تأليف : محمد السويسي
بدأت تتضح بصورة أشمل أسباب ودوافع وول ستريت من تخفيض أسعار النفط بوتيرة سريعة متعمدة بما لم يكن متوقعاً ، ليتبين مع مرور الوقت أن الصناعة الصينية هي المستهدف الأساسي من هذا التخفيض المريع لأسعار النفط وتجارته ، مع تأخر رد الفعل الأمريكي في هذا الحقل ضد الروس الذين احتلوا شبه جزيرة القرم في آذار الماضي من العام 2014 ، وضد الإيرانيين الذين خرجوا عن طاعة الأمريكان بعد احتلالهم العراق بتحالفهم مع الروس والكوريين الشماليين ضد المصالح الأمريكية في المنطقة .
ولنعد قليلاً الى الوراء ، إلى إتفاقية منظمة التجارة العالمية الأمريكية في العام 1995 التي أجبرت أوروبا ومعظم دول العالم على رفع الرسوم الجمركية عن مستورداتها الزراعية والصناعية بما يتلائم والمصالح الأمريكية والإكتفاء برسم القيمة المضافة الموحد بنسب بسيطة تعيق حماية المنتجات الوطنية لهذه البلدان الموقعة على هذه الإتفاقية المجحفة مما ادى الى تراجع وارداتها المالية بشكل مريع والتالي تقصيرها عن القيام بواجباتها في البناء الوطني والحماية الإجتماعية والصحية لمواطنيها . زادها بلّة تفجير الأزمة المالية العالمية بشكل متعمد في العام 2008 من قبل رأسماليي وول ستريت لإفلاس المؤسسات المالية في أمريكا وأوروبا بما ادى الى ضرب القطاع العقاري وتعسّر المديونية للقطاع الخاص ومن ثم إفلاس المصانع وبوار التجارة والإنتاج .
وكان القصد من ذلك تهريب الرساميل والمصانع الأمريكية والأوروبية لتشغيلها واستثمارها في الصين سعياً وراء الأيدي العاملة الرخيصة في شراكة حقيقية معها ادت الى إنتقال الخبرة والمصانع الأمريكية والأوروبية للتصنيع في الصين بشكل مستمر ودائم دفع امريكا الى رفع أسعار النفط إمعاناً في رفع تكاليف الإنتاج الصناعي والزراعي في أوروبا وجميع دول العالم بحيث يجبرها على إغلاق مصانعها ، ويرفع من تكاليف إنتاجها الزراعي وتعطيله لإجبارها على الإستيراد من أمريكا ، وبالتالي إحتواء بكين ضمن السياسات الأمريكية بعيداً عن موسكو مع ربط مصالحها الإقتصادية بمصالح الأمريكان .
إلا أن حساب الحقل لم ينطبق مع حساب البيدر ، إذ ان الصينيين هدفوا من مشاركتهم للأمريكان الى اكتساب خبرتهم التكنولوجية في الصناعة وفي الإستحواذ على الأسواق الغربية التي كانت عصيّة عليهم في معظمها ، خاصة الأسواق الأمريكية . إلا أنه مع مرور الوقت تبين أن أهداف الصين أبعد من ذلك بكثير مما ارعب الأمريكيين الذين كانوا كالزوج المخدوع ، إذ تبين لهم أن بكين مع تنامي قوتها الإقتصادية التي سادت العالم اجمع بسلعها الرخيصة المتنوعة ، بدأت تخطط لهمينة نقدها الوطني "الريمنبي"ليكون نقداً عالميا"بديلاً عن الدولار أو منافساً له بما لاتحتمله واشنطن أو تسمح به . خاصة وأن الصين قد اطلقت خدمة التعاملات التجارية والإستثمارية في القارة الأفريقية بالعملة الصينية عوض المرور بعملة ثالثة .
