كان القاضي رولاند فرايزلر هو رئيس ما يطلق عليه محكمة الشعب أثناء حكم النازية في ألمانيا. وهو صاحب العبارة الشهيرة: "لأول مرة في التاريخ أصبح حب الزعيم مصطلحا قانونيا". وقد كان هو من حاكم المتآمرين علي حياة الزعيم في حركة 20 يوليو 1944 والتي استهدفت حياة هتلر لكي تنهي الحرب بعد نجاح إنزال نورماندي وقبل فوات الأوان وتدمير ألمانيا بالكامل علي يد الجيوش الهائلة الزاحفة عليها من الشرق والغرب.
ومشاهدة تسجيلات جوانب من هذه المحاكمات هو شئ جديد في عالم القضاء.
أولا جاءت الأحكام قاسية ولا تقبل الإستئناف ولا الاعتراض، وجاء تنفيذها خلال 24 ساعة من صدورها، إذ أعدم. حوالي 100 شخص في الليلة الثانية لصدور الحكم. كما أنهم شنقوا معلقين من خطاطيف حديدية مصطفة علي قضيب مثبت في حوائط المبني بنفس أسلوب تعليق الذبائح عند الجزارين.
ثانيا قاعة المحكمة وكيفية الإجراءات هي موضوع مستقل.
ثالثا وهو أهم ما في الموضوع فهو التشابه بين ما وقع في حكم الفاشية في أوروباوما عرفته البلاد العربية فيما بعد أثناء الحكم "الوطني "الي درجة أن اسم محكمة الشعب قد تم اقتباسه..
"الحزب اسمه هتلر، وهتلر هو الحزب"...
من قول السيد / رودلف هيس، سكرتير هتلر
"أنا ليس عندي ضمير. إن ضميري اسمه أدولف هتلر"..
من قول السيد / هرمان جورنج، الرجل الثاني في الدولة بعد هتلر.
لعل أكثر ما يهمنا في ذلك السياق هو الاثر الذي تتركه هذه الأنظمة علي عقول الناس فتجعلها تتوقف عن العمل. فهاهم الحلفاء قد نزلوا فى نورماندي وهاهو الجيش السوفيتي يتقدم نحو أرض ألمانيا من الشرق وهاهي الهزائم الألمانية تتوالي، إلا أن الجماهير كانت لا تزال مصدقة فى قدرة الجيش تحت قيادة الزعيم علي تحقيق النصر النهائي. بل أن أهل برلين ظلوا حتي اللحظة الأخيرة ينتظرون أن يستعمل الزعيم "السلاح المعجزة".
وهذه الغيبوبة عن الواقع هي أسوأ أثر للدكتاتورية.. بل أن الدكتاتورية التي تحول الناس إلي أطفال تستند إلي الأب الكبير تنسيهم أيضا المعارف الاساسية التي لا علاقة لها بالسياسة ولا الحكم.
في حديثه عن دخول الفرنسيين إلي مصر يروي الجبرتي في كتابه أن المصريين شهدوا عجبا من الأدوات التي يستعملها الفرنسيون والتي توفر المجهود.
وهو يسوق علي سبيل المثال إستعمال العربة التي تحمل بالمواد ثم تساق بشخص واحد إلي مكان الإحتياج لهذه المواد بدلا من حملها علي الأكتاف كما كان المصريون معتادين!! وهو يقصد البراويطة التي نعرفها جميعا كمهندسين!!
لقد تسببت الدكتاتورية فى نسيان تكنولوجيا العجلة وهي الأمر الذى كان المصريون قد عرفوه قبل الحملة بثلاثة آلاف عام إذ كانت لديهم عجلة حربية يخوضون بها المعارك وموجود منها عدة قطع أصلية فى المتحف المصري.. ولكنهم نسوا وجودها وفوجئوا بالإختراع الفرنسي عام 1800 !!
