عندما تدافعت حركة المظاهرات فى أكتوبر عام 1989 قرر المكتب السياسي للحزب الشيوعي عقب نهاية الإحتفالات مباشرة إقالة الرئيس هونيكر من منصبه ومنحه إجازة لكي يستجم وكان ذلك معناه تحديد إقامته فى مكان بعيد عن برلين. وعندما سقط السور وأصبح من المحال إيقاف عجلة التوحيد عن الدوران سافر هونيكر إلى موسكو هربا من إحتمال ملاحقته قضائيا إلا أن أحداث الإتحاد السوفيتي نفسه دفعت بالحكومة الروسية إلى إعادته إلى برلين حيث دخل السجن بتهمة إصدار أوامر ضرب النار على من يحاول الهرب من الشرق للغرب.
إلا أن محاكمته كانت فى الأساس شأنا سياسيا كما أن المحققين لم يهتدوا إلى أى أمر كتابي صادر عنه وبالتالي تفتق ذهن السلطات إلى أن صحته معتلة ولا يستطيع مواصلة المحاكمة فخرج متهما كما هو ولم تبرئه أي محكمة. وكانت زوجته قد غادرت البلاد إلى شيلي حيث تعيش إبنتهما. وكانت رغبة هونيكر اللحاق بهما ولكن نظرا لاتهامه الجنائي كانت أمواله واقعة تحت الحجز بحيث أنه لا يستطيع حتي شراء تذكرة السفر.
وعند هذه اللحظة تطوع أحد النجوم ممن كانوا حاضرين فى الصف الأول من ضيوف إحتفال الذكرى الأربعين لإنشاء ألمانيا الديموقراطية قبل ذلك بعدة أعوام فى أكتوبر 1989 بأن يدفع هو ثمن التذكرة: الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.
سافر هونيكر إلى سانتياجو ومات بعد ذلك بفترة قصيرة حيث أنه كان بالفعل فى مرض الموت وانطوت صفحته إلى الأبد.
أما إيريش مليكه الوزير القوي جدا بوزارة أمن الدولة والذى كان يعرف كل شىء داخل ألمانيا الشرقية فقد قدم للمحاكمة بتهمة قتل شرطي فى مدينة برلين عام 1930 فى فترة الفوضي التي عمت جمهورية فايمار حين كانت القوتان السياسيتان النازية والشيوعية تتناحران على السلطة فى ظل دولة مفككة عقب الحرب العالمية الأولي. وكان هةنيكر بالطبع عضوا فى الحركة الشيوعية وقام بقتل شرطي دورية فى أحد تلك المظاهرات. ولكن لم يمكن القبض عليه حيث أنه هرب إلى الإتحاد السوفيتي قبلة الشيوعيين فى ذلك الزمان. ولما كانت جريمة القتل لا تتقادم فى ألمانيا فقد فتح التحقيق من جديد وقدمت عريضة الإتهام ودخل ميلكه السجن بالفعل ولكن نظرا لظروفه الصحية وتقدمه قى السن، حيث كان قد جاوز الخامسة والثمانين، فقد توقف نظر الدعوي وأخلي سبيله لعدم قدرته على الإستمرار إذ أنه بفعل السن والصدمة والمرض فقد ذاكرته وأصبح ذاهلا لا يعي شيئا حوله حتي مات بعد ذلك بقليل فى برلين.
ويبقي ماركوس فولف هو الشخصية صاحبة القصص الأشد إثارة والأكثر غموضا..
عبر كثيرون من أصدقاء الصبا لهذا الرجل فى لقاءات تليفزيونية أجريت عقب سقوط ألمانيا الشرقية عن دهشتهم الشديدة من أن رجلا فى ثقافة وعلم وخلفية ماركوس فولف يقبل القيام بدور فى ذلك النظام القهري. فقد كان والده طبيبا وأخوه مخرج سينمائي والعائلة بأسرها من المثقفين اليساريين الذين إضطهدوا على يد نظام هتلر خلال الثلاثينات مما دفعهم إلى الهرب إلى الإتحاد السوفيتي.
وهو رجل ذواق للفن ومحب للقراءة والثقافة ويعشق الموسيق ولا يبدو عليه أنه من هؤلاء الضباط الذين يعملون فى مجال المخابرات. ولكنه عقب عودته من الإتحاد السوفيتي عمل صحفيا ثم إختفي لفترة كان خلالها يتلقي تدريبات فى الإتحاد السوفيتي.
وكان قسم العمليات الخاصة بمخابرات ألمانيا الشرقية هو أقوي قسم فيها وله أكبر قدر من الميزانية المرصودة. وكانت المخابرات تلجأ إلى حيل غير شريفة مثل نظام التجسس المعروف بإسم روميو والذى تسبب فى عدة محاولات للإنتحار من جانب السيدات الغربيات لدي إكتشافهن حقيقة الروميو.
وقد إستقال فولف من منصبه عقب أن نجحت المخابرات السويدية فى تصويره فى ستوكهولم فى أوائل الثمانينات. وجاءت هذه الإستقالة فى صالحه حيث أنه لم يتعرض لأي مساءلة قضائية حول نشاطه أثناء الحرب الباردة. واتضح فيما بعد أن خروجه من دائرة الملاحقة إنما جاء بناءا على شفاعة أو وساطة إسرائيلية. ولا يقع السبب كما يعتقد البعض فى يهوديته، بل فيما هو أعمق من ذلك كثيرا.
فقسم العمليات الخارجية كان ينسق أيضا ويقوم بتدريب الفصائل الفلسطينية خلال السبعينات والثمانينات. وقد رأينا ياسر عرفات جالسا على منصة ضيوف الشرف الكبار فى إحتفالات الذكرى الأربعين.
والذى لم يكن يعرفه عرفات عندما كان يقوم بتهنئة هونيكر بالعيد الأربعيني، هو أن جميع أسرار الفصائل الفلسطينية المتدربة فى ألمانيا الشرقية أو المتعاونة مع مخابراتها فى عمليات خارجية كانت تنقل بانتظام إلى المخابرات الإسرائيليةالتي نجحت فى تجنيد فولف. وهكذا كانت حكومة ألمانيا الشرقية تسير فى إتجاه وماركوس فولف يسير فى الإتجاه المعاكس، فقط فيما يتعلق بالأمور الفلسطينية الإسرائيلية.
بل أكثر من ذلك.
فى عام 2002 قرأ المواطن الألماني أن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية قررت إعادة الأرشيف شبه الكامل من أوراق مخابرات ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا بعد فحصها والإحتفاظ بما كانت تراه مناسبا لها، إذ أن هذا الأرشيف قد إنتقل بالكامل (لا أحد يعرف كيف) خلال أحداث الثورة عام 1989 إلى حيازة الولايات المتحدة الأمريكية. ولا أظن أنا شخصيا أن ماركوس فولف كان بعيدا عن تلك العملية.
ختام وإفصاح
وهكذا فقد رأينا كيف كانت الحياة تسير في ألمانيا الشرقية سواء فى مجال الحريات أو العمل أو السفر أو الإقتصاد أو الأمن.
فهل يعقل أن يحن عاقل إلى الحياة فى ظل هذا النظام؟
إن لفظ Nostalgia يعني فى اللغة الحنين العاطفي إلى الماضي. وبالفعل فهناك كثيرون من مواطني ألمانيا الشرقية يجاهرون بحنينهم إلى تلك الحياة وإلى الأيام "الجميلة"التي عرفوها فى ظل النظام الشيوعي.
ولله فى خلقه شئون.