مع بضعة أفراد من الطلبة، كنت أحاول كسر الحصار الذي ضربته الشرطة على الساحة المقابِلة لمدخل الكلية الطبية، المفضية إلى الشارع العام ، وذلك للوصول إلى ساحة باب المعظم للنفاذ منها إلى شارع الرشيد، باعتباره أهم شوارع العاصمة. للخروج في تظاهرة سلمية، نعلم أنها وإن بدأت بالعشرات، ستفضي إلى الآلاف.
وأتذكر جيدا ً أنني وبعض الزملاء أخذنا نهدم السياج الخارجي للكلية بعد أن نفدت عدتنا من الحجارة القليلة التي نحتاجها لنقذف بها قوات الشرطة المدججة بالأسلحة والسيارات المدرعة التي نصبت فوقها الرشاشات. وكنا نقذف الحجارة، والرصاص يلعلع فوق رؤوسنا.
ما يزال أزيز الرصاصة التي أخطأتني، يرن في أذني، وكأنني على موعد معه في مثل هذه الأيام من الشهر الأول من كل عام، منذ قرابة سبعين عاماً. وأتذكر بوضوح أنني كنت أول المتقدمين وأكثرهم تقحما ً وحماسة ً، لكسر الحصار فتجاوزت السياج وأصبحت في منتصف الشارع العام تقريبا مع واحد أو إثنين من الطلبة، وبيني وبين خط الشرطة بضعة أمتار. وفجأة وجدت عيني تلتقي بعين أحد أفراد الشرطة وقد أصبته إصابة خطرة. وكانت الدماء تسيل من رأسه فتغطي كامل وجهه تقريبا ً. رأيته والشرر يتطاير من بقايا عينيه، وهو يصوب بندقيته نحوي، فأيقنت أن هذه نهايتي. ودوت الرصاصة القاتلة، التي مرت من طرف أذني اليسرى فأصابت رأس زميلي الذي كان يتبعني مباشرة؛ ورأيت رأسه يتفجر وهو يهوي على بلاط الشارع . أقول؛ ما يزال ذلك الأزيز الصارخ والقاتل يعصف في أذني، ويثير في أعماقي مشاعر يختلط فيها القدر والإرادة العلوية والمصير المحتمل أوالمحتوم، فضلا عن تساؤلات مرهِقة ، في سرّ الوجود وسر الموت والتطلع نحو الخلود. وأتسائل هل أخطأتني تلك الرصاصة عمدا ً أو صدفة ً، لتستقر في رأس صاحبي الشهيد الذي كان يتبعني مباشرة، فكتب الله ليّ الحياة وكتب له الموت، الذي كان بيني وبينه ربما أقل من شعرة؟ وهل أنا أسعد منه حظا أم العكس هوالصحيح ؟ وما الفرق بين ان يـُقتل الإنسان أو يستشهد قبل العشرين أو يموت في الثمانين، إذ "كل نفس ذائقة الموت"؟ "ويقول الشاعر "ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ---- تعددت الأسباب والموت واحدُ". وهل أكرمني الله بهذه المِنـّة أو عاقبني ؟ أليس من الأشرف والأكرم والأسمى أن يموت الإنسان واقفا ً شامخا ً مكافحا ً في سبيل إعلاء كلمة الحق، من أن يقضي نحبه، ضعيفا ً مريضا ً مستلقيا ً على فراش الموتً، وهو في أرذل العمر؟ أي "يقضي على فراشه كما يموت البعير ،فلا نامت أعين الجبناء"، كما يقول خالد بن الوليد. وماذا جنيت فعلا ً من هذه الأعوام السبعين الزائدة التي عشتها؟ وإنْ لم أجنِ منها شيئا ً، على الصعيد الشخصي، فهل استفاد مني بلدي أو مجتمعي أو قومي أو البشرية، ما يكفي، لتبرير بقائي على قيد الحياة كل هذه السنين؟