كتب إبن إياس فى كتابه بدائع الزهور الذي سجل فيه كثيرا من تاريخ مصر لدي وقوع الغزوة العثمانية وبدايات حكم الترك بمشاركة المماليك أن القسوة الصارمة كانت من السمات الواضحة لحكم قاضي العسكر خاصة إذا صدر الحكم من الوالي الذي كان له حق التدخل والتحكم فى القضاء.. فهناك حكم بتعذيب شخص ثم إعدامه بتهمة التزوير، وحكم آخر بإعدام ثلاثة من القواسة (الغفراء) – وكانوا حراسا علي قصب في شبرا – حينما تصدوا لأحد اللصوص الأتراك وأردوه قتيلا.
كما أن قاضي العسكر التركي أصدر قرارا نصه هو:
"نودي فى القاهرة علي لسان ملك الأمراء وقاضي العسكر (الإدارة المحلية والسلطة القضائية) بأن المرأة لا تخرج إلى الاسواق مطلقا ولا تركب علي حمار مكاري وألا يخرج إلى الاسواق إلا العجائز فقط وكل من خالف بعد ذلك من النساء تضرب وتربط بشعرها في ذنب كديش (؟) ويطاف بها فى القاهرة فحصل للنساء بسبب ذلك غاية الضرر.. ونودي بأن كل مكاري (عربجي أو صاحب ركوبة) ركب إمرأة شنق من يومه من غير معاودة في ذلك (أي بدون إستئناف ولا مراجعة لهذا الحكم)..
إنتهي النص..
ولا تعليق سوي أن الحسنة الوحيدة لهذا القرار أنه علي الاقل قد راعي قاعدة عدم الرجعية فى العقوبة!!
ويبين منه أن النساء كن فى مصر قبل دخول الأتراك علي حال أفضل مما أصبحن عليه بعد تولي الترك منصب القضاء الأعلي، فالحرمان من الخروج من المنزل علي ما يبدو لم يكن معروفا لنساء مصر قبل صدور هذا القرار الدراكوني، حتي أن إبن إياس يقول أن ذلك سبب للنساء غاية من الضرر!!.
ويظهر الظلم البين فى أن المكاري الذى يقبل بامرأة (علي ما يبدو بدون مرافق ذكر) يعدم من يومه بلا حق في إستئناف (مراجعة) أو حتي فى الدفاع!!
ولست أدري في كل نصوص الدنيا معاملة أشد قسوة من هذه، سواء للمرأة أو لمن يساعدها مقابل أجر!!
كان الجبرتي رجلا لماحا ذكيا جدا على ما يبدو من كتاباته، فقد فطن قبل غيره إلى أهمية دور الدولة وسيادتها فوق كل شىء إذ نجده في وصفه لأحداث الحملة الفرنسية يفرق بين حالين للفرنسيين
1. حال الإستقراروعدم القلاقل وفيه يكون الفرنسيون أصحاب دولة عدل وقانون لا تمارس السخرة وتعطي لكل حق حقه وتنزل العقاب بالمذنبين "حتي ولو كانوا من جنسه أو من ملته"وهو هنا يتحدث عن نابليون حين أنزل عقوبات بالإعدام علي بعض جنوده بسبب "التسلق على الدور"أى السرقة من المنازل أو محاولة إغواء واغتصاب النساء الأرامل فى قول آخر من نفس نص الجبرتي..
2. والحال الثاني وهو حال الإستنفاروالقلاقل والثورات إذ يتحول الفرنسيون إلى ممارسة الإرهاب والتنكيل الفظيع ولا يوقفهم واقف.
وهذا هو الفكر السائد حتي يومنا هذا فى معظم دول العالم، فكيان الدولة يسمو فوق كل الرؤوس وهي تحافظ على وجودها بالدم والمال والرجال ولا تعرف الرحمة فى مواقف الفتن.
قارن بين موقف نابليون فى مصر منذ 215 عاما وموقف القوات الأمريكية فى العراق مثلا منذ 8 سنوات فقط وإعفاء الجنود بل والمتعاقدين الأمنيين من المساءلة القانونية..
