استثار تعبير "أنا شارلى"الذى جرى تعميمه بسرعة إعلامية مذهلة ، ومشى تحت أعلامه رؤساء دول وحكومات من أنحاء العالم وحتى الإسلامى منه ، استثار حفيظة الكثيرين ، وأفكار آخرين ممن ليسوا طرفا مباشرا فى النزاع ، أى ممن ليسوا فى جبهات التحدى ، والتحدى المضاد ، وخاصة من أفريقيا والعالم الثالث .
ولا أقصد تقديم حصر لذلك ، بقدر ما علينا جميعا الانتباه للتحليلات المختلفة التى قد تفيد فى خلق سياسات "أخرى "محلية أو دولية ...لكن أغرب ما عرفناه اليوم من نتائج ، أنه قبل إعلان التحالف الدولى ضد إرهاب ما بعد "شارلى إبدو "، وإذ بنا أمام إعلان عن اجتماع دول غرب أفريقيا فى إطار الإتحاد الأفريقى ، لتكوين "قوة عسكرية اقليمية "أفريقية لمواجهة الإرهاب فى غرب أفريقيا ، بدءا من "بوكو حرام "فى نيجيريا ....!! الخ ..هذا السلوك الدولتى المنافق من قِبل مجموعة كبرى من حكام غرب أفريقيا ، ينقل الجدل سريعا إلى مستويات كثيرة أبعد من التفكير الهادئ الجدير بالمسألة ....فهذا السلوك ينقل إرهاب "بوكو حرام "مباشرة من مسألة "قومية "نيجيرية إزاء جماعة متطرفة تشوه أفكار الجهاد الإسلامى عند "دان فوديو"أو "الكانمى"أو حتى الفرض الإسلامى المقدس حول الجهاد لنشر الدعوة الدينية واذ بنا امام مسألة "سياسية "إقليمية ، ومن ثم "دولية "بما يبدو تعاونا عسكريا وثيقا مع فرنسا تحديدا فى المنطقة ، منذ قتالها للسلفيين فى شمال مالى ، ووقوفها وراء الإنقلاب العسكرى هناك ( مارس 2012) ضد مسار الديمقراطية هناك ,ونزول قواتها بحجة "حماية مخطوطات تمبوكتو المقدسة "فى الشمال! بينما هى تواجه قوة مدنية تطلب حق تقرير المصير للطوارق وليس لمطلب دينى !
هذا الانتقال لتفسير "سياسى "أكبر ، هو الذى أورده أكثر من واحد من المثقفين الأفارقة ، مثل محمود ممدانى وغيره ...مبعدين حوادث الإرهاب مثل هذه من دائرة "مسلمين ونصارى"إلى دائرة الصراع السياسى وخاصة الدولى . واستعاد ممدانى آراءه منذ أصدر كتاب "المسلم الصالح والمسلم الطالح" ( ترجمناه فى مصر) وأعاد الينا - في كتابه ذاك -صورة المخابرات الأمريكية وهى تجند"المجاهدين "وتعطيهم السلاح بالتعاون مع السادات , والاسلاميين في مصر لمحاربة "الكفار"فى أفغانستان ... الخ!
هذه الصورة هى التى تقف دائما وراء تفسيرأحداث مثل "شارلى إبدو "تفسيرا سياسيا عند العقلاء ، وإن أثارت التعصبات الدينية عند آخرين . إن تحويل حدث "شارلى إبدو"إلى موقف بين الإسلام والمسيحية "هو جوهر الدعاية الغربية – مرة أخرى , كحجة لاعادة بحث وضع المغتربين المسلمين من قبل قوى اليمين الصاعد والمتوحش فى أوربا ...هذه هى الصيغة السياسية ، وهى "وارد المجتمع "الرأسمالى السياسى فى الغالب ... لكن الطريف أن الفكر الأفريقى ، لم ينشغل بذلك بهذه الصورة الفجة ...وأما مى نصوص عديدة تعلن "أنا لست شارلى "، ولكنى نيجيرى ، أو أفريقى ، او اني ضحية الاستعمار الاوربي ....الخ . وجاءت أخرى تقول فى مانشيت صحفى : "لست شارلى تماما..ولكن ...! نسعي الي تحذير أفريقى متعقل ضد "استقطاب التحليل "كما ورد فى عنوان آخر ، لأن البعض رأى أن المسلمين ليسوا كتلة واحدة ,وليس الاسلام جزءا ثابتا فى "سياسات الكثيرين منهم ، ولكن المتطرفين منهم ، انما يحسبون وفق ما حسب "الكلو كلان"فى أمريكا أو غيرهم فى فرنسا وألمانيا ...!الخ ....وهذا لا يعنى أن هذه المجموعات لا تقوم بعمل إجرامى نحاسبهم عليه امام القانون بالطبع ...
التحليلات الأفريقية ، تميل بعد وضع الاعتبارات السياسية ، إلى التحليل الثقافى والتاريخى ، والمقارن ، وليس مجرد مناقشة للثقافة الدينية ، وأظن أن ذلك يرجع إلى أن "التفكير فى أفريقيا غير العربية "أو الاسلامية لم ينشغل كثيرا طوال العقود الأخيرة "بالإسلام السياسى "على نحو ما شغل به عرب ومسلمو الشمال الأفريقى والشرق الأوسط!