وقد أعلنت مؤخراً مجموعة "التجاري وفا بنك "المصرفية المغربية بدعم من الصين عن خدمة التعامل المباشر بالعملة الصينية في 14 دولة أفريقية أدخلت التداول بالرينمبي وأصبحت مستعدة لتوفير كل الخدمات التي يحتاج اليها التجار والمستثمرون الأفارقة والصينيين في تعاملاتهم بديلاً عن الدولار . علماً بأن مجموعة "التجاري بنك وفا"تابعة لمجموعة بنك الصين التي تعتبر أقوى مجموعة مصرفية في البلاد ، إضافة الى توفرها على 600 وكالة مصرفية في 41 دولة عبر العالم .
وعليه فإن حصة المعاملات التجارية بالعملة الصينية في ارتفاع مستمر عبر العالم ، ماعدا في أمريكا . بحيث ارتفعت نسبة التجارة العالمية التي تتم بالرينمبي من 2% في العام 2012 إلى 8% حالياً . اما نسبة التجارة بين الصين ومنطقة اليورو التي تتم بالعملة الصينية فقد ارتفعت الى 29% ، وتأتي فرنسا في الصدراة بنسبة 44% من تجارتها مع الصين .
وبذلك ارتفع ترتيب العملة الصينية من جراء هذا النشاط في سلم العملات المستخدمة في التجارة الدولية من المرتبة 13 الى المرتبة 7 خلال السنوات الأخيرة . كما ازداد عدد الشركات التي تصدر سندات العملة الصينية عبر العالم ،بحيث بلغت مع شهادات الإيداع 1500 مليار دولار خلال هذا العام ، بينما بلغ حجم الوادئع المصرفية بالريمنبي عبر العالم 1500 مليار دولار ، كما وبلغ احتياطي المصرف الصيني من العملات الأجنبية 3900 مليار دولار ، أما حجم ودائعه فقد بلغت 800 مليار دولار بالريمنبي .
وقد صرح احد مسؤولي البنك الصيني بان التوجه العالمي لاستعمال العملة الصينية في المبادلات التجارية في ارتفاع وان العملاء الصينيين يتجهون أكثر فأكثر الى مطالبة زبائنهم بالتعامل معهم مباشرة بالعملة الصينية بديلاًعن الدولار بناء لرغبة حكومة بكين ودعمها القوي في هذا الإتجاه ، مما زاد من حدة الغضب الأمريكي.
ودعماً لهذا التوجه المتنامي فإن الحكومة الصينية تقدم القروض النقدية والعينية والمساعدات لمعظم دول العالم خاصة في أفريقيا وآسيا .وقد قدمت مؤخراً اكثر من ثلاثة بلايين دولار بعملتها الوطنية ، في شكل قروض ومساعدات الى كمبوديا وفيتنام وميانمار وتايلاند ولاوس لتحسين البنية التحتية والإنتاج ومحاربة الفقر في سبيل دعم عملتها الوطنية بديلاً عن الدولار . وقد اشار رئيس مجلس الدولة الصيني "لي كه تشيانغ "الى أن العرض قد تضمن مليار دولار للبنية التحتية ومبلغ 490 مليون دولار لتخفيف حدة الفقر و1.6 بليون دولار في شكل قروض خاصة في شكل منتجات تصدير صينية .
هذه العينة من الممارسات الصينية الواضحة في محاولتها استغلال وضعها الإقتصادي العالمي الممتاز لإحلال عملتها الوطنية المحلية بديلاً عن الدولار دفعت أمريكا الى تخفيض اسعار النفط لإعادة تنشيط الصناعة في امريكا وأوروبا لتخفيض تكاليف الإنتاج وبالتالي الإستغناء عن التصنيع في الصين مستقبلاً . وقد بدأت رؤوس الأموال الأمريكية والغربية تُسحب بالفعل من الصين بمئات الملايين من الدولارات منذ بدء انخفاض أسعار النفط للإتجاه نحو أمريكا وأوروبا لإعادة الإستثمار فيهما وتنشيط الصناعة بتكاليف أقل من الماضي مع إنخفاض الأجور بفعل البطالة على مدى سنوات عدة ، مما انعكس سلباً على الصين وانخفاض الإنتاج فيها وبدء الكساد في بعض مصانعها وإغلاق بعضها الآخر مع بدء تراجع الإستثمار الأمريكي فيها في التدرج نحو محاربة خفية لسلعها ، في محاولة لوقف إنتشار عملتها الوطنية التي لاتحتملها أمريكا أو تسمح بها .إذ أن قوة الأمريكان في دولارهم الذي يعتبر أفضل مخزن عالمي للقيم لايمكن مواجهته حتى الآن ، إلا أن الخطر الصيني لازال قائماً مع توجه دول عديدة للإستيراد بالريمنبي .
