تأليف : محمد السويسي
أول مايتبادر الى الذهن بالنسبة للجميع بأن انخفاض أسعار الذهب قد يكون بسبب الأزمة الأوكرانية ، بما جعل أمريكا تقدم على خفض اسعار الذهب لمعاقبة روسيا . إلا أن الواقع الحالي غير ذلك تماماً ، لأن روسيا ليست في معرض بيع أي من مخزونها الذهبي ، ومع ذلك فإن هذا الإنخفاض المفاجىء سبب لها بعض الإشكال والإرباك مع القطاع الخاص من الشركات الروسية المنقبة عن الذهب .
إذ ان انخفاض الأسعار خّلف لهذه الشركات فائضاً من الذهب تعثر تصريفه ، كما جرت العادة سنوياً ، لعدم الإقبال عليه داخلياً كما وانعدام الطلب الخارجي بانتظار إستقرار الأسعار ، مما اوقعهم في أزمة مالية فهددوا بإقفال مناجمهم والتوقف عن التنقيب إذا لم تعمد الحكومة الروسية الى شراء ذهبهم بالسعر المتداول حالياً خوفاً من مزيد من الإنخفاض ، مما اضطر الحكومة من خلال البنك المركزي الى شراء كامل الذهب منهم تشجيعاً لهم للإستمرار في أعمالهم .
ولكن مايدعو الى الإستغراب هو تغير المعادلة التي درج عليها السوق أغلب الأحيان ، وهو أنه عندما تنخفض أسعار الذهب ترتفع اسعار النفط ، وبالمقابل فإنه عندما يرتفع النفط ينخفض الذهب للمحافظة على معدل ضبط النقد الورقي أو بالأحرى ضبط تضخم الدولار الأمريكي ليظل محافظاً على قوته والإقبال عليه .
ومن هنا نتساءل مالذي دعى وول ستريت بالتشاور والإتفاق مع البنك المركزي والحكومة الأمريكية الى تخفيض أسعار الذهب والنفط في آن معاً على غير العادة ، رغم تصاعد التوتر في العالم ؟!
إذ أن هذا الموقف الأمريكي في تخفيض أسعار الذهب والنفط بما ادى الى ارتفاع قيمة الدولار جاء ايضاً مغايراً لكل الطروحات الإقتصادية على غير العادة ايضاً ، لأنه لأول مرة منذ عقود تسعى أمريكا إلى لجم إرتفاع الدولار وليس لجم تضخمه وتدني قيمته . فما سر ذلك وماهو الجواب عليه ؟
الجواب سيأتينا بعد مقدمة صغيرة كما قد يأتي في السياق بما سنعرضه من تفاصيل . ولكن لنعد قليلاً إلى الوراء من العام 2007 عنما انفجرت الأزمة المالية العالمية بتخطيط محكم من الرأسمالية الأمريكية التي اقتضت إفلاس معظم المؤسسات المالية الضخمة والبنوك والشركات والمصانع في سبيل وضع خطة إقتصادية مستقبلية لمستقبل افضل للشعب الأمريكي على حساب الأمن الإجتماعي والإقتصادي للشعوب الأخرى .
وقبل ان استرسل فلابد من أخذ العلم أن الخطط الإقتصادية قد تفشل وقد تشيخ كما البشر ولاتتوالد في شكل جديد إلا من قبل عباقرة من المخططين الإقتصاديين الذين لانجدهم وللأسف لدى الغرب والشرق الأوسط إلا في أمريكا والمانيا فقط دون الدول الأخرى التي يتبع معظمها في تخطيطاته للمدرسة الإقتصادية الأمريكية التي لاتتناسب وكل المجتمعات الأخرى. ومن هنا نجحت الصين واليابان وبعض الدول الآسيوية إقتصاياً وصناعياً لانها اتبعت نظاماً إقتصاديا ومالياً وضريبياً وإدارياً مستقلاً وملائماً لها ، إلا أنه مغاير تماماً للأسلوب الأمريكي والأوروبي .
اما العرب فإنهم لازالوا يسيرون في نهجهم الإقتصادي بعكس التيار ، لانتهاجهم خططاً لاتتلائم ومجتمعاتهم نظراً لاتباعهم المدرسة الأمريكية التي تٌدّرس في الجامعات منذ مئة عام إلا أنه لايعمل بها في المجتمع الغربي مطلقاً على أرض الواقع لأنه فات عليها الوقت ، كما أن الإقتصاد هو علم متغير ومتجدد بشكل دائم وفقاً للمشاكل والظروف الطارئة التي تشترط قدرة على المتابعة اليومية من واضعي الخطط .