وبصرف النظر عن الصراع السياسي الذي يدور بين طرفيه فى مصر وعلي حكمها وإقتصادها وثرواتها، فإنه من الضرورى معرفة أثر الدكتاتورية علي تفكير المواطنين وخصوصا في ظل فساد الصفوة. فالفرحة الحماسية الغامرة التي عمت كل شعوب أوروبا عام 1914 بسبب إعلان حالة الحرب سواء فى النمسا أو في ألمانيا أو في روسيا أو فرنسا لم يكن المحرك عليها هؤلاء المواطنين البسطاء ممن سوف يتحولون بعد قليل إلي وقود للحرب يحترقون لكي تظل آلة الدمار مستمرة في عملها، ولكن الدافع إلي هذا الحماس المضر كان هو المثقفون والصفوة ممن كانوا خارج دائرة الشيوعية التي لم يكن أحد يعرف عنها شيئا بعد. فالشيوعيون لم يكنوا علي وفاق مع حالة الحماس هذه، إلا أنهم كانوا يريدون خوض صراع الطبقات، وهي أيضا نظرية قال بها أحد المثقفين ويدعي كارل ماركس..
والنتيجة هي ما عرفتم وذقتم..
وفي مصر أيضا وجدنا هذا الحماس اللاعقلي متواجد في نهاية فترة حكم مبارك، بل وكانت هناك نغمة في أوساط المتعلمين والأثرياء بأن إبنه جمال هو أفضل من يمسك مقاليد الحكم بعد والده العجوز "لأنه مدرب علي حياة القصور والأبهة"!! هكذا كانت تفكر صفوتنا الميمونة.
بل أن هذه الموجة المفسدة لم تتوقف عن إغراق رأس الكنيسة القبطية البابا شنودة الذي أعلن بدون مواربة ولا تورية أن الكنيسة تؤيد رئاسة جمال مبارك، رغم أنه لم يكن قد أعلن عن ترشيح نفسه بعد ورغم أن الكنيسة لا ينبغي لها أن تنزلق إلى مثل هذا المستوي.
وشيخ الأزهر لم يتورع هو أيضا عن التأييد والإتيان بالآيات التي تدعم وجهة نظره وكلنا لا ننسي حديث زبر الحديد أمام مبارك..
وكذلك السلفيون كانوا يعلنون أن الخروج علي طاعة ولي الأمر هي فتنة لا ينبغي للمسلم الحق أن يقع في براثنها، فإن هو ظل علي تقوي الله في عباده وفي حكمه فلا ثورة عليه..
والإخوان كانوا أيضا قد أجروا إتصالات بالحزب الوطني أعلنوا فيها أنهم علي إستعداد لقبول رئاسة جمال مبارك مقابل السماح لهم بالعمل الحر..
أما القضاء فحدث عنه ولا حرج، وتكفي تصريحات معظم القضاة في ذلك الوقت دليلا علي صحة وواقعية ما أقول..
وهكذا تسببت الدكتاتورية العاتية التي إستمرت 60 عاما في إفساد ثلاثة أو أربعة قطاعات من صفوة المجتمع الأكاديمية والدينية والسياسية والقضاء.. وهذه هي الأركان الرئيسية، الإقتصاد والسياسة والدين والقضاء.. قولوا لي بالله عليكم لو أن أحدا منكم هو جمال مبارك، لماذا لا يعتقد أن ذلك قد أضحي حقا مشروعا وقانونيا له؟
كل ذلك كان المتسبب فيه هو الحكم الديكتاتوري الذي يقتل الروح الخلاقة المفكرة في النفس البشرية ويحول الإنسان إلي نوع من الحيوان المستأنس الخاضع لقوة إنسان غيره يراها بعقله القاصر المقيد وكأنها إحدي قوي الطبيعة..
ومن هنا حرصت دساتير كل الدول الديموقراطية على النص علي أن الناس أحرارا ويظلون أحرارا وأن حريتهم مكفولة وأن كرامتهم لا يعلو عليها شئ أو إعتبار..
فى حالة أخري من حالات الدكتاتورية المهشمة للإرادة كان ستالين - بعد أن نجح في تصفية جميع من خطرت بباله فكرة المعارضة ولو لثانية واحدة خلال حياته- قد وصل إلي مرحلة عدم الإحتياج إلى طلب الخضوع من الناس، فقد كان الخضوع يأتيه من تلقاء نفسه وبلا مجهود. وكان لستالين مقولة شهيرة لم يحد عن مقتضاها يوما واحدا خلال حكمه، كان يقول المشاكل سببها البشر وفقط البشر. حينما يوجد الإنسان توجد المشاكل.. إذن لا إنسان لا مشاكل..
