يري عبد الرحمن الرافعي أن سبب تقسيم السلطة بين هذه الجهات الثلاث يقع فى أن السلطان العثماني لم يكن يرتاح لاحتمال أن يستقل حاكم مصر بالبلاد ويخرج عن طاعة السلطان..
وهذا النظر يتفق مع المعروف عن مصر بالضرورة من أنها كانت دائما من الأقاليم الوادعة التي لا تثور إلا نادرا وإن ثارت فهي لا تكمل ثورتها حتي النهاية، إلا أنها فى ذات الوقت كانت تدفع ما عليها من خراج أو ضرائب ولا تتأخر.. ولهذا فإستقلالها قد يعني ضربة إقتصادية موجعة للسلطان. وانا أظن أن قيمة مصر للسلطان التركي كانت تقع فيما هو أهم كثيرا جدا من مجرد حاصل الضرائب. فالسلطان التركي بصفته من اللاعبين الأساسيين فى السياسة الأوروبية كان يدرك أن موقع مصر قبل إنشاء قناة السويس كبلد ترانزيت بين البحرين الأبيض والأحمر يجعل منها ورقة ذات ثقل عظيم تمكن من يمسك بها من التفاوض من مركز قوة متميز. والممالك الإيطالية التجارية وخصوصا فينيسيا كانت تدرك ذلك جيدا وكانوا يخططون لإنشاء قناة السويس قبل الفتح العثماني بالإتفاق مع المماليك الذين يحكمون مصر، إلا أن الغزوة التركية منعت تنفيذ ذلك المشروع.
ولهذا فقد جعل السلطان والي مصر منصبا بالتعيين من قبله هو شخصيا وكان التعيين لمدة عام واحد فقط ويلزم له التجديد كلما حل الموعد، وذلك حتي لا يقوي مركزه مع الزمان. (كان ذلك بالضبط هو ما حدث مع محمد علي الذى جاء رغما عن أنف السلطان واستقر له الأمر لمدة 44 عاما حتي توفي فى الحكم).
وكانت وظيفة الحاكم أو الوالي هي مراقبة أعمال الحكومة وإبلاغها أوامر السلطان. وهذا هو النص الذى أورده الرافعي فى كتابه. وهو نص يهبط بالحاكم التركي إلى مستوي الرئيس الشرفي ولا يجعل منه رئيسا حقيقيا للبلاد يضع السياسات ويعمل فكره فيما هو فيه من أمر. وهو لا ينزل من القلعة ولا يختلط بالناس ولا يراه الناس إلا نادرا.
ثم من بعد الوالي الضعيف كان هناك مجلس شوري الباشا (الوالي) وهو يتألف من قادة الفرق العسكرية التركية التي تركها السلطان فى مصر لأغراض حفظ الأمن والدفاع. وكان لقادة الفرق العسكرية أن يطلبوا عزل الوالي لو إختلفوا معه وكانت أوامر الوالي لا تنفذ إلا بموافقة كل الأعضاء مما كان يضعف مركزه كثيرا..وقد كانت هذه الفرق ستا وبلغ عدد جنودها 12 ألف جندي (وهو رقم تافه جدا بالمقارنة بالارقام التي كانت تركيا قادرة علي حشدها فى نفس ذلك الزمان، إذ بلغ عدد محاصري مدينة فيينا فى حصارها الأول عام 1529، بلغ 20 ألف من الإنكشارية، وهي مدينة واحدة وليست قطرا كاملا مثل مصر).
وبعد وفاة السلطان سليم الذى فتح مصر جاء إبنه سليمان القانوني فعدل فى هذا النظام بحيث أصبح هناك الديوان الكبير وهو يتكون من رؤساء الفرق العسكرية وأمير الحج وقاضي البلاد ورؤساء المشايخ والأشراف ورؤساء المذاهب الأربعة، ولهذا الديوان حق نقض أوامر الوالي.
