في أحد تغطيات إذاعة البي بي سي لعمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام في العالم قال أحد الجنرالات من فنلندا أن بلاده تساهم بالمجهود الأكبر في عمليات حفظ السلام التابعة للمنظمة الدولية في كل أرجاء العالم ثم أردف قائلا في نوع من الفكاهة: "إن فنلندا هي قوة عسكرية عظمي في مجال حفظ السلام الدولي". وفنلندا بلد صغير مجاور لروسيا التي قامت بغزوه عدة مرات في التاريخ كان آخرها عام 1939 عقب بداية الحرب العالمية مباشرة فيما أصبح يعرف بحرب الشتاء. وجيشها بالفعل له إسهام كبير في مجال حفظ السلام الذي تشرف عليه منظمة الأمم المتحدة تحت تفويض مجلس الأمن.
ونحن في مصر نعرف القوات الفنلندية التي كانت هي عماد فصل القوات بين مصر وإسرائيل عقب حرب 1973 ونتذكر إسم الجنرال إنزيو سيلاسفو قائد هذه القوة.
والواقع أن ملاحظة ذلك الجنرال في لقائه مع الإذاعة البريطانية قد لفتت إنتباهي إلي أن كل دولة مهما صغر حجمها أو قل تعداد سكانها إلا أن لها مجال تتميز فيه بقوة عن باقي دول العالم بحيث تستحق في مجالها لقب القوة العظمي.
وبتطبيق هذه القاعدة علي مصر لابد من التساؤل عن المجال الذي تتميز به مصر عن باقي العالم بحيث تستحق عنه لقب القوة العظمي..
لخوض هذا البحث لابد أولا من تحديد المعايير التي تؤسس للإختيار. وأول هذه المعايير هو الإستمرارية عبر الزمان وثانيها هو المركز الدولي المتميز.
والواقع أنني لم أهتد في بحثي معتمدا علي هذين المعيارين إلا إلي مجال واحد فقط تحتل مصر فيه المكانة العظمي دوليا، وهو مجال الفكر الديني، أو الفكر المبني علي أساس ديني.. كيف؟
لشرح هذا الأمر لابد من العودة إلي الوراء أكثر من 1000 عام حين سقطت الخلافة الأموية بدحر الدولة الأموية في موقعة الزاب (نفس المكان الذي تتواجد فيه دولة داعش اليوم) وتبعتها الدولة العباسية التي إستمرت منذ منتصف القرن الثامن الميلادي إلي منتصف القرن الثالث عشر حين تولي المغول أمر تدمير الدولة العباسية بالكامل بغزو بغداد وتحطيم دار الخلافة وإحراق المدينة.
كان الأمر وقتها يبدو خطرا داهما علي الإسلام إذ أن التتار لم يكنوا قد دخلوا بعد في الإسلام ولهذا فقد كان إنتصارهم في بغداد تهديدا مباشرا بتصفية كل الدين الإسلامي وإخراج أتباعه من الربقة.
وقد جاءت غزوة التتار هذه في نهايات عصور الدويلات الصليبية التي حاولت أن تستقر في الشرق العربي حول بيت المقدس ولكنها إضطرت للنهاية للخروج حيث أنها مثل كل غزوة، لابد لأرباحها أن تربو علي تكاليفها وإلا أضحي الأمر مضيعة للمال والرجال.
ويذكر التاريخ أن الجيش الذي كتب له أن ينتصر علي هذا الخطر الهمجي كان جيشا قد خرج من مصر لملاقاة التتار في موقعة عين جالوت علي أرض فلسطين، فالمصريون أصحاب عقيدة ستراتيجية مبناها عدم السماح للخطر بالدخول إلي الوادي بل الخروج إليه لملاقاته في شرق البلاد، وهي ستراتيجية ثبت نجاحها منذ عصور الفراعنة. وفى هذه المرة أيضا أثبتت هذه الستراتيجية جدواها إذ أن الجيش الذي تم تجهيزه على أرض مصر نجح في إنهاء التهديد المغولي وفي إنقاذ الدين الإسلامي بأسره من الفناء النهائي، إذ أن سقوط مصر في أيدي المغول كان يعني فتح الطريق إلي أوروبا وشمال أفريقيا بحيث تتم تصفية كل من المسيحية والإسلام بضربة واحدة.
وهذا النصر التاريخي جعل المصريين يشعرون بنوع من التميز عن الشعوب المجاورة إذ أنه قد قدر لهم أن يحتفظوا بلقب حماة الدين الإسلامي (وكانوا من قبل يعتزون بأنهم حماة الدين المسيحي حيث لجأت إلي أرضهم السيدة العذراء هربا من بطش الرومان كما أن وقائع عصر الشهداء كانت في جزء كبير منها وقائع مصرية)..
وبسب وقوع بغداد في القبضة المغولية وتدميرها نتيجة لذلك وضياع كل محتوياتها، ومن قبل ذلك تمزق بلاد الشام وفلسطين في الحروب الصليبية التي لم تطل مصر، فقد تحولت القاهرة التي لم تمس بسوء مباشر من كل تلك الأحداث إلي العاصمة الإسلامية الأولي فقهيا وتعليميا، إذ أن الجامع الأزهر كان قد بدأ يظهر كقبلة للعلم السني عبر كل العالم الإسلامي. وهو ظهور علي كل المؤسسات الدينية الإسلامية الأخري لم يتوقف منذ ذلك الحين وحتي بدايات القرن العشرين.
وبالطبع وكما عرفنا عن طباع المصريين فقد كانوا أكثر من مرحبين بمركزهم الجديد كمقر للفكر الديني الإسلامي وملتقي كل أنظار المؤمنين، فالشعب المصري له تجربة رائدة للغاية مع العقائد والأديان بله كان أول من وضع الدين كمفهوم في سياق الفكر السياسي الإنساني للحكم والتنظيم وسبق الجميع إلي وضع قواعد العلاقة بين المجتمع والمؤسسة الدينية.