قضية الرجل الأسود دريد سكوت ضد سيده الأبيض ساندفورد كانت علامة على طريق الجهد الأفرو أمريكى لتحرير أنفسهم من العبودية للرجل الأبيض. وقد كانت هذه القضية علامة سلبية بل وأكاد أقول علامة سوداء على هذا الطريق الطويل.
كتب الدستور الأمريكى من قبل لجنة موسعة ضمت عديدا من أصحاب الأراضى والسياسيين والقانونيين وأصحاب المصالح وكانت تضم أناس من شتى الإتجاهات. إلا أن الرابط الأساسى بينهم كان هو وحدة العرق الأوروبى الأبيض. فلم يستدع أى شخص من غير المنحدرين من أصول أوروبية لكى يساهم فى كتابة ذلك الدستور الذى على الرغم من كل تلك المآخذ على تشكيل لجنة آبائه المؤسسين خرج دستورا عظيما يقدس قيمة الحرية وينادى بنبذ القهر والتسلط من جانب الدولة. إلا أن مسألة التفرقة العنصرية تبقى وصمة على جبين الآباء المؤسسين لهذا الدستور.
كان السود فى الولايات التى تتبنى نظام العبيد محرومين من كل حقوق البشر. وكان التعامل يتم عليهم كما يتم على الأشياء المنقولة. بل أن تجارة العبيد لم تكن تراع الجانب الأسرى فى حياة هؤلاء السود. وكان الزواج بينهم لا يتم إلا برضا السيد وموافقته. ورغم ذلك كان من حق السيد أن ينهى الزواج الأسود فى أى لحظة بقرار منه أو بصفقة يباع فيها أحد الزوجين ويفترق قهرا عن الآخر. بل حتى الكنائس التى كانت تقوم بتزويج السود عدلت من تقاليد الزواج المسيحى فبدلا من أن يختم القس مراسم الزواج بالقول المشهور "أنتما زوجان لا يفرقكما إلا الموت"أصبح النص المستعمل هو "زوجان لا يفرقكما إلا الموت أو ظروف الفراق"أى بيع أحدهما بإرادة سيده وبالتالى فصله عن زوجه. وفى ذلك ما فيه من خروج على أصول الدين المسيحى ةلكن سطوة الرجل الأبيض كانت اقوى من الدين المسيحى.
وكانت الأمراض تفتك بهم فتكا ولا يتلقون أى علاج طبى أو رعاية من أى نوع. وكانوا ينامون بالقرب من الحيوانات لو أن السيد الأبيض هو من ملاك المزارع. ولم تكن ساعات عملهم محددة بأى شىء بل كان كل شىء خاضع لإرادة السيد وتقلباته المزاجية.
وهذه المقدمة المؤسفة رأيتها ضرورية قبل البدء فى سرد وقائع القضية التاريخية.
كان العبد الأسود دريد سكوت مملوكا لأسرة أمريكية فى ولاية ميسورى. وكان أن قامت الأسرة المالكة له ببيعه إلى شخص آخر إنتقل به لكى يعيش لمدة عامين فى ولاية إلينوى. وهذه الولاية كان دستورها قد حرم العبودية – خلافا للدستور الفيدرالى الذى لم يحرمها صراحة. ثم كان أن إنتقل السيد الأبيض مالك سكوت إلى ولاية مينسوتا للعيش بها. والذى نعرفه عن تاريخ تلك الفترة هو أن مسألة العبيد كانت ربما تعادل فى أهميتها مسألة الحرب على الإرهاب فى زمننا هذا أو مسألة الحفاظ على السرية وعدم تنصت الدولة على الأسرار الخاصة. فالملاحظ هو أن تلك المسألة كانت محورا لكثير جدا من العمل السياسى الذى يمارسه الأمريكيون وكان التوازن بين الولايات المحبذة والنافرة من العبودية أمرا أساسيا فى مداولات وتشريعات الكونجرس. والخلفية التاريخية لذلك كانت هى أن الولايات المتحدة تتكون من أحد عشر ولاية جنوبية تبيح العبودية وأحد عشر ولاية شمالية تحرم هذه الممارسة اللا إنسانية. وعندما رغبت مقاطعة ميسورى فى دخول الإتحاد خشى الجنوب على التوازن بين الولايات فى مسألة العبودية فكان أن أبرم إتفاق تتخلى بمقتضاه ولاية ماساشوسيتس عن مقاطعة مين فى أقصى الشمال الشرقى لتصبح ولاية خالية من العبودية فى مقابل دخول ميسورى إلى الإتحاد كولاية تبيح العبودية. على أن هذا الإتفاق تم تعديله من جديد بحيث أن تصادف أن المقاطعة التى إنتقل إليها مالك العبد دريد سكوت كانت مقاطعة خالية من العبودية كاستثناء فى ولاية تعترف بالعبودية.