وقد بني حكمه علي أساس أن الإنسان لابد له من الإخضاع إما رضاءا أو جبرا، ولكن لا إنسان بلا خضوع.. وهو بذلك قد نزع عن الإنسان نفس هذه الصفة الوحيدة التي تميزه عن باقي مخلوقات الله، العقل والكرامة الناتجة عن هذا العقل.. فأصبح ستالين وقوته في نظر الروس شيئا قدريا مثل قوة البركان والتسونامي والأعاصير. ولا راد لقضائها.
ورغم كل ذلك فقد بكته النساء الروسيات فى الريف من الفلاحات بكاءا من القلوب وتتمزق له القلوب وكان ينتحبن قائلات: مات السيد العظيم الذي كان يطعمنا.. فما هو معني ذلك؟؟؟
معناه هو أن الدكتاتورية قد أخرجت هؤلاء النسوة من الحالة الإنسانية وحولتهن إلى حيوانات تقبل بأي شئ يلقيه لهم السيد فيأكلونه شاكرين !!!ا.
هذا هو بالضبط تعريف الحيوان المستأنس
وفي الهند عام 1913 قام الملك جورج الخامس وزجته بزيارة لأول مرة لملك بريطاني للمستعمرة الكبري ودرة التاج. وكانوا يقفون علي منصة خشبية مرتفعة بعض الشئ لكي يراهم الشعب وجاء ممثلو جميع الطوائف الهندية لكي يقدموا فروض الولاء والخضوع..
وبعد إنتهاء الحفل ومغادرة الزوج الملكي تدافع الجمهور العادي من البسطاء يتزاحمون علي مواضع أقدام الزوج الملكي علي تلك المنصة الخشبية لكي يقبلوا مواضع تلك الأقدام تبركا بها ... فما هو معني ذلك أيضا؟
معناه أن الهنود رجالا ونساءا ممن ذهبوا لممارسة هذه "الطقوس"الشاذة قد فقدوا شعورهم بالإنسانية، ذلك الشعور الذي يجعلهم يدركون أن ملك إنجلترا وزوجته ما هما إلا بشر مثلهم لا تصح عبادتهما ولا يملكان من أمرهما شيئا. وفقدان الشعور هذا ناتج كما في كل مثال أوردته، عن الدكتاتورية.
وقد رأينا أن الألمان قد تساووا في ذلك مع الروس والمصريين والصينيين والهنود والكوريينومعظم شعوب الأرض..
ولابد أن أعترف لكم بأنني كنت أفكر بنفس طريقة السيدات الروسيات اللتي كن ينتحبن علي ستالين إلي أن ردعتني أمي رحمها الله.. وقد حدث ذلك في سن الحادية عشرة عند وفاة الزعيم الخالد. ورغم أنها هي نفسها كانت تبكي عليه معتبرة أنها ماساة إنسانية أن يموت رجل في هذا العمر المبكر، إلا أنني عندما كنت مع التيار العام في المدرسة أري أنه زعيم فذ لن يعوض، إقترحت عليها وهي تطبخ لماذا لا يعينون إبنه خالد ذا العشرين عاما رئيسا تكريما لذكراه واعترافا بفضله؟
وهنا تحولت أمي بسرعة من الطيبة للتوحش وقالت لي لا، من هو هذا العيل ذو العشرين عاما الذي يحكم مصر؟ وما هي خبرته التي سوف يخيف بها إسرائيل ويرد الأرض؟ فافاقتني كلماتها وأدركت فيما بعد عندما كبرت أكثر معني كلماتها وهو أن الأوطان لا تدار بالعواطف والمجاملات الوفائية.. وأن مصلحة الوطن فوق كل إعتبار..
ولكن هذا يعرض لكم إلي اي مدي تنجح الدكتاتوريات في غسل أدمغة الصغار مبكرا وتحويلهم إلي حيوانات مستأنسة..
وإحقاقا للحق فقد قال لنا أستاذ الموسيقي تعليقا صغيرا همسا وبدون علم المعلمين الآخرين قال فيه أنه لا يوجد زعيم خالد لأن الخالد هو الوطن فقط.. وبعد ذلك عرفت أنه كان رجلا شيوعيا، أو قيل عنه ذلك