جرى صراع حول الخلافة في السعودية بين جناح الملك الراحل عبدالله والجناح السديري كما هو معروف ومذاع، ولكن صراعاً آخر مستتراً ومتكتماً عليه حتى الآن يدور حول رؤى جناحي الحكم السعودي بخصوص الأولويات والتحالفات الإقليمية. الصراع المتكتم عليه أهم بكثير من المنظور الإقليمي والجيو ـــ سياسي من الصراع المعروف، والسبب أنه يطال دولاً وجماعات وتحالفات جديدة بين دول المنطقة. ولأن السياسة الإقليمية والخارجية لأي دولة هي في الواقع انعكاس لسياساتها الداخلية، فمن المنطقي أن تنعكس التغييرات الداخلية الجارية في السعودية في قمة هرم السلطة وفي هياكل المؤسسات على سياسات إقليمية مختلفة للملكة ـــ إلى حد ما ـــ عن تلك لدى الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز. داخلياً، لا خلاف على أن أولوية السلطة السعودية هي بقاء الأسرة المالكة عبر الآليات التي استقرت عليها تجربة الملك المؤسس عبد العزيز، حتى برغم مواجهتها تحديات اجتماعية متعاظمة في السنوات الأخيرة، وبرغم التنافس بين أجنحة العائلة الحاكمة. دولياً أيضاً ليس هناك نقاش سعودي يجري بين أجنحة العائلة الحاكمة حول جوهر التحالف الدولي للملكة، ذلك الذي دشنه الملك المؤسس مع الرئيس الأميركي الراحل روزفلت العام 1945 وفقاً لمسار المصالح المشتركة وعلى الشرائط المعلومة. باختصار غير مخل وبمنطق استبعاد الخيارات حتى، ستظهر على الصعيد الإقليمي أولويات الحكم السعودي الجديد في المرحلة المقبلة.
الأولويات الإقليمية للملك الراحل
شهدت المنطقة بعد 30 يونيو/حزيران 2013 خريطة جديدة للتحالفات الإقليمية ملخصها الأساسي إطاحة جماعة «الإخوان المسلمين» من السلطة في القاهرة، مع تراجع واضح للمحور التركي ـــ القطري وبقاء المحور الذي تقوده إيران على حاله، في مقابل زيادة حضور المحور الذي قادته السعودية مع الإمارات والأردن بعودة مصر إليه. هكذا أصبحت أولوية «مكافحة الإرهاب» وجماعة «الإخوان المسلمين» علماً على سياسات المملكة الإقليمية، الأمر الذي تلاقى مع أولويات ورؤى ومصالح الدول المنضوية في «محور الاعتدال»، أي الإمارات ومصر والأردن. ولأن التغيير في مصر اصطدم مع رؤى البيت الأبيض ووزارة الخارجية ومراكز مؤثرة أخرى داخل الولايات المتحدة الأميركية بإدماج جماعة «الإخوان المسلمين» في هياكل السلطة ببلدان «الربيع العربي»، فقد جرى تمتين التحالف بين «محور الاعتدال» العائد في ثوبه القشيب الجديد مع مؤسسات أميركية وازنة أخرى تتشارك مع رؤيته لأولوية «مكافحة الإرهاب» مثل البنتاغون ومراكز الضغط والمصالح الأميركية المرتبطة به والدائرة حوله. وبالتوازي مع ذلك، بذل «المحور الجديد ـــ القديم» محاولات دؤوبة لعزل تركيا سياسياً عن المنطقة، وللضغط على قطر وهما الحليفتان الإقليميتان للجماعة التي أصبحت «محظورة» في مصر والسعودية والإمارات. وفيما رتبت الأولوية الإقليمية للملك السعودي الراحل دعماً سياسياً واقتصادياً للحكم المصري الجديد، في محاولة لتحييد «الخطر الإخواني» على المملكة، مع إعفاء الأخيرة من عبء المواجهة الإعلامية والسياسية مع تركيا، فقد تحولت تبعة ذلك إلى النظام المصري ووسائل إعلامه.
وحتى مبادرة المصالحة التي أجراها الملك الراحل في الشهور الأخيرة مع الدوحة، استهدفت في الواقع المزيد من العزلة التركية عبر تحييد شريكها القطري. وحتى لا ينفلت الخلاف السعودي ـــ التركي أيام الملك الراحل من عقاله انفلاتاً يضر بمصالح المملكة، فقد عمدت الرياض في الوقت ذاته إلى سياسة الموازنة التي اشتهرت تاريخياً بها، عبر استمرار التعاون الاقتصادي بين الرياض وأنقرة بوتيرة عالية من دون صخب كثير، ومن خلال إيداعاتها النقدية القصيرة الأجل في المصارف التركية، وهو أمر يجري دورياً حتى كتابة هذه السطور، وهو ما لطّف كثيراً من الضغوط المتوالية على الليرة التركية أمام العملات الدولية.