والعداء بين أمريكا والصين بدأ يطفو على السطح عالياً مع قيام مجموعةٌ تُطلق على نفسها إسم "حُرّاس السلام"، بهجومٍ إلكتروني مُكثّف على حواسيب شركة "سوني"، تمّ خلاله قرصنةُ نُسخٍ من خمسة أفلامٍ سينمائية حديثة للشركة لم تُعرض بعد ، وكشفُ ملفّات ومعلوماتٍ سرّية عن ٤٧ ألف شخصٍ ، تتضمن أسماء وعناوين وأرقام الضمان الاجتماعي وتواريخ ميلاد ، وهي معلوماتٌ تسمح لمَنْ يملكها بإستغلال وإبتزاز أصحابها .
وقد وُجّهت أصابعٍ الإتهام في هذه الحادثة ، الى "كوريا الشمالية"التي كانت قد غضبت من إنتاج الشركة لفيلمٍ كوميدي ( the interview ) تدور أحداثه حول محاولة إغتيال زعيمها الشاب "كيم يونغ أون"، ولاسيّما أنّ النظام الكوري الشيوعي كان قد اعتبر أنّ هذا الفيلم هو نوعٌ من "الإرهاب"، ولوّحت بالردّ عليه . وقد إضطرّت شركة "سوني"الى سحب الفيلم من صالات السينما، وإلغاء عرضهِ الذي كان مقرّراً في ٢٥ كانون الاول الجاري ، وذلك بعد تهديد "الهاكرز"بشنّ تفجيراتٍ مشابهةٍ لتفجيرات ٩ ايلول ٢٠٠١مما دفع الرئيس اوباما الى تهديد كوريا بدفع الثمن غالياُ كما طالبها بالتعويض على شركة سوني التي تضررت بنصف مليار دولار من جراء هذا الهجوم .
وقد نفت كوريا الشمالية تدخلها في هذا الأمر ، إلا ان الصين صعّدت من هذا الخلاف في مواجهة مع أمريكا في دعم القرصنة الكورية ، إذ وصفت صحيفة "غلوبال تايمز "الصينية "بالوقاحة الثقافية "الفيلم الأمريكي الذي يسخر من الزعيم الكوري الشمالي عدوالولايات المتحدة .
لقد كانت أمريكا تتحفز منذ عامين لفك التحالف الصناعي مع الصين بتخفيض أسعار النفط رداً على محاولاتها في تحدي الدولار ومواجهته ، إلا أنها كانت تراعي حالة السلم والشراكة في قضايا عالمية عدة مع موسكو ، إلا أن ضم الروس لإقليم القرم الأوكراني فجّر الوضع والخلاف مع امريكا والغرب لاتخاذ العقوبات اللازمة بالصين وروسيا وإيران معاً بتخفيض أسعار النفط الى ادنى حد ممكن ، كخطوة أولى ممهدة للحرب ، بما أدى الى تدهور العملة الروسية والإيرانية لعدم وجود بنية إقتصادية تدعمها ، اذ أن روسيا تعتمد على قوتها العسكرية ، وإيران تعتمد على الحماية الروسية لها ، بينما استفادت الصناعات الأوروبية والهندية والأمريكية والآسيوية من تخفيض أسعار النفط على حساب تراجع الصناعات الصينية وانكماشها .
