كنت قد كتبت لكم من قبل عن قضية دريد سكوت ضد ساندفورد وكذلك عن قضية لافنج ضد فيرجينيا وكان محل التقاضى فى كليهما هو عموما حقوق غير البيض من السكان أو بطريقة محددة كان المحل هو حقوق السود.
والواقع أن الحياة الأوروبية فى المهجر سواء كانت فى العالم الجديد الأمريكى أو الأسترالى كانت شديدة العنصرية وتغالى فى نظرة الإستعلاء حتى أنها فاقت فى تطرفها العنصرى الأصل الأوروبى لهؤلاء المهاجرين لأن أوروبا لم يكن بها تلك العنصرية القحة. ناهيك عن جنوب أفريقيا التى تمثل وحدها قصة أخرى أشد وطأة فى شططها وتطرفها.
فقد كانت الأجناس الناتجة عن زواج مختلط يحسب مقدار ما بها من عرق أبيض أو عرق أسود. فكنا نجد الأشخاص النصفيين والربعيين والثمنيين بل ومن بهم محتوى يبلغ 1/16 من الدم الأسود. ونشأت مصطلحات مثل Quadroon وهو ما يعنى ربع من هذا الدم أى أن أحد الجدين أسود مثلا. ومصطلح مثل Octoroon وهو من يكون دمه بمقدار الثمن من دم مغاير وكذلك مصطلح Quintroon أى من يبلغ محتوى الدم الغريب لديه جزءا واحدا من ستة عشر جزءا. وكما نرى فهو تصنيف لم يكن له وجود لا فى الشرق ولا حتى فى أوروبا التى عرفت السود ولكنها لم تتعامل معهم بهذا الإستعلاء البغيض. وهو تصنيف يمكن تطبيقه على سلالات الخيل أو الكلاب وليس على البشر.
فى عام 1890 أصدرت ولاية لويزيانا فى جنوب الولايات المتحدة قانونا لاستعمال السكك الحديدية فى الولاية سمى قانون الفصل بين الأجناس حيث نص على أن يكون للسود عربات وأماكن مساوية للعربات والأماكن التى يتم تخصيصها للبيض ولكنها منفصلة عنها أى أنه لا يوجد إختلاط.
وقد صدر هذا القانون بعد 20 عاما من تعديل الدستور عقب الحرب الأهلية وهو التعديل الذى وضع كل الأعراق على قدم المساواة فى المواطنة والحقوق والواجبات. ولذلك كان هذا القانون محل تحد من جانب السود والملونين بل والبيض الذين كانوا مقتنعين أن الدستور قد تم تعديله لكى يطبق التعديل وليس لكى تسود أوضاع ما قبل الحرب.
وهكذا كانت هذه الجمعيات المنادية بالحقوق المدنية تحاول جاهدة تحدى هذا القانون بالعمل السياسى ضده حتى يلغى كما أنها كانت تقاومه بالحث على تحديه وخوض غمار التجارب لإثبات الحقوق. وعلى ذلك قاموا بإقناع السيد/ هومر بليسى بمحاولة السفر بالقطار فى رحلة داخل الولاية مستقلا عربة مخصصة للبيض.
وكانت شركة السكك الحديدية من الساخطين على هذا القانون حيث أنه يحملها تكاليف زائدة لشراء عربات أكثر حتى وإن كانت تسافر بلا ركاب. وهكذا قطع السيد/ بليسى تذكرة درجة أولى لرحلة داخل الولاية ودخل إلى عربة قطار مكتوب عليها بوضوح "مخصصة للبيض فقط".
والسيد/ بليسى هو حسب القانون السارى يقع تحت بند Octoroon أى أن أحد جدوده الأعلى الثمانية فى الجيل الرابع (باعتبار أن الشخص نفسه هو الجيل الأول) كان أسودا والسبعة الباقون كلهم من البيض. ولكن القانون كان لا يعترف بالشخص أبيضا إلا لو كان الجيل الأعلى (16 جدا وجدة فى الجيل الخامس كلهم من البيض).
وطبقا للسيناريو المتوقع سئل بليسى أن يغادر العربة إلى العربة الأخرى المخصصة للملونين ولكنه رفض فأوقف القطار وتم طرده منه. فلما رفع دعوى ضد الولاية بسبب سن هذا القانون الذى يخالف مقتضى التعديلات الدستورية التى أقرت عقب الحرب حكمت المحكمة فى الولاية بأنه من حق المجلس التشريعى لولاية لويزيانا أن يسن القوانين التى يراها مناسبة لأوضاعها طالما أن نطاق سريانها هو الولاية فقط. وقضى بتغريم بليسى مبلغا من المال. وبالطبع بسبب المساندة التى كان بليسى يحظى بها حيث أن الأمر كله كان مقصودا به الصعود للمحكمة العليا فإن القضية وجدت طريقا لها إلى محكمة لويزيانا العليا التى قضت بتأييد الحكم الصادر من محكمة الدرجة الأقل. وهكذا وحسب الخطة تم تقديم إستئناف إلى المحكمة العليا الفيدرالية فى واشنطن وكان يقف خلف بليسى مجموعة من أفضل المحامين والنشطاء المدنيين.