الأولويات الإقليمية للحكم السعودي الجديد
ترافق الإعلان عن وفاة الملك عبدالله مع دخول الحوثيين إلى العاصمة اليمنية صنعاء، في ترجمة عملية لموازين القوى الإقليمية المختلة لمصلحة إيران في صراعها الإقليمي مع السعودية. ولخص التزامن بين إعلان الوفاة وسقوط صنعاء بيد الحوثيين التوازنات الإقليمية الراهنة على نحو فريد وملموس في آنٍ معاً. هكذا ترافق التغير في شخصية الحاكم السعودي مع تغير في الرؤية الإقليمية والأولويات، ما يستتبعه في الواقع اجتراح سياسات وتحالفات مختلفة عن تلك التي استقرت عليها السعودية في السنتين الأخيرتين. يرى الجناح السديري ممثلاً في الملك سلمان والرجل القوي في تراتبية الحكم الجديدة الأمير محمد بن نايف أن إيران ما زالت تمثل الخطر الأكبر على المملكة وحضورها الإقليمي، وهو ما تمظهر بوضوح في نتائج ساحات المواجهة الإقليمية بين الغريمين طهران والرياض، سواء في العراق أو لبنان أو اليمن أو حتى سوريا التي لم يسقط نظامها حتى الآن.
ويعني ترتيب الأخطار على هذا النحو، توزيعاً جديداً للأولويات تتقدم بموجبه أولوية «مواجهة الخطر الإيراني» على أولوية «مكافحة الإرهاب». وبدوره يقتضي ذلك الأمر ترتيباً جديداً للتحالفات، بهدف حشد «الكتلة السنية» الأوسع في المنطقة لرفد السعودية في مواجهتها مع إيران ومحورها. هنا يتجاوز التغيير في السعودية الحدود السياسية للمملكة، ويتعداها إلى خريطة التحالفات الإقليمية في المنطقة، وهي النتيجة الأهم من المنظور الإقليمي والجيو ـــ سياسي.
جوهر التغيير المحتمل
يتطلب التحالف مع تركيا وقطر بداهة، تلطيفاً للصراع مع جماعة «الإخوان المسلمين»، ليس على قاعدة عودتها إلى السلطة، فهذا أمر لا تقدر عليه السعودية ولا تريده حتى، بل على أساس تلطيف المواجهة مع الجماعة. والوسيلة الأفضل للقيام بذلك ـــ من المنظور السعودي الجديد ـــ تتم عبر إجراء «مصالحة داخلية» مع «الجماعة المحظورة»، بحيث لا تعود كذلك، بل تندمج في النظم السياسية لبلدانها بغرض تحييدها كعائق أمام تمتين «التحالف السني الأوسع» بين السعودية وتركيا. هنا يبدو أن فاتورة الأولوية السعودية الجديدة سيتم تحويلها، بمنطق الأمور، إلى القاهرة لسداد الثمن السياسي، ما يصطدم بشدة مع رؤية النظام المصري لأولوياته الداخلية والإقليمية. وفقاً لتلك المعطيات وذلك التبدل في الأولويات السعودية، يمكن تفسير مجموعة من الأحداث قد تبدو متناثرة للوهلة الأولى وإعادة ربطها في سياق متكامل: لقاءات بين شخصيات من المعارضة المصرية في الخارج والقريبة من جماعة «الإخوان المسلمين» مع ممثلين للجناح السديري الحاكم في السعودية جرت قبل حوالي شهرين، عودة الإعلام القطري للضغط على النظام المصري منذ الإعلان عن وفاة الملك السعودي الراحل، زيارة وفد قريب من جماعة «الإخوان المسلمين» للخارجية الأميركية قبل أيام، وزيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لـ «تعزية» الملك السعودي الجديد قبل أسبوع.
ترتسم تغيرات إقليمية كبرى في الأفق بالتوازي مع التغيير الجاري في قمة السلطة السعودية وهياكلها وتراتبيتها، بحيث تتأسس السياسة الإقليمية الجديدة على أولوية مواجهة «الخطر الإيراني». بدورها، تعني الأولوية الإقليمية الجديدة للسعودية عملياً تصديع «محور الاعتدال» الذي كان والنظام المصري في القلب منه، إذ سيصبح الأخير مطالباً بدفع الفاتورة السياسية للأولوية السعودية الجديدة: تشكيل «محور سني كبير» يضمها إلى تركيا. في الواقع، ستدفع القاهرة وفقاً للأولوية السعودية الجديدة ثمناً كبيراً لضيق هامش مناورتها الإقليمية، في ظل علاقة غير متكافئة مع الرياض ولا تتسم بالحد الأدنى من الندية على مدار العقود الأربعة الأخيرة من دون استثناء. وعلى كل حال، يتمثل التناقض البنيوي للتحالف السعودي ـــ التركي الجديد، ذلك الراغب في مواجهة إيران في كون الأخيرة تفاوض نووياً وديبلوماسياً منذ سنوات الجناح الأميركي ذاته (إدارة أوباما والخارجية الأميركية) الذي يشكل الغطاء الدولي للتحالف «السني الكبير»، ما سيقيد موضوعياً من قدرة المعسكر السعودي ـــ التركي على الصدام مع إيران!