Quantcast
Channel: Marefa.org
Viewing all articles
Browse latest Browse all 560

تعطيش الجيم

$
0
0

 

 

حنت ابنتي حديثا جدا علي ما يبدو الي أصلها المصري وحجزت كورس لغة عربية فصحي في ألمانيا..

ومعلمتها ‏شابة مصرية في حوالي الثلاثين من العمر محجبة .

وهي تتذكر جيدا عددا معقولا من الكلمات العربية التي كانت متداولة في المنزل  حيث أنني فى البداية كنت أصر علي الحديث باللغة العربية  فكانت بحكم الفضول الطفولي تسمع وتراقب.

وبما أنها قد التحقت بهذا الكورس بكامل إرادتها الطوعية وعن رغبة ذاتية فهي مهتمة للغاية باللغة العربية وتريد بالفعل أن تصل فيها الي درجة طيبة. ولذلك فهي تسألني باستمرار عن كلمات ومصطلحات وخلافه.

‏ولما كانت معارفها في العربية مبناها ما كانت تسمعه مني في المطبخ أو أثناء حديثها اليومي فقد جاءت تلك المعارف مؤسسة علي النطق العامي المصري، الذي لا يتفق تماما مع النطق العربي الفصيح الذي هي الآن بصدد دراسته.

ومن أهم هذه الاختلافات قضية تعطيش الجيم.

فالأصل في اللغة العربية هو تعطيش الجيم حتي أن معلم الكيمياء في الصف الثالث الثانوى أخبرنا عن صديق له اسمه عبد الجواد اعير للعمل في العراق وكاد العراقيون أن يفتكوا به لأنه ينطق اسمه بالطريقة المصرية مما يجعل المعني يتبدل في الفهم العراقي الي عبد القواد!!

ولكن الشئ الملحوظ أن الشعب الوحيد الذي لا يعطش الجيم من بين كل الشعوب العربية هم المصريون.

وأتذكر جيدا جدا أنني في فترة الصبا كنت استمع الي خطب الجمعة في الراديو وفي المسجد واصغي الي بيانات المفتي في أول رمضان والعيد وخلافه وكانت كل حروف الجيم التي ترد بهذا الخطاب الديني الرسمي بلا تعطيش..

وليس لدي من تفسير  لهذه الظاهرة الشاذة عن جميع قواعد ممارسة القوة السياسية والسلطان إلا أن هذا النطق ربما لم يكن له وجود فى اللغة الفرعونية القديمة، فالجيم المعطشة تختلف طريقة نطقها عن الشين العميقة بل هي خليط بينها وبين الدال.
ففي العادة يفرض المحتل ثقافته عن طريق عنصري لغته وقانونه إن هو أراد  هضم الأرض التي قام بضمها. وهذا هو الأسلوب الذى تبعته كل قوي الإحتلال عبر التاريخ الإنساني المتراكم وقد كان أحدثهم المستعمر المستوطن الأوروبي فى كل من أمريكا وأستراليا.
إلا أنني بإمعان التفكير فى هذا الأمر ربما أكون قد توصلت إلي نتيجة أخرى وهي أن مصر لها طريقة كامنة وأسلوب مستتر فى الحفاظ علي بعض من التميز عن كل القوي التي قامت بغزوها عبر التاريخ الطويل.
فالإسكندر الأكبر مثلا إضطر أن يسبغ على نفسه صفة الإله الفرعوني حتي يلقى القبول، وكذلك فعل البطالمة من بعده وحتي زالت دولتهم بموقعة إكتيوم التي جاءت بالحكم الروماني.

والغزو الروماني لمصر كان فاتحة خير على من قام به وهو جايوس أوكتافيوس الذى هزم مارك أنتوني وحليفته الإغريقية كليوباترا. إذ أن أوكتافيوس تحول بعد ذلك إلى الإمبراطور أوجوستوس الشهير جدا فى التاريخ الروماني والذى تسمي الشهر الزائد الآخر علي إسمه بعد الشهر المسمي على إسم يوليوس. فغزو مصر كان فى العصور القديمة هدفا ستراتيجيا عالي القيمة يضمن لصاحبه سموا علي كل منافسيه..

ولم يكن الإستيلاء على مصر فقط هدفا عالي القيمة بل لابد أنه كان أيضا له سعر. والسعر الذى كان يدفعه المحتلون لمصر هو غالبا التعاضي عن أمثال هذه الأمور التي لا تمنع المحتل من الإستغلال الإقتصادي للمصريين وفى نفس الوقت تعطيهم الشعور بالإختلاف والتميز. وكلنا نعرف محتوي الخطاب الذى بعث به القنصل البريطاني فى القاهرة لحكومة بلاده فى بداية الحرب العالمية الأولي يحذرها بشدة من تنفيذ فكرة ضم مصر نهائيا إلى إنجلترا بحيث تذوب فيها وتمحي هويتها كدولة ويصبح سكانها رعايا إنجليز.. وهذه كانت هي الفكرة السائدة فى لندن.. إلا أن خطاب القنصل - الذى تعده الحكومات المتحضرة مستودع خبرتها فيما يتعلق بالتعامل مع الدولة التي يقيم فيها - قد إجتز هذه الفكرة من أساسها وساد فى النهاية فكر القنصل ولم تضم إنجلترا مصر  إلي ممتلكاتها وظلت مصر موجودة ولكن تحت الحماية.

فالحفاظ على الشعور القومي المصري كان على إمتداد العصور هام جدا بل وحيوي لكي يستطيع المصريون التعامل مع واقع الإحتلال.

وبنفس الطريقة ومن خلال هذا الإفتراض يمكن النظر إلى التاريخ الديني لمصر..

لو أن المرء قد استعرض التاريخ الديني لمصر منذ عهود الفراعنة الي نهاية القرن العشرين فلن يجد نهجا مختلفا عما وجدناه في مجال اللغة، أي أن المصريين يتاقلمون علي الظروف المتباينة تاقلما ليس كاملا بل يحتفظون بشئ ما يعطيهم الإحساس بالتميز ويشبع عندهم العزة القومية.


Viewing all articles
Browse latest Browse all 560

Trending Articles