"رغم أن نص الخطاب ورد إليّ وقرأته إلا أنني أغفلت كما أغفلنا نحن جميعا نبرة التهديد الواضحة فيه حيث أن الوزارة كانت منهمكة في أمور ألمانيا الشرقية وما يحدث بها من مبادئ ثورة"..
هانز ديتريش جينشر وزير خارجية ألمانيا الغربية عام 1989 في حديث تليفزيوني متأخر معلقا علي خطاب الرئيس اليوجوسلافي سلوبودان ميلوشيفيتش فى الذكري ال 600 لمعركة كوسوفو الرهيبة عام 1389..
ومعركة كوسوفو هذه هي النقطة الفاصلة في التاريخ السياسي للصرب وكذلك في تكوين هويتهم الثقافية. إذ أنها المعركة التي تسببت في تقويض سلطة الدولة الصربية علي اراضي كوسوفو وتحول أمرائها واحدا بعد الآخر إلي التحالف مع الدولة العثمانية التي وإن كانت لم تنتصر إنتصارا مباشرا إلا أنها قطفت ثمار هذا التعادل فى النتيجة لصالحها عن طريق سياسات التهجير للأتراك لكي ينشئوا مجتمعات تركية في كوسوفو.
وتحليل معركة كوسوفو لا يهمنا كثيرا هنا ولكن المهم هو التركيز علي دور هذه المعركة في تشكيل الهوية الثقافية للمسيحيين الأرثوذكس في منطقة البلقان والذين شهدوا الإستيلاء علي عاصمتهم التاريخية كونستانتينوبل بعد وقوع تلك المعركة بحوالي ستين عاما فقط وتحويلها إلي مدينة إسلامية بل وإلي عاصمة الدولة الأوروبية الوحيدة التي تدين بالإسلام، الدولة العثمانية.
ومحنة فقدان كوسوفو عن طريق سياسات التهجير والاسلمة هي فى الوجدان الصربي قريبة الشبه بمحنة فقدان أرض فلسطين بالنسبة للفلسطينيين، محفورة في الذاكرة يتغني بها الرواة ويعيدون وصف جمال أرضها وحقهم السليب فيها عبر الزمان والذى لم ولا ولن يضيع..ولا يفوتنا هنا أن نتدبر أمر تحويل الكنيسة العظيمة آجيا صوفيا التي كانت بمثابة فاتيكان الكنيسة الشرقية إلي مسجد بعد دخول الترك إلي المدينة في عام 1453 وفي ذلك ما فيه من جرح غائر في قلوب الأرثوذكس الأوروبيين.
(قامت القوات الإسبانية المنتصرة بعد ذلك بأربعين عاما بالضبط بممارسة هذا العمل وتحويل مساجد قرطبة وأشبيلية وغرناطة ايضا إلي كنائس)..
وفي الذكري ال 600 لهذه المعركة الرهيبة ألقي الرئيس اليوجوسلافي سلوبودان ميلوشيفيتش خطابا ناريا في موقعها ذاته بالقرب من مدينة بريستينا في صيف عام 1989 وبدل الخطاب المبني علي الاساس الإشتراكي المعتاد من زعيم حزب شيوعي إلي خطاب يركز علي عنصر القومية وإعلاء شأنها مع التهديد والوعيد لكل من يريد أن يقف في طريق الحلم القومي.. وهي لهجة متعارضة مع اللهجة الشيوعية علي خط مستقيم.
وهذا هو الخطاب الذي غفل وزير خارجية ألمانيا وفي الغالب معظم وزراء خارجية الدول الغربية عن فهم مراميه.
كانت تلك نفسها هي الفترة التي شهدت تراجعا ملحوظا للإتحاد السوفيتي عن دوره "الرائد"في المعسكر الإشتراكي بل أن سكرتير عام الحزب الشيوعي السوفيتي كان قبل ذلك باسابيع قد بعث برسالة إلي مجلس النواب المجري يتمني فيه للمجر كل حظ وتوفيق في طريقها الجديد الذي إختارته، الخروج من الشيوعية وفتح الحدود مع الغرب في النمسا !!!
وميلوشيفتش هذا كان شخصية غريبة ومحيرة. فقد شهد في طفولته إنتحار كل من أبيه وأمه علي التوالي.