وهنا لابد من التوقف أمام تشكيل هذا المجلس الكبير (الديوان) حيث أن المشايخ والأشراف ورؤساء المذاهب الاربعة دخلوا فيه كأعضاء لهم صوت مسموع وهم أصحاب صفات روحية دينية كما نري، وهو أمر يتفق بالطبع مع إتحاد صفتي الخليفة والحاكم الدنيوي فى نفس الشخص، ذلك الإتحاد الذى أدخله العثمانيون إلى الحياة الشرق أوسطية لكي يضمنوا ولاء تلك الشعوب وهدوءها وعدم نزوعها للثورة، فلا ثورة علي الخليفة. كما يلاحظ غياب أي ممثل للاقباط أو اليهود.
ثم كان هناك إلى جانب الديوان الكبير ديوان آخر صغير أعضاؤه هم نائب الوالي ومندوب عن كل فرقة عسكرية وكاتب الجلسة وكبار الضباط من كل فرقة وهو ينعقد يوميا فى قصر الوالي الذى لا يحضر إجتماعاته ولا يشارك فيها بشىء وإنما يستمع إليها من خلف ستار!!..
إلى هذا الحد كانت سلطة الوالي متقلصة..
أما القوة الثالثة أو "الطرف الثالث"فى أسلوب الحكم المتبع فى مصر فقد كانت قوة المماليك وهي مكونة من فلول المماليك البحرية القديمة والمماليك البرجية الأحدث منها وكلاهما كان قد دخل فى الحرب ضد السلطان التركي سليم الغازي ولكن من تبقي منهم أعلن قبوله بالسلطان حاكما وخليفة وأنه أصبح من عبيده المخلصين ولذلك سمح لهم السلطان بالمشاركة فى حكم البلاد نظرا لما كانوا يتمتعون به من قدرة أمنية علي الضبط والربط الداخلي عن طريق إرهاب المواطنين وقهرهم، رغم أنهم هزموا عسكريا أمام قوة تركية متواضعة بلغ قوامها 12 ألف جندي فقط، فى وقت كانت تركيا قادرة فيه على حشد جيوش بعشرات الآلاف ناهيك عن الأساطيل (بلغت خسائر تركيا البحرية فى معركة واحدة عام 1571 أي عقب فتح مصر بخمسين عاما أكثر من 30 ألف جندي بحار في يوم واحد وكان ذلك فى معركة ليبانتو أمام سواحل اليونان).
وفتح مصر الذى تم في عام 1517 كان نهبا صريحا لهذا البلد لم يعدله نهب من قبل سوي ربما فى عهد الرومان الذين نقلوا الرخام من مناجم شرق مصر إلى روما لكي يصنعوا منها التماثيل!! فقد كتب المؤرخ إبن إياس الذى عاصر هذه الأحداث أن السلطان سليم الأول عقب فتح مصر والإقامة بها لعدة شهور غادرها فى موكب مليء بالغنائم المادية كان قوامه ألف جمل محملا بالذهب والفضة فضلا عن التحف والسلاح وأعمدة الرخام والصيني والنحاس..
أما أهم مغنم قاطبة حصل عليه السلطان سليم التركي من غزوته المصرية فهو التنازل المكتوب بدون رجوع من آخر من تبقي من سلالة العباسيين (محمد المتوكل) وكان يعيش فى مصر، التنازل عن لقب الخليفة الذى إفترض البعض أنه جدير به ويحمله (هكذا بلا بيعة وبلا معرفة حتي بإسمه) للسلطان سليم الأول بحيث تصبح الخلافة الإسلامية محصورة فى بيت آل عثمان وبذلك إنتقل لقب الخليفة إلى أسرة أوروبية ليس لها فى الشرق الأوسط أصل ولا عرق.
لقد بدأ عصر الخلافة الأوروبية المتعالية على سكان الشرق الأوسط من غير الأوروبيين.
وبالتالي لم يعد لسلاطين المماليك من صفة إلا عبيدا لهذه الأسرة الجديدة واختفي لقب السلطان من مصر وظهر محله لقب البيك وهو لقب حظي به المماليك فقط ممن بقوا علي قيد الحياة عقب إعدام السلطان الغورى وطومان باي. واتحد السلطان مع الخليفة فى رجل واحد.
فماذا فعل المماليك فى وضعهم الجديد؟