وقد كانت الدعوى التى رفعت بإسم بليسى ضد القاضى بمحكمة لويزيانا الذى أصدر الحكم الأصلى وكان إسمه جون فيرجسون ولهذا عرفت الدعوى تاريخيا وقضائيا بإسم طرفيها، بليسى ضد فيرجسون.
وقد كانت مرافعة محاميى بليسى تنهض على مجافاة قانون ولاية لويزيانا للتعديلين الثالث عشر (إلغاء الرق) والرابع عشر (التساوى فى الحقوق) الذين أدخلا على الدستور الأمريكى عقب الحرب الأهلية. فقد ذكر محاميه أن الحفاظ على حقوقه المالية والجسدية وممتلكاته وسمعته وشرفه هى من الحقوق التى قام التعديل بتوضيحها بصورة لا تقبل الشك وأن المساواة هى أيضا مما لا يرقى الشك إلى وجوب إعماله بمقتضى التعديلات. وكما أسلفت فالقضية كلها كان المقصد من ورائها هو الوصول بالأمر إلى المحكمة العليا أملا فى إلغاء القانون المذكور. وعلى اساس من ذلك رأى محامى بليسى أن القانون المذكور غير دستورى.
وقد إتخذت المحكمة العليا قرارها بأغلبية 7 قضاة ضد قاضى واحد وتغيب القاضى التاسع لظروف خاصة منعته عن حضور الجلسة ولو أنه صرح بعد ذلك أنه كان سينضم للأغلبية. فماذا كان القرار؟
قررت المحكمة رفض المنطق الذى تقدم به محامو بليسى من حيث عدم دستورية القانون الطعين حيث أنها لم تر أنه يتعارض مع مقتضى التعديل الرابع عشر لأن القانون يحدد عربات متساوية فى تجهيزها وإتساعها والخدمات المتاحة بها للسود والبيض على السواء. أما الفصل بين الأجناس فلم تر المحكمة أنه يتعدى على مقتضى التعديل حيث أن التعديل ينص على المساواة ولكن الفصل لا يعتبر عدم مساواة بل هو شأن تنظيمى تقوم به الولاية فى نطاق السياسة العامة بها.
وقد ورد فى حيثيات الحكم الصادر عام 1896 أن إدعاء مقيم الدعوى بأن الفصل بين الأجناس هو مما يخل بمبدأ المساواة هو إدعاء فى غير محله. ولو أنه كان كذلك فالمسئول عن تولد هذا الإنطباع بالدونية فى نفوس السود إنما يرجع فى منشئه إلى الأفكار التى يحملها السود فى داخلهم وليس إلى نص القانون الطعين !!
أما القاضى هارلان وهو الوحيد الذى لم يوافق على الحكم ضد سبعة من زملائه فقد تنبأ أن هذا الحكم سوف يلقى مصير الحكم الذى سبقه قبل ذلك باربعين عاما فى قضية سكوت ضد ساندفورد والذى ألغى بفعل التعديلات الدستورية التى أعقبت الحرب. وهذا القاضى هارلان كتب فى أسباب رفضه أن الدستور لابد له أن يكون مصابا بعمى ألوان ولا يفرق بين الناس على أساس اللون أو الجنس. ولكنه عاد فقال فى محل آخر من الحكم أن السود يتحملون جزءا من اللوم على الحال الذى هم عليه حيث أن الصينيين الذين هم أيضا مختلفون جدا عن الجنس الأبيض يمكن لهم مجالسة البيض فى عربات السكك الحديدية بينما الحاجز النفسى يمنع السود من ذلك. وقد جاء هذا الحكم مؤسسا لفكرة الفصل مع التساوى وهى الحيلة التى بنت عليها الولايات الجنوبية سياستها التشريعية فى كثير من الأمور مثل الرياضة والتعليم والمواصلات والمرافق العمومية حيث كان مبدأ الفصل راسخا بفعل هذا الحكم التاريخى.
والواضح جليا أن التيار العام للمجتمع الأمريكى والذى تمثله المحكمة العليا باستمرار كان بعد 30 عاما على إدخال التعديلات التاريخية على الدستور الإتحادى لا يزال رأيا يميل للعنصرية ويريد تجنب الإختلاط. فسبعة قضاة من تسعة وافقوا والثامن لم يحضر ولكنه أعلن موقفه المؤيد بينما كان القاضى الوحيد المعترض يفكر أيضا بهذه الطريقة التى تفرق بين الأجناس وإن لم تفصل بينها.
وقد ظلت سياسة متساوون ولكن منفصلون هذه متبعة لنصف قرن من الزمان حتى منتصف الخمسينات عندما حل موعد الدعوى التاريخية التالية والتى قلبت حكم عام 1896 وجعلت التساوى ليس له محل دون الإختلاط.. إنها قضية براون ضد الإدارة التعليمية..
↧
قضية بليسى ضد فيرجسون
↧