عاشت أوروبا كل فترة الحرب الباردة مستندة إستنادا شبه كامل علي الحليف الأمريكي الذى كان بقوته الذاتية يمثل الملاذ الأول وربما الوحيد لكل دول اوروبا الغربية ضد خطر الهجمة السوفيتية علي القارة. وفي خلال هذه الفترة الطويلة تمت تنشئة أجيال متعددة بطريقة تقوم علي بغض الحرب والجنوح إلي الروح المسالمة بل والتظاهر كلنا لاح خطر الحرب لأي سبب وذلك لإثبات النزعة السلمية. والسبب في ذلك التطور الغير مسبوق في كل التاريخ الأوروبي هو حجم الخراب وقدر الدمار الذي حاق بكل قارة أوروبا (عدا بريطانيا إلي حد ما نظرا لأنها لم تكن مجالا للقتال). فالتاريخ الأوروبي هو كما يقول بعض المؤرخين تاريخ حروب لمدة أكثر من 2000 عام. إلا أن النزعة الجديدة التي لم تعرفها أوروبا إلا خلال السبعين عاما الماضية أصبحت من القوة والتمكن من الروح الأوروبية إلي درجة حدوث نوع من الإنفصال بين الماضي والحاضر.
وعلي الجانب الآخر من الأطلنطي لم يكن لهذه النزعة المسالمة أي نصيب من النجاح. فالولايات المتحدة منذ إنتصارها في الحرب العالمية الثانية لم تخل موقعا كسبته بهذه الحرب. بل علي العكس. فقد دأبت الولايات المتحدة علي إخلاء مواقع للإستعمار الأوروبي القديم لإحلال نفوذ أمريكي محلها. وما حرب فيتنام إلا إرث لمستعمرة فرنسية وما حرب كوريا إلا إرث لمستعمرة يابانية وما الفليبين إلا إرث لمستعمرة إسبانية بعد نصر في الحرب فى بداية القرن العشرين متحولة إلي يابانية أثناء الحرب الثانية. وما حركة القضاء علي رئيس وزراء إيران مصدق إلا إرث لأوضاع متميزة بريطانية، وهكذا...
حتي حركات الإعتراض المجتمعي داخل أمريكا ضد الحرب في فيتنام والتي خيل لكثيرين أنها تشكل بداية لانهيار أمريكا من الداخل وأنها العقاب الذي سوف تناله المؤسسة العسكرية الصناعية المالية بسبب تماديها في شن الحروب وبيع السلاح والتشاكس مع كل من لا يقبل بالهيمنة الأمريكية، حتي هذه الحركة السلمية لم تلبث أن خمدت وانطفأ وهجها بمجرد توقيع إتفاق عام 1973 الذي أنهي الوجود الفعال للولايات المتحدة في فيتنام وحول الحرب إلي حرب بين طرفين فيتناميين فقط وأخرج كل الأطراف الأجنبية من حلبة ذلك الصراع المريرتحت شعار Vietnamization of the warأو تحويلها إلي حرب فيتنامية خالصة، أقول حتي تلك الحركة السلمية قد إنتهت وانتهي مفعولها تماما بمجرد توقيع ذلك الإتفاق الشهير..
وهذه خصيصة من خصائص المجتمع الأمريكي، النسيان السريع جدا والذاكرة شبه المنعدمة. فمجتمع أمريكا – خلافا لكل مجتمعات أوروبا- به دائما شيء جديد.وهذا الشئ الجديد ينسي الأمة الأمريكية كل ما كان قائما قبل دخول هذا الشىء الجديد حياتها..
بل أن الرئيس الجديد الذي جاء عقب سنوات إدارة كارتر الأربعة كان علي طرف نقيض تماما مع أي فكرة تقترب ولو من مسافة كبيرة من مفهوم المسالمة، إنها إدارة الرئيس ريجان التي إمتدت لثمان سنوات متبوعة بأربعة سنوات أخري تحت رئاسة نائبه جورج بوش الأب، والذي كان خير ممثل للمؤسسة العسكرية الصناعية المالية للرجل الأبيض. فانقلبت الأحوال في أمريكا بعد دخول ريجان إلي البيت الابيض وأصبحت القوات المسلحة الأمريكية طفلا مدللا من جديد وخرجت عشرات الأفلام السينمائية والأغاني التي تمجد في دورها وترفع من شأنها وتعلي من قدر تضحياتها واصبحت الوطنية الأمريكية لا تجد تعبيرا عنها يخرج عن وجوب الإشادة بالقوات المسلحة.
وكانت نتيجة ذلك كله هو أن المجتمع الأمريكي ظل وإلي اليوم بعيدا عن حركات السلام الإجتماعية التي عرفتها كل دول أوروبا والتي كان لها الدور الأول – وليس للجيوش – في تقويض أركان الشيوعية وإعادة توحيد أوروبا..
أما في أوروبا فقد ظلت حركة السلام وبغض الحروب قائمة منذ عام 1945 إلي يومنا هذا بلا أي إنقطاع.
أما في أوروبا فقد ظلت حركة السلام وبغض الحروب قائمة منذ عام 1945 إلي يومنا هذا بلا أي إنقطاع.
ولكن الدواء الموصوف من الطبيب البارع لا يوصف فقط بمجرد إسمه أو تركيبته، وإنما باتحاد عنصري الإسم والجرعة في نفس الوصفة. وهنا بالضبط تقع المحنة الأوروبية..
إذ أن الإتجاه الستراتيجي السلمي علي الرغم من أخلاقيته وتوافقه مع مقتضي العقل والصالح العام إلا أن الإفراط فيه يتحول إلي تعبير عن الضعف كما أنه ينتج عدم إكتراث بالوزن الستراتيجي لأوروبا التي يبدو للواقفين خارجها أنها لا تملك من أمرها شيئا في مسائل الأمن من حرب وسلام، فالمفاتيح يمسك بها الجالس في البيت الابيض بالإضافة إلي من يجلسون في الكابيتول من أعضاء الكونجرس.
ولعل أظهر حالات هذا الخلل الستراتيجي كانت ما وقع داخل أوروبا من حرب عاتية خلال التسعينات وارتكبت فيها العديد من المذابح التي أهين فيها الإنسان بينما وقفت أوروبا عاجزة عن الحركة تنتظر تدخلا من إدارة أمريكية..
وهذا يجرنا إلي فتح باب الحرب اليوجوسلافية التي لم يتنبه أحد وقت قيامها إلي آثارها البعيدة الممتدة في الزمان والمكان.. والتي لا تزال تلعب دورا كبيرا فى تشكيل حركة الأحداث إلي يومنا هذا..
فما هي القصة؟