"وقد كنت قد أعرضت عن ذكرها لطولها وركاكة تراكيبها لقصورهم فى اللغة ثم رأيت كثيرا من الناس تتشوق نفسه إلى الإطلاع عليها لتضمنها خبر الواقعة وكيفية الحكومة ولما فيها من الإعتبار وضبط الأحكام من هؤلاء الطائفة الذين يحكمون العقل ولا يتدينون بدينوكيف وقد تجارى علي كبيرهم ويعسوبهم رجل أفاقي أهوج وغدره وقبضوا عليه وقرروه ولم يعجلوا بقتله وقتل من أخبر عنهم بمجرد الإقرار بعد أن عثروا عليه ووجدوا معه آلة القتل مضمخة بدم ساري عسكرهم وأميرهم بل رتبوا حكومة ومحاكمة وأحضر القاتل وكرروا عليه السؤال والإستفهام مرة بالقول ومرة بالعقوبة ثم أحضروا من أخبرهم وسألوهم على إنفراد ومجتمعين ثم نفذوا الحكومة فيهم بما إقتضاه التحكيم وأطلقوا مصطفى أفندي البورصلي الخطاط حيث لم يلزمه حكم ولم يتوجه عليه قصاص كما يفهم جميع ذلك من فحوي المسطور، بخلاف ما رأيناه بعد ذلك من أفعال أوباش العساكر الذين يدعون الإسلام ويزعمون أنهم مجاهدون وقتلهم الأنفس وتجاريهم على هدم البنية الإنسانية بمجرد شهواتهم الحيوانية" (3/117)
هذه الفقرة مأخوذة بنصها عن الجبرتي ورقمها موضح بعدها.
وهو هنا يتحدث عن محاكمة سليمان الحلبي قاتل قائد القوة الفرنسية فى مصر الجنرال كليبر. وهو يقول عن إجراءات المحاكمة أنها طويلة (مملة يقصد) وكان ينوي عدم ذكرها ولكنه وجد رغبة من كثير من "الناس تتشوق نفسه"إلى معرفة ما جري فى تلك المحاكمة !!
وبالطبع فهو يتعجب من طول بال الفرنسيين وعدم التعجيل بقتل الحلبي (الذى يصفه بالأفاقي الأهوج) بل تطبيق قواعد قوانين الإجراءات الجنائية عليه (لا يبين من النص أن المحكمة قد وكلت له محام أو ربما قد فعلت ولكن حاجز اللغة منع الجبرتي من فهم ذلك الإجراء الذى لم يكن معروفا فى مصر بعد)..
وهو يتعجب من إطلاق سراح مصطفى أفندي البورصلي بعد أن وجدت المحكمة أنه برئ فلم تنسب له أي تهمة، ويبدو أن هذا أيضا كان أمرا غير مألوف فى حكم ما قبل الفرنسيين.
وفى النهاية يعرج على حكم العساكر المسلمين ويتهمهم بأبشع التهم وبالحيوانية، وبالكذب وادعاء الجهاد، (غالبا يقصد الوطنية بلفظ الجهاد وليس الجهاد كما تعارف عليه المحدثون اليوم) وذلك فى مقابلة واضحة مع الفرنسيين.
"وإذا أراد الإنسان أن يفر إلى أبعد مكان وينجو بنفسه ويرضي بغير أبناء جنسه لا يجد طريقا للذهاب وخصوصا من الملاعين الأعراب الذين هم أقبح الأجناس وأعظم بلاء محيط بالناس وبالجملة فالأمر عظيم والخطب جسيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم" (3/ 110 - 111).
هذه الفقرة أيضا مأخوذة بنصها عن الجبرتي ورقمها موضح بعدها.
وهو هنا كان يصف حال سكان القاهرة الذين هربوا منها عقب الثورة الثانية وأرادوا الفرار إلى القري فقطع عليهم الأعراب الطريق وجردوهم من كل شىء حتي من الثياب فاضطروا للعودة إلى القاهرة بعد فقدان كل شىء..
هاهو الجبرتي الرجل المحافظ الأزهرى قد شهد وقال كلمته..