كان الشيشان عبر التاريخ من الشعوب التي تقلبت بين السيادات وتقاسمتها الدول المتتابعة إلي أن اصبحوا جزءا من الإتحاد السوفيتي وتعرضوا خلال ذلك لقهر وإضطهاد من الروس فلم تكن العلاقة بين الطرفين ودية أبدا. وبدون الدخول في تفصيلات قضية الشيشان وعلاقتهم الدموية التاريخية بروسيا فإن هذه الطائفة المختلفة عرقا ودينا عن الروس إنتهزت أيضا الفرصة السانحة بسبب ضعف الحكومة المركزية في موسكو وأعلنت إنفصالها عن روسيا والمناداة بجمهورية إشكيريا وكان ذلك عام 1994 أثناء رئاسة الرئيس بوريس يلتسين,
وقد جاء الرد الروسي مفرطا في عنفه وشديدا فى إنتهاكاته للحقوق المتفق عليها دوليا في النزاعات المسلحة وكانت السمة الغالبة إعلاميا علي هذا الصراع هو أنه صراع بين مسلمي الشيشان ومسيحيي روسيا.
والدليل علي ذلك هو أن رد فعل روسيا علي إوائل المنفصلين عن الإتحاد السوفيتي، وهي جمهوريات البلطيق الثلاثة إستونيا ولاتفيا وليتوانيا جاء مخالفا تماما فلم يتسم بأي عنف ولا صراع مسلح، بل كان جدلا سياسيا في معظمه، وهذه الجمهوريات الثلاثة هي في أغلبها مسيحية كاثوليكية. ولعلها من مصادفات القدر أن الجنرال السوفيتي الذي كان منوطا به إخماد الحركة الإنفصالية في تلك الجمهوريات أصبح هو نفسه فيما بعد قائد حركة الإنفصال الشيشانية إذ أنه كان من ابناء تلك الطائفة، الجنرال جوهر دوداييف الذي قتل في قصف للجيش الروسي للشيشان بعد ذلك بست سنوات.
وفي هذا الصراع الذي إستمر أكثر من عام ونصف لم تفلح روسيا في حسمه عسكريا فاضطرت إلي إعلان هدنة من جانب واحد ومغادرة أرض الشيشان في مناورة قد تعني الإعتراف الواقعي De Factoباستقلال الجمهورية ولكنها لم تعلن أبدا عن إستقلال قانوني De Jureلهذا القطاع من الأرض.
والذي يهمنا هنا ليس الفشل الروسي، وإنما هو الفشل الأوروبي. فقد أعلن المستشار هلموت كول وقتها في بداية المعارك أن الرئيس يلتسين صديق حميم لألمانيا (لم يكن خروج القوات الروسية من ألمانيا قد مر عليه سوي 6 شهور فقط) وأنه لا يريد الحديث عن أزمة الشيشان لأنها شأن داخلي في روسيا. مع أن ÷لموت كول وقتها كان في مركز ممتاز يسمح له بممارسة الضغط علي روسيا بسبب ما تقدمه ألمانيا من مساعدات إقتصادية لروسيا التي شارف إقتصادها علي الإفلاس. وفرنسا أيضا لم تدل بأي تصريح ذي بال عن حقوق الإنسان التي كانت تنتهك بطريقة سافرة جلية للعيان.
إنه مرة أخري الإتجاه الأوروبي المتخوف دائما والمؤثر للسلامة والمتباعد عن خوض المعارك، حتي ولو الكلامي أو اللفظي منها !! وطائفة الشيشان هذه ليست مجهولة في العالم العربي والإسلامي. فالبلاط الملكي الاردني به الكثير ممن ينحدرون من أصول شيشانية. وكان قدر المعاناة والقهر الذي تعرض له مقاتلو الشيشان في الحرب الأولي التي أنهاها يلتسين عام 1996 والحرب الثانية التي أعاد بها يلتسين وبوتين جمهورية الشيشان إلى الحكم الروسي، كانت تلك الفظائع التي إرتكبها الروس ليست بعيدة عن عيون وقلوب المواطنين العرب والمسلمين، سواء كانوا فى عمان أو في القاهرة وطبعا لم تكن بعيدة عن مسلمي أوروبا..
وقد كان هذا هو الفشل الثاني لأوروبا خلال التسعينات، وكان مجاله ايضا السياسة والإجتماع..
وعلي الرغم من أن كثيرا من المراقبين لا يذكرون هاتين الحقيقتين، إلا أن موقف أوروبا الموحدة أو شبه الموحدة من حربي يوجوسلافيا والشيشان كان باعثا قويا للغاية علي إنعدام الثقة بين النظام السياسي الحزبي البرلماني الديموقراطي المتواجد في كل دول أوروبا من ناحية، والجاليات المسلمة المقيمة داخل أوروبا والمستقرة فيها من ناحية أخري..
لقد زادت الجاليات المسلمة إغترابا بهذه السياسة الأوروبية. فمن بعد الإغتراب الثقافي واللغوي للجيل الأول، جاء الإغتراب الإجتماعي رغم معرفة اللغة والتمكن منها في الجيلين الثاني والثالث.
فقبل إندلاع هاتين الحربين لم تكن الجاليات الإسلامية الأوروبية في معظمها تهتم بالسياسة، بل كانت عازفة عنها زاهدة حتي عن الصراعات السياسية التي كانت تجري فى الوطن الأصلي، سواء كان مصر أو العراق أو سوريا أو تركيا.
بل أن الجزائر ومحنتها الحزينة التي جرجرتها إلي حرب أهلية طاحنة منذ عام 1992 إلي عام 1999 لم تكن موضع إهتمام كثير من المسلمين في أوروبا بسبب أنه كان صراعا بين جماعات الإسلام السياسي والحكومة العسكرية. أما حربا يوجوسلافيا والشيشان فقد كان ضحاياهما من المدنيين الغير راغبين في أى قتال ولا سلطة وإنما يريدون فقط الحفاظ علي الحق في الحياة، وهو الحق الذي تنص عليه كل الدساتير الأوروبية!!
وأسوأ شيء يمكن أن يقع لأحد المجتمعات هو أن تكفر طائفة منه بالنظام الإجتماعي الموجود وتعلن عدم إحترامها له..
صحيح أن حركة الشيشان قد تحولت بعد ذلك إلي الإرهاب الصريح بأعمال خطف أطفال المدارس وإحتجاز رهائن في أوبرا وعمليات من النوع الذي لا يكسبها أي إحترام بل يغضب الراي العام ويؤلبه عليها، إلا أنه من الصعب إنكار وقوع إنتهاكات حادة لحقوق الإنسان علي جانب المدنيين الشيشان علي يد القوات الروسية علي الأقل في الفترة الأولي من الحركة الإستقلالية.. كما أن الأخوين الذين إرتكبا حادث التفجير في مدينة بوسطن الأمريكية عام 2013 كانا من المهاجرين الشيشان من أطفال تلك الفترة في بلادهم..
وفي خضم هذه الحركات الحربية ذات التكلفة البشرية العالية والتي واجهتها أوروبا بالعجز وقلة الحيلة مما أسفر عن إنفصال جزء لا يستهان به من الجاليات الإسلامية عن النظام الأساسي للدول الأوروبية، جاءت الكارثة الثالثة من خارج أوروبا، إنه الحادي عشر من سبتمبر..