وعندما إنتقل السيد إلى ولاية أخرى جنوبية كانت تعترف بالعبودية لم يصطحب سكوت معه وإنما قام بتأجير مجهوده إلى شخص آخر مقيم فى نفس تلك المقاطعة فى مقابل الحصول على المال. وهذه مخالفة صريحة للإتفاقية التى كانت سارية بين الولايات المحبذة والولايات المانعة من العبودية حيث أنه تصرف يقع خارج نطاق القانون فى تلك الولاية التى تحرم العبودية.
وعندما طلب السيد من عبده سكوت اللحاق به فى محل عمله الجديد فى ولاية لويزيانا التى تعترف بالعبودية سافر سكوت بالسفينى جنوبا ويبدو أنه لم يكن يعلم أن من حقه أن يحصل على حريته وحرية زوجته بمقتضى القانون الفيدرالى وقانون الولاية الذى يسمح للعبد بالحصول على حريته لو أن سيده سمح له بقضاء فترة على أرض ولاية (حرة) أى لا تعترف بهذا النظام، وكل ماكان عليه فعله هو النزول من السفينة التى كان طريقها يمر بعديد من المدن الحرة والتقدم إلى محكمة أى من تلك المدن والتقدم بطلب الحصول على الحرية. إلا أنه لم يفعل ذلك.. وبعد فترة أعاده سيده مرة أخرى إلى الشمال حيث القوانين لا تسمح بالعبودية.
بدأت القضية عندما رفع سكوت دعوى ضد سيده يطالبه فيها بإعتاقه تأسيسا على أنه قد عاش فترات طويلة فى ولايات حرة وبالتالى فوضع عبوديته لم يكن وضعا قانونيا معترفا به فى تلك الولاية. إلا أن القضية رفضت بسبب إجرائى حيث أنه لم يستطع إثبات أنه عبد لسيده بسبب عدم وجود شهود !!
ودار الأمر فى المحاكم من جديد بين حكم مؤيد له ثم حكم إستئناف مؤيد لسيده حيث أن الوضع القانونى فى تلك الأيام كان معقدا مما يسمح بالتلاعب من الأطراف. وعندما قلبت المحكمة العليا للولاية حكم المحكمة الأدنى بتحرير سكوت وعائلته صعد سكوت الأمر إلى المحكمة العليا الفيدرالية. ويقع السبب فى هذا التخبط القضائى إلى التضارب بين قوانين الولايات فى شأن العبيد والتعارض بين القوانين الفيدرالية والقوانين المحلية. وهو تعارض شبيه بما هو واقع فى زمننا هذا فى شأن المخدرات الخفيفة التى تسمح بها بعض الدول (هولندا) بينما تمنعها دول أخرى مجاورة (ألمانيا) مما يجعل سلطات تنفيذ الأحكام متخبطة فى عملها.
وتكاد الروايات تجمع على أن الرئيس المنتخب الجديد فى ذلك العام 1856 السيد بوكانان كان من أنصار الإحتفاظ بأوضاع العبودية وأنه قد تدخل لدى المحكمة لكى تحكم بأغلبية واضحة فى صالح السيد وليس فى صالح العبد. وهذا بالضبط ما كان.
فقد جاء الحكم الذى أصدرته المحكمة العليا فى عام 1857 صدمة لكل قيم الحرية والمساواة. ويدمغه كثيرون من القانونيين بأنه أسوأ حكم أصدرته المحكمة العليا فى تاريخها الطويل. وجاء الحكم بأغلبية 6 قضاة ضد معارضة قاضيين وموافقة القاضى التاسع على الحكم دون أسبابه.
أولا حكمت المحكمة بأن دريد سكوت الذى ينحدر من أصل أفريقى ليس مواطنا من مواطنى أى ولاية أمريكية وليس فى وسعه تحت أى ظروف أن يكون مواطنا من مواطنى أى ولاية أمريكية وذلك تأسيسا على عرقه.
وقد قالت المحكمة فى حيثيات حكمها أن الدستور الذى أنشأ الولايات المتحدة الأمريكية لم ير واضعوه أن السود يتمتعون بحقوق المواطن لا وقت إنشاء الدستور ولا فى أى وقت أعقبه. وقد ترتب على ذلك أن دريد سكوت ليس من حقه رفع دعوى أمام المحكمة العليا حيث أنه لابد له أولا أن يكون مواطنا أمريكيا.
ولم يفت القاضى تينى أن يعرض وجهة نظر عنصرية للغاية عبر عنها فى الكلمات الآتية
The authors of the Constitution had viewed all blacks as beings of an inferior order, and altogether unfit to associate with the white race, either in social or political relations, and so far inferior that they had no rights which the white man was bound to respect.
إن واضعى الدستور كانوا ينظرون إلى جميع السود على أنهم كائنات أقل أهلية وغير مؤهلين على الإطلاق للتفاهم مع الجنس الأبيض سواء فى المسائل السياسية أو الإجتماعية. إنهم أقل أهلية للحد الذى لا يجعلهم يحصلون على نفس الحقوق التى ينبغى على الرجل الأبيض أن يحترمها..
