بات بإمكان الطبيب- المقدم باسم يوسف أن يبتسم كثيراً، مع شيء كثير من المرارة ربما، لأنه هو الذي ابتسم أخيراً في تلك القصة. وبعد يرون سنة من ذلك الحادث التراجيدي- الكوميدي الذي لطّف وقعه المصريون بخفة دمهم المعهودة ووصفوه بـ»جهاز صوابع الكفتة»، شقّت الوقائع الصلبة طريقها عبر إعلان نقابة الأطباء المصريين بدء تحقيق في تلك الفضيحة العلميّة المذهلة. وقبل سنة، ظهر على الشاشات المرئيّة- المسموعة من ادّعى أنه صنع جهازاً قادراً على تحويل فيروس الكبد من النوع «سي»، وهو مرض قاتل يضرب أجساد خُمْس الشعب المصري، إلى «صوابع كفتة»، وتخليص الجسم منه نهائيّاً.
ومع حسم أطباء مصر لذلك الهزل المؤلم، ربما أيضاً صار بإمكان باسم يوسف أن يغلق العدّاد الذي أطلقه بانتظار حسم تلك المسألة، مع شيء من الفرح المشوب بالحزن لأن برنامجه الشهير «البرنامج» سبق جهاز «صوابع الكفتة» في الاختفاء.
... وللإسكندرية رواتها
الأرجح أن بديع الزمان الهمذاني كان محظوظاً. وضع «مقاماته»، وهي مجموعة من الحكايات الطريفة لها مرام اجتماعية وأخلاقية على لسان راوٍ سمّاه عيسى بن هشام، وهذا الأخير كان يجعل لقصصه لساناً فيرويها نقلاً عن شخصية خياليّة سمّاها «أبو الفتح السكندري». وهناك مقامة ظريفة اسمها «المضيريّة» التي تدور حول حلول أبي الفتح السكندري ضيفاً على أحد أثرياء الحرب، فوعده بعشاء من طبق «المضيرة»، وهي لحم مطبوخ باللبن يؤكل مع الأرز، ما زالت رائجة في دول عربية كثيرة. ولما أفرط ثريّ الحرب في التباهي بثروته التي جمعها عبر مآسي الآخرين في الحروب، حاول أبو الفتح السكندري الهرب منه، لكنه وقع بين يدي صبية رشقوه بالحجارة سخرية منه. فردّ بحجر غاص في عمامة شيخ كان يعبر الطريق، ما قاد أبو الفتح إلى السجن، فأقسم ألا يأكل المضيرة إلى آخر عمره.
لماذا ذكر بديع الزمان ومقامته المضيرية؟ ربما لأنه لو حاور مواطن عربي أحد علمائنا العرب المغتربين الذين يتألقون في المراكز العلميّة المتقدّمة في الغرب، لأقسم ذلك المواطن ألا يحاور عالِماً عربيا أبداً. فغالباً، يصعب الكلام عن أحوال هؤلاء العلماء، خصوصاً نظرتهم إلى أوطانهم ودرجة «تقدّمها» علميّاً (يا لروعة الكلام! لماذا لا نكون أصدق ونقول «شدّة تخلّفها»)، إلا بلغة مقامات بديع الزمان وهروب أبي الفتح من أكلة المضيرة حتى لو طابت طعماً ومذاقاً.
وإذ يحنّ بعض هؤلاء إلى «مضيرة» اسمها الوطن، فإنهم يستقبلون بأطباق لا يسمعون فيها إلا قصص تجميع الثروات والسلطات والنفوذ من حروب الهزائم العربيّة المتكررة في الخروج من التخلّف ومواكبة ركب الأمم الحديــثة. وتتــلى على مـسامعهم أخبار لا تذكّرهم إلا بالمآسي التي قذفت بهم إلى خارج أوطانهم أصلاً.
دموع الـ 500 دولار
لنترك التشبيه مع مقامات بديع الزمان. ولننتقل إلى بعض من «مضيرات» علماء العرب المغتربين. مثلاً، تألق العالِم الجزائري إلياس زرهوني في أميركا إلى حدّ تكريمه في البيت الأبيض وتعيينه مسؤولاً عن «معاهد الصحة» الأميركية التي تدير بحوث الطب والبيولوجيا بموازنة فلكيّة. وفي عام 2008، أجرت «الحياة» مقابلة معه، فذكّرها بأنه واجه سابقاً حديثاً عربيّاً مرتفع النبرة عن احتكار الغرب العلوم والتكنولوجيا.
وطرح زرهوني سؤالاً عما إذا كان العرب أعدّوا أنفسهم لتلقي العلوم، في حال «هطلت» عليهم من الغرب. ولأنه يعرف عما يتحدث، ضرب مثلاً بمعلومات الجينوم البشري التي أتيحت لشعوب الأرض قاطبة، بفضل مبادرة الرئيس بيل كلينتون، منذ عام 2000. وذكر أن موقع الجينوم يحصي الداخلين إليه، فلا يجد بينهم من العرب إلا أرقاماً تضعهم في أسفل قائمة الساعين الى تلك المعلومات العلميّة.
ومن دون ذكر أسماء، تحدث عالِم عربي يعيش في أميركا عن تجربته في جاهزية العرب لتلقي العِلم. ثم بدأ يبوح بأوجاعه. ونقل أن رئيس جامعة عربية كبيرة، طلب منه أن يقترح على الجامعة الأميركية التي يعمل فيها ذلك العالِم أستاذ كرسي في علوم الأدوية، أن تقبل معادلة شهادات تلك الكليّة العربيّة فيها. ورد العالِم بأن الأمر يقتضي أن تنسّق مناهج الدراسة في الكليّة العربيّة مع نظيرتها الأميركية. كان عبثاً ما فكّر به. كل ما تفتّقت عنه عبقرية ذلك المسؤول العلمي العربي، هو اقتراح أن يُدفع إلى «النظير الأميركي» مبلغ 500 دولار مقابل كل شهادة مُعادَلَة. وبكلام خالطه ما يشبه البكاء، ذكر العالِم العربي- الأميركي أن النوم جافاه بسبب كلام المسؤول العربي، بل كاد يصاب بجلطة قلبيّة، تهون أمامها الحجارة التي أصابت أبا الفتح.
إذا كان مسؤول مؤسسة جامعية عربيّة كبرى يفكّر على هذا النحو، فكيف يكون حال جامعاتنا ومدارسنا ونُظُم تعليمنا؟ كيف نخرج من الجهل؟ كيف ندخل إلى مواكبة العلوم المتصاعدة في الأزمنة المُعاصِرة؟ أسئلة الأرجح أنها لم تؤرق لا أبا الفتح السكندري ولا بديع الزمان الهمذاني.