية كانت تدفع بسعر تفضيلي رخيص للغاية كميزة مقدمة من الشقيق الإشتراكي الأكبر، الإتحاد السوفيتي.
وهكذا أقيمت الإحتفالات فى برلين الشرقية بحضور قادة الدول الإشتراكية والصديقة بينما المظاهرات محتدمة فى مدن لايبزج وبرلين وكيمنتز (كان إسمها مدينة كارل ماركس). وكما هو متوقع ظن هونيكر أنه قادر بالبوليس على إخماد هذه الفتنة ولم ير فيها أي خطورة، كل ذلك رغم نزيف القوي العاملة الذى كان يتسبب فى فقدان الآلاف يوميا عبر الحدود المفتوحة مع المجر.
واكتملت جميع عناصر السقوط المدوي..