وكان إنتهازيا لا يتورع عن الإتيان بكل غريب ومريب لكي يحتفظ بالقوة والسلطان. وهو لهذا قد إنقلب علي الخط الشيوعي وتبني نهجا قوميا مغاليا فيه لأنه أدرك مبكرا علي ما يبدو أن الشيوعية تلفظ أنفاسها الأخيرة.
وهكذا ساهم نظام شيوعي إسما في إعادة إحياء الشعور بالقومية الصربية التي كانت جمهورية الصرب تشكل الجزء الأكبر من موزاييك يوجوسلافيا المتعدد الأعراق والأديان، بحيث أنه عندما طمح الكاثوليك في كرواتيا وسلوفينيا إلي الإستقلال الوطني عن الجمهورية الإتحادية وقف ميلوشيفيتش بقوات الجيش اليوجوسلافي في مواجهة تلك الحركتين الإنفصاليتين وبدأت الأعمال الحربية في صيف عام 1991.
وسلوفينيا وكرواتيا هما من مناطق النفوذ الديني والسياسي والعرقي الراسخة لكل من النمسا والمجر علي الترتيب. فهما من الكاثوليك بينما الصرب من الأرثوذكس. كما أنهما كانتا دائما من المناطق التي تضمها إمبراطورية النمسا والمجر. وعلي ذلك لم يتأخر الإعتراف الالماني بهاتين الدولتين بل صدر سريعا جدا في أعقاب إعلان الإستقلال. وإلي هنا كانت أوروبا واقفة موقفا ربما يمكن إنتقاده إلا أنه لم يصل إلي مرحلة إشتباه التآمر.
لكن الأمر إختلف بعد ذلك حينما حاولت جمهورية البوسنة والهرسك ذات الأغلبية المسلمة أن تستقل بدورها عقب خروج الجمهوريتين الكاثوليكيتين. فقد أعلن الأوروبيون أنهم غير داعمين لهذا الإستقلال وأن حظرا علي السلاح سوف يفرض (علي جميع الأطراف) لكي تتوقف الأعمال العدائية !!
وعلي مشهد من كل العالم قامت قوات الصرب وقوات جمهورية البوسنة الصربية، وهي كيان هلامي لا وجود له يستند في وجوده إلي دعم الجيش الصربي، قامت بعدد كبير من المذابح الوحشية ضد سكان البوسنة سواء كانوا مسلمين أو كاثوليك، بل أن الجنرال الفرنسي الذي كان يراس قوات الأمم المتحدة أرسل يطلب ضربات جوية فرنسية لحماية المناطق الآمنة التي حددتها الأمم المتحدة ورفض الرئيس الفرنسي كيتران ذلك فاستقال الجنرال مولينيون من عمله.
والواقع أن أوروبا باعتمادها هذا النهج المتخاذل لم تفشل أخلاقيا فقط، بل هي فشلت سياسيا وإجتماعيا.
والفشل السياسي نتج عنه نظرة إحتقار من جانب كل من الولايات المتحدة والدول الإسلامية ودول العالم الثالث بصفة عامة. ويقع اللوم هنا في الأساس علي فرنسا وربما إيطاليا وبقدر أقل علي ألمانيا، إذ أن ألمانيا كان من الصعب جدا عليها أن تبدأ حياتها كدولة موحدة حديثة النشوء بخوض حرب جديدة، وهو ما عبر عنه هلموت كول أكثر من مرة. أما فرنسا فقد كان يحكمها رئيس تخطي الخامسة والسبعين وفقد كثيرا من حسه السياسي وأصبح جامدا وأسيرا لافكار عتيقة بالية ولم يثبت أنه أهل لتحمل مسئولية دولة أوروبية كبري ذات نفوذ هائل على الإتحاد الأوروبي. وهذا هو الفشل السياسي.
أما الفشل الإجتماعي الذى إنزلقت إليه جميع الدول الأوروبية بلا إستثناء فهو إستعداء مشاعر وعقول الجاليات المسلمة التي تعيش في أوروبا منذ عقود وكانت إلي ذلك الحين مسالمة وادعة لا تعرف فكرا جهاديا ولا منتظمة سياسيا في أي خط واضح.. وهذا الفشل هو ما تدفع أوروبا اليوم ثمنا باهظا له.. وهو فشل تاريخي بمقياس ضرره الممتد في الزمان وأثره الواسع جغرافيا.
وقبل ذلك بل وفي توقيت معاصر كانت هناك الأزمة الشيشانية داخل روسيا. وهذا باب آخر من أبواب الجحيم فتحه الأوروبيون علي أنفسهم..
فما هي قصته؟