ومن هنا لازال العرب على تخلفهم العلمي والصناعي والإقتصادي في كل المجالات لقصر نظر حكامهم وحكوماتهم ، لأنهم هم من يقررون ويرسمون المستقبل المجهول وليس شعوبهم المغلوبة على أمرها لانتفاء العدالة والديمقراطية في مجتمعاتهم وعدم الجرأة على التحديث .
اقتضت الخطة الإقتصادية الأمريكية الجديدة ، للقرن الواحد والعشرين ، في العام 2007 الى إفلاس المصانع والمؤسسات كما ذكرنا أعلاه ، لأسباب عدة منها ، التخلص من إرتفاع الأجور بما فيه الحد الأدنى لدى القطاع الخاص . إذ أن ذلك أثر على كلفة السلع الأمريكية والغربية امام الإغراق السلعي الصيني ، لذا تم الإتفاق على نقل رؤوس الأموال الغربية وبعض المصانع الأمريكية والألمانية الى الصين لاستثمارها بأجور يد عمالية متدنية جداً .
كما وأن هذا الإفلاس تم لهدف آخر ايضاً ، وهو وقف النزوح من الريف نحو المدن مع إنتفاء العمل وندرته ، لإعادة تنشيط الزراعة بما أمن لقمة العيش لملايين العاطلين عن العمل من جراء الإفلاس وعودة معظمهم الى قراهم للعمل في مشاريع عائلية تنتفي فيها الأجور للإقتصارعلى الحد الأدنى من المداخيل لسد الحاجات الضرورية .
وقد اعتقدت الرأسمالية الأمريكية بهذه التدابير الإفلاسية التي ادت إلى إحياء العمل في القرى وتنشيط الزراعة في الريف والإستثمار في الصين ، أنها قد أمنت خطة إقتصادية متكاملة لأجيال عدة . إلا أن هذه الخطة العشوائية سرعان ماشاخت وانهارت ، إذ انها كفكرة كانت جريئة إلا أنها غير محكمة التدبير ، إذ اعتقدوا ان التأمينات الإجتماعية والصحية لديهم ، وتدني الأجور في الصين لإنتاج سلعة رخيصة الثمن سيكون كافياً للإستقرار الإقتصادي العالمي مع قبول الناس لواقع الأمر بعودتهم الى حياة البساطة الأولى إلى ما قبل نصف قرن من الزمن .
ولكن مع الممارسة تبين ان الصعوبات التي تأتت من هذه التدابير كانت أعقد مما كانوا يتصورون عند التطبيق ، إذ ان الإنتاج السلعي الصيني رغم تدني قيمته الشرائية أضحى عالي القيمة مع إنعدام القدرة الشرائية للمواطنين التي أضحت شبه معدومة في معظم انحاء العالم مع تزايد الفقر ، إذ ان خطتهم لم تفلس المؤسسات المالية والمصانع فحسب ، بل وافلست المواطنين في مختلف انحاء العالم لفقدان مداخيلهم من جراء تفاقم البطالة من خطط فاشلة وضعتها أمريكا بإجبار دول العالم على التخلي عن الرسوم الجمركية لصالح السلع الأمريكية وفق مضمون بنود إتفاقية التجارة العالمية التي كانت السبب الرئيس في تراجع أوروبا الإقتصادي كما وإقتصاد معظم دول العالم الثالث التي وقعت على الإتفاقية ، لان اي دولة دون رسوم جمركية يستحيل ان تنهض لأنها بالإضافة لمداخيلها فإن هذه الرسوم هي بمثابة الدرع الواقي لمنتجاتها الوطنية .
ومع فرض أمريكا اتفاقية منظمة التجارة العالمية على دول العالم انهارت فوراً صناعات وإقتصاديات هذه الدول ومؤسساتها الزراعية لتسير نحو الإفلاس وبالتالي فقدان القدرة الشرائية من مواطنيها لشراء السلع الأمريكية والغربية المصنعة في الصين رغم تدني أسعارها .