أى أن السود ليس لهم حقوق فى أى شىء وذلك بمقتضى الدستور الأمريكى الذى إختصت المحكمة العليا نفسها بتفسيره منذ قضية ماربورى ضد ماديسون. كان هذا هو مقتضى الجزء الأول من حكم المحكمة العليا. وقد بنى القاضى تينى حكمه هذا بناءا على دراسة أوضاع العبيد فى فترة إنشاء وصياغة دستور الولايات المتحدة وبناءا ايضا على الفترة السابقة على ذلك أى فترة السيادة البريطانية على الولايات. وطبيعى أن تلك الفترة السابقة على قيام الإتحاد كان وضع العبيد فيها هو إنعدام الشخصية القانونية بحيث كانوا يعاملون معاملة الأشياء المنقولة. إلا أن العدل كان يقتضى من رئيس المحكمة العليا أن يطبق روح الدستور إن كان نصه قد أغفل منح العبيد حقوقهم كبشر.
كما شمل الحكم أيضا تفسيرا لنطاق سريان القوانين الفيدرالية على الأراضى التى لم تكن داخل الإتحاد وقت إنشائه ثم دخلته لاحقا. فحدد الحكم الصادر عن المحكمة العليا نطاق سريان القوانين الفيدرالية الخاصة بالعبيد بأنه فقط الولايات التى دخلت الإتحاد وقت إنشائه وليس الولايات التى لحقت به بعد ذلك. وبذلك ألغى الحكم القضائى الصادر عن المحكمة العليا الإتفاق الذى بمقتضاه كانت المقاطعة التى عاش فيها سكوت مقاطعة حرة. وزاد الحكم على ذلك قاعدة جديدة هى أنه ليس من حق الكونجرس الأمريكى إصدار قوانين تؤدى إلى فقدان المواطنين لبعض من ممتلكاتهم (يقصد العبيد) وبهذا أغلق حكم المحكمة العليا الباب فى وجه جميع محاولات التحرير التشريعى لهؤلاء السود فى الولايات المتحدة الأمريكية.
إنه بالفعل أسوأ حكم صدر عن تلك المحكمة فى تاريخها الطويل.
والقاضى تينى الذى كان يرأس المحكمة العليا عند صدور هذا الحكم هو أول كاثوليكى يتقلد هذا المنصب فى الولايات المتحدة ويبدو أن أصوله الأوروبية كانت آيرلندية. والعلاقة بينه وبين الرئيس الجديد الذى إنتخب عام 1860 إبراهام لينكولن لم تكن جيدة فهو قد قام بانتقاد الرئيس الذى إفتتح رئاسته (فى ظل إعلان الولايات الجنوبية الخروج عن الإتحاد) بإعلان حالة الطوارىء ووقف العمل بقانون الحق فى الحرية البدنية طالما لا يوجد حكم قضائى يبرر الحبس Habeas Corpus حيث أن ظروف الحرب جعلت لينكولن يوقف العمل بهذا القانون حتى يعتقل من كان يعده خطرا على الدولة فى حالة الحرب وذلك دون الرجوع إلى الكونجرس فى البداية. إلا أنه بعد ذلك حصل على ذلك التصريح.
ودريد سكوت نفسه لم يعش طويلا عقب هذه الهزيمة القضائية عام 1857 إذ أنه رحل عن الدنيا بعد ذلك بعام واحد أى أنه لم يشهد تحقق حلمه فى الحرية والذى أصبح واقعا عقب قيام الحرب الأهلية.
وكان هذا الحكم عاملا هاما فى تأجيج المشاعر حول العبودية حيث أن الولايات الجنوبية المحبذة لهذا النظام الغير إنسانى رأت فيه تأييدا لنظرها فأصابها غرور وصلف شديدان مما دفع هذه الولايات إلى أن تقرر من جانب واحد أن تخرج من عقد الإتحاد فى ربيع عام 1861 مما أدى إلى أن يعلن الرئيس الجديد المنتخب فى عام 1860 (إبراهام لينكولن) أنه لن يتهاون فى شأن تنفيذ العقد وبالتالى قامت الحرب الأهلية الأمريكية الرهيبة التى إستمرت أكثر من 4 سنوات والتى كانت أهم نتائجها قاطبة هو التعديل الدستورى الذى إعتبر السكان السود مواطنين أمريكيين لهم كل حقوق المواطنين وعليهم واجباتهم وبالتالى ألغى حكم المحكمة العليا السابق ذكره بتعديل دستورى. إنه التعديل الرابع عشر للدستور الأمريكى والذى سعى الرئيس إبراهام لينكولن إلى تشكيل عدد كاف من أعضاء الكونجرس لكى يؤيدوا تمريره مما أدى إلى إلغاء كل تشريعات الولايات التى تتعلق بحيازة واستعمال العبيد وبيعهم وشرائهم وإبدالهم ووقف جميع أنواع التعاملات على البشر من أى عرق.
وبذلك بدأت مرحلة ثانية من مراحل السعى إلى المساواة بين الأعراق فى الولايات المتحدة الأمريكية.
↧
قضية سكوت ضد ساندفورد
↧