من هنا تحدث بعضهم دون حرج عن تصديقه للقول أن التسامح بمعناه الليبرالى الحداثى ما زال قيمة غربية على نطاق واسع بينما ما زال قيمة دينية فقط – مع أو ضد- على المستوى الإسلامى ...ويترتب على هذا التفكير مقولة أخرى تصدرها معاندتنا للغرب بطرح نماذجهم فى التعصب أو حجب الحريات فى مثال تحريم ذكر الهولوكوست أو السخرية من اليهود ...الخ عندئذ تحدث بعض الأفارقة – مثل الأوربيين – عن أن ذلك يبقى فى حدود القضية الجنائية , حيث تبقى الإدانة فيها فردية . أما التعصب الإسلامى الدينى فيبقى جماعيا ، أى تجاه الجماعة "الأخرى "ومن ثم فالعقوبة تتجه –عند الاسلاميين - إلى مجتمع بالجملة مثل الدانماركى أو الفرنسى أو الأمريكى ...الخ وليس الي الافراد , وهذا مكمن خطر الإسلاميين الفعلى ...
كل ذلك ورد فى كتابات باقلام "بونافنتورا ", وريمي مايسيل ", وبول زيليزا "وغيرهم ، وبعضها مع الاحتداد يقول "لا"للمهرجان الغربى الفرنسى ، بل لاحظت العودة إلى نوع آخر من الاستقطاب النقدى تجاه الغرب ...مثل : أين كانوا يوم مذبحة "رواندا " ...، وأين هم من القتلى "الفلسطينيين بيد إسرائيليين ، أو قتلى الطائرات الأمريكية وغيرها فى اليمن ,,,أين الموقف الغربى الفعلي ضد الإرهاب العالمى ؟ بل ان هناك من يقول إن السلوك الفرنسى بات ينحو منحى الدول المتهمة باللجوء لاجراءات مصادرة الحريات واستخدام الاجراءات العسكرية ، أو استحضار ما قيل عن "أن أيدى "كميرون"فى انجلترا ملطخة بالدماء "هذا فضلا عن مساءلة الحروب الأوربية فى أفغانستان والعراق ، التى لم تعد بفائدة إلا للغرب وأصدقائه من النظم المحلية!
وقد أثار ذلك ايضا سؤالا دائما : هل ما زالت المشكلة هى صراع الحضارات مع الغرب ...فى ظل إتهام دائم للمسلمين بالتعصب ورفض الحوار الحضارى ؟ الإجابات متعددة حول ذلك ومعظمها فى القول بعدم نجاح الحوار بسبب تشدد المتعصبين علي الجانبين أساسا والذين يزحفون منهم على السلطة تدريجيا وبنجاح ملحوظ , علي الجانبين ايضا !، وهنا صعب القول بوجود تسامح حقيقي في الغرب 00 ذكر ممداني , وغيره , ان قوانين ازدراء المعتقدات لا تشمل الاسلام مثل غيره في دول الغرب , ومن ثم فإن قيمة "التسامح"التى يرددها الغرب هي فقط عن نفسه ، وجديرة بالمراجعة . وهنا يتوجب القول ان المسلمين ايضا لم ينجحوا في تقديم اجتهادات جديدة وحقيقية او فيما يسمونه تجديد الخطاب الديني بل انهم يتعنتون مع من يحاولون فيه
ما زال الفكر الأفريقى يضيف إلى تحليلات الاحتجاج على إرهاب "شارلى إبدو "بالبعد الأفريقى المناسب . بدأ يتذكر الكثير مما يحدث لمجتمعاتهم ، أو تجمعاتهم ...فيصل بالفكر إلى وضع المغتربين أو المهاجرين الذين قد لايجدون حلولا مناسبة من أجل ما يطرحوه عن "الاندماج"فى المجتمع الغربى ، ويقابل بالرفض اليمينى ، فيضطر الشباب إلى "هجرة أخرى" ...إلى حل "الدولة الإسلامية "المتخيلة فى تراثه ,من "الاسلاميات"عن "الجهاد "، "والأمة الإسلامية "كخير أمة أخرجت للناس".... فضلا عن تناقضات لا تحصى فى النصوص حول "النصارى والكفار "....الخ , بما يجعل الاندفاع نحو الإرهاب ذاتيا وليس مجرد مؤامرة !
من النقاط التى أوردها البعض للتحليل المعمق أيضا دراسة لمعنى "السخرية من الذات "وتفسير موقف "الصحيفة الساخرة"فى إطار الفلسفة الحديثة عن "تطهير "المجتمعات لذاتها "عبر النقد والنقد الذاتى والسخرية من الذات , وعلي نحو ما تفعل نفس الصحيفة مع الكنيسة واليهود والسياسيين .. ! ....ويأتى الرد الأفريقى ، بأن الاصلاح أو التطهر بالنقد الساخر هو بالفعل عمل ثقافى يتناسب مع التقاليد والثقافة الوطنية و وقد يسمي عند المسلمين "الاجتهاد "وأحيانا بالتجديف"، ( وأظنه يسمى الآن تجديد الخطاب الدينى !) ولكن إلى أى حد يصل المسلمون إلى المعنى الغربى العلمانى حول التسامح والسخرية من الذات كقيمة مدنية تطهيرية ، حتى يتسامحون مع "شارلى إبدو"؟؟ ( في حديث لاحد الدعاة الجد د اشا رالي عدد من ايات سورة التوبة , وخاصة الاية" 61"التي تشير الي ايذاء النبي فيتوعدهم بعذاب الاخرة وليس بالقتل او الايذاء في الدنيا ) لكن ما حد ث من جانب "شارلي ابدو "في راي ممداني مثلا هو أقرب للتعصب او الازدراء bigotry وليس مجرد تجديف او سخرية blasphemy – ان صح التعبير - لأنه تعصب تجاه آخر ولو برسم كرتوني فيما يبدو سخرية .
وما زال الجدال متصلا ...