لذا فإن تخفيض اسعار الذهب هو للحد من الهروب اليه كقيمة ادخارية أو كمخزن للقيم ، وفق التعريف الإقتصادي ، أكثر اماناً من المصارف والبنوك والأسهم والتجارة الكاسدة ، ولكن مع تخفيض أسعاره بوتيرة متسارعة جعل البعض يسعى للتخلص منه للبحث عن استثمار افضل في الزراعة او التجارة لتأمين مداخيل عائلية او شخصية ملائمة .
وبالعودة إلى النفط فإن أسباب تخفيضه قد يتشابه بعضها مع أسباب تخفيض أسعار الذهب ، إلا أن له دوافع أخرى منها ازدياد المخزون النفطي لدى الصين وروسيا بما يفوق قدراتهم التخزينة ، إذ أن الصين كان مستعدة للتخزين بما انها كانت قد أنشأت أربع مستودعات ضخمة أرضية ثابتة لهذا الأمر في ثلاث مقاطعات متفرقة بدأت بإعدادها منذ العام 2004 ، تتسع ل43،12 مليون طن من النفط بما يتماشى واستهلاكها في النمو الصناعي ، إلا أن الكساد العالمي في الإستهلاك جعلها مضطرة الى التخفيف من الإستيراد الى حين بناء مستودعات جديدة ، إلا أنها عاجزة عن وقف الإستيراد لأسباب ساوردها بعد قليل .
اما في روسيا فلا زالوا في حيرة وإرباك لتخزين الكميات المستوردة دون انقطاع وقد استبدت بهم الحيرة لإيجاد أماكن لتخزينها وليس لديهم سوى منشأة تخزين عائمة واحدة لاتزيد سعتها عن 2،6 مليون برميل مما دفعهم الى عرض البيع باسعار متدنية للصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية ودول آسيوية أخرى ، ردت عليه شركة آرامكو والشركات الغربية بعرض أسعار أقل . وبذلك بدأت المنافسة بينهما وتكسير الأسعار ، مع تباين في الظروف والدوافع والأسباب .
فروسيا تعرض النفط بأسعار متدنية لأسباب قاهرة ، وهي التي بدأت سراً بتلك الحرب للتخلص من الفائض لديها ، بينما الشركات الغربية تبيع بسعر اقل للمحافظة على زبائنها وسوقها مع وجود فائض لديها في مستودعاتها الموزعة في أمكنة عديدة من العالم أو في ناقلاتها الضخمة العائمة في جميع البحار او في باطن الأرض ضمن آبار النفط بشراكة مع الدول الخليجية .
وهنا نتساءل لما حصل هذه الفائض لدى الصين والروس رغم قدراتهما المحدودة في التخزين ، خاصة روسيا بما دفعها الى كسر الأسعار العالمية لعجزها عن التخزين وعجزها عن الإستيراد الذي لايمكنها وقفه أو التراجع عنه بما ادى الى تراجع في الأسعار انعكس على روسيا عجزا في ميزانيتها الذي سيصل الى مئة مليار دولار لهذا العام بسب فارق أسعار النفط وتدني أسعار الذهب ، إذ ان الميزانية الروسية لاتتوازن إذا كان برميل النفط بأقل من 115 دولاراً ، لذا فإن انخفاضه كان كارثة عليها ، خاصة وأن الغرب قد رفض طلبها وطلب إيران بالحد من إستخراج النفط الخليجي .
وسبب عدم قدرة روسيا على وقف إستيراد النفط رغم فائض المخزون لديها هو أن تمتلك آبار نفط عديدة في سيبيريا لاتستطيع وقف استخراج النفط منها وإلا تعرضت للتجمد بالإضافة لمستورداتها الدائمة من النفط الإيراني الذي لاتستطيع ، كما الصين ، وقف استيراده . إذ تصر على إستيفاء أسعار السلاح الذي ترسله لها ولسوريا والعراق ، نفطاً بما يقدر بعشرات المليارات من الدولارات سنوياً . وكانت قبلاً تستوفي جزءاً من أثمانه ذهباً ، إلا أن إيران ادعت ان استخراجها من الذهب قد خف كثيراً بما لايتعدى الطنين في العام بما لايكفي للإستهلاك الداخلي .
أعتقد الان ان الصورة قد وضحت تماماً عن اسباب تدني أسعار الذهب والنفط بحيث لانحتاج الى مزيد من الشرح .