لذا فإن هذه الأزمات المتوالية والتصعيد المستمر لها ومواجهتها من قبل أمريكا بعقوبات إقتصادية مختلفة تنذر في النهاية بحرب عالمية ثالثة ، أضحت قريبة مع توفر كل أسبابها في التكاثر البشري مع تصاعد نسبة المواليد والتضخم والبطالة والفوضى في المنطقة والعالم ، ستؤدي الى القطبية الأمريكية الواحدة . إذ قد تعمد أمريكا دون إنذار مسبق ، بتحالف مع بريطانيا وإسرائيل ، الى ضرب كل من روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية بأسلحة نوعية قد تكون غير معروفة تشلّهم وتودي بهم ، ومن ثم يتم تقسيم إيران وبعض الدول العربية الى جمهوريات عدة ، خاصة العراق وسوريا وبالتالي ضياع كامل الأرض الفلسطينية وإقامة الدولة الفلسطينية في غزة وبعض سيناء والنقب .
والضربة العسكرية لإيران ستكون الأشد قسوة بما يؤدي الى تقسيمها بعد الإطاحة بنظامها ، إذ أن الأمريكان كانوا قد اطاحوا بالشاه على أمل تزليم إيران عندهم لتكون أداة بيدهم لتنفيذ مخططاتهم في المنطقة وقد دخلوا العراق بتحالف معها ، إلا أن إيران ما أن احتلت العراق مع أمريكا حتى بدأت تثير المعارضة المسلحة ضد جنودها من قبل المليشيات الموالية لها بتعاون مع سوريا لإخراجهم منه تمهيداً لوضع اليد عليه .ومن ثم تحالفت مع الروس في تخطيط طفولي لشن هجمات على الخليج واحتلاله إنطلاقاً من سوريا للإستيلاء على منابع النفط في ضرب للمصالح الأمريكية . إذ كشفت التحقيقات والمعطيات أن السلاح الكيماوي في سوريا الذي كان يزيد عن الألف طن كان معداً لاحتلال بلدان الخليج وتدميرها وقتل شعبها بعد اجتياح الأردن بدعم خفي من روسيا ، عدا إيواء العديد من قيادي تنظيم القاعدة على الحدود الإيرانية الأفغانية ومد بعض مقاتليها بالسلاح للقتال ضد الأمريكان .
أمام هذه المعطيات فإن الحرب العالمية الثالثة إنطلاقاً من أحداث الشرق الأوسط قادمة لامحالة مستهدفة روسيا والصين وإيران وقد أصبح العالم مهيئاً لتقبلها للخلاص من السيناريو الإرهابي الذي سهلت له أمريكا من خلال الربيع العربي والفوضى في العراق وسوريا ولبنان واليمن بتوريط إيران وتحريضها ، من خلال اصدقاء لها بينما هم في حقيقتهم موالين وعملاء لأمريكا ، في حروب لاقبل لها بها سوى استنزاف أموالها واقتصادها وتدمير سمعتها كراعية للفوضى والإرهاب بشراكة مع روسيا في الوقت الذي يتم فيه غض النظر عن الممارسات الإسرائيلية الوحشية ضد الشعب الفلسطيني في الضفة والقدس وغزة .
والقصد من هذه الحرب المتوقعة خلق قوة احادية مرهوبة الجانب هي أمريكا للجم التضخم البشري والمالي والحد من البطالة التي اضحت منبعاً وموئلاً للإرهاب بما لم يعد بالإمكان تحمله أو تلافيه . ومن ثم إعادة صياغة الحدود العربية والإيرانية وتعديلها على اسس جديدة بتقسيمها الى دول فدرالية وكونفدرالية وكيانات عدة على اسس عرقية ومذهبية ودينية تتماشى والتخلف الأخلاقي اللاحضاري واللإنساني للولايات المتحدة الأمريكة بما ينسجم وموقفها وممارساتها في المسألة الفسطينية ، منعاً لنهضهتا وتطورها لتكون سوقاً لبضاعتها الإستهلاكية من اجل رفاهية شعبها دون الشعوب الأخرى ، وبالتالي وقف الهجرة اللاشرعية المتصاعدة من الجنوب نحو الشمال بما تحمل من فوضى وإرهاب .