الثابت أنه في الواقعتين لا يجد الباحث أي دلائل جدية علي حدوث معارضة من جانب المؤسسة الدينية (الأزهر المصري) لتصرفات الحكام.
فالواقعة الأولي أن محمد علي كان قد إرتقي الحكم بمطالبة شعبية من وجهاء البلد وعلمائها (أو من تسميهم الشريعة أهل الحل والعقد) وكان ذلك عام 1805. واستمر الرجل في سدة الحكم حتي وفاته عام 1849 طبقا للمعروف من المبادىء الشرعية من أن الخروج علي الحاكم لا يصح إلا إن هو خرج عن مقتضي الشرع الإسلامي أو أنكر ما هو معروف من الدين بالضرورة. وبالطبع فإن الأزهر المصري في ذلك الوقت قام بتقييم الموقف ووجد في نهاية بحثه أن محمد علي لم يخرج عما هو معروف من الدين بالضرورة ولم يكفر أو يخرج عن الربقة وبالتالي فهو لا يزال متمتعا بشرعيته التي حازها عام 1805 وامتدت مع كل سنوات حكمه حتي توفاه الله.
ومحمد علي عاد مرة أخري عقب كل تلك المعارك ضد السلطان فتصالح معه وزار الآستانة في نهاية حياته وصدر من السلطان فرمان يثبت مقررات مؤتمر لندن التي تعطي محمد علي إستقلالا داخليا في مصر يجعل حكمها واقعا في ذريته من الذكور في قابل الأيام. وبهذا فقد تحولت البيعة التي حصل عليها محمد علي من أهل الحل والعقد إلي أحقية في ملك وراثي بموافقة الخليفة وهو نفس النظام الذي سار عليه نهج الدولة الإسلامية منذ الفتنة الكبري. وعلي ذلك فلم يكن هناك شيئ غير مالوف يجعل المؤسسة الدينية تعارض ما هو جار من أحداث. هذا عن الواقعة الأولي..
أما الواقعة الثانية فقد كانت أكثر تعقيدا، إذ أن الجند المصرية خرجت تحت لواء بريطاني مسيحي بغرض محاربة جيش الدولة العلية التي تمثل الخلافة المحمدية وكان إسهامها الحربي مهما كان متواضعا من أحد أسباب هزيمة الدولة العثمانية هزيمة نهائية في الحرب العالمية الأولي مما جعل من إستمرار وجودها نفسه نوعا من العبث إذ أن السلطان محمد وحيد الدين قد قبل شروط المنتصرين بإعادة المنطقة الساحلية إزمير إلي اليونان وإقامة دولة مسيحية أرثوذكسية تكون العاصمة العثمانية إستنبول عاصمة لها وهو تقويض صريح لكل ما حدث خلال الخمسة قرون السابقة. كل هذا قبل به السلطان محمد وحيد الدين ولم يجد الحلفاء المنتصرون من يتصدي لهم سوي ضابط عثماني من الجيش المنهزم نجح في لملمة بعض شتات من فلول الجيش المنحل إلي جانب بعض المتطوعة من المدنيين وقام بمهاجمة القوات الأوروبية المنتصرة وحرر تركيا من نتائج مؤتمر فرساي، إنه مصطفي كمال الشهير بكمال أتاتورك أي أبي الترك..
ولكن جزاءه عن فعلته كان عكسيا، فإسمه لا يذكر إلي اليوم إلا في صحبة اللعنات رغم أنه صحح خطأ السلطان (الخليفة) وضرب بمقررات فرساي عرض الحائط..
وربما أن المؤسسة الدينية المصرية لم تكن مرتاحة لا إلي خروج الفلاحين المصريين لحرب خليفة رسول الله ولا مرتاحة لتصفية الخلافة ولا إلي الإتجاه التغريبي الذي إتخذته صفوة البلاد في ذلك الزمان. إلا أن المؤسسة الدينية لم تتجاوز في نعبيرها عن عدم الراحة حدود الإتفاق الساري منذ القدم، الحكم لكم والمنبر لنا لكي ندعو لكم من عليه..
والواقع هو أن تلك الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولي كانت فترة غير عادية في جميع أنحاء العالم، بل هي البداية الحقيقية للقرن العشرين والنهاية الفاصلة لما قبله من قرون.
فقد الحصان دوره التاريخي في القتال وأصبحت السيادة للدبابة علي الأرض وللطائرة في الجو..
قفز البترول لكي يصبح السلعة الستراتيجية رقم واحد في العالم حيث أن كل تلك الاسلحة اللازمة لخوض الحرب تتحول إلي خردة في غيابه..
الحروب المستقبلية سوف تكون جميعا حروب منتجات صناعية تكنولوجية ولن تلعب شجاعة الجنود ولا روحهم المعنوية دورا كبيرا في حسمها.
سقط حكم القياصرة الروس كآخر أسرة تحكم بالحق الإلهي.
سقط حكم القياصرة النمساويين في إنهيار مشابه للإنهيار الروسي.
سقط حكم آل عثمان اصحاب لقب الخلافة المحمدية وأصبح المسلمون لأول مرة منذ موت الرسول بلا خليفة.
سقط كذلك حكم القيصر الالماني واصبحت المانيا جمهورية.
سقط حكم الإمبراطورية الصينية قبل ذلك بعدة سنوات وبدأ القرن العشرون وامتدت أحواله القلقة من الصين إلي أوروبا .
قامت في روسيا حكومة تعتنق المذهب الشيوعي الإجتماعي الإقتصادي الذي تتم تجربته لأول مرة في التاريخ وهو نفس المذهب الذي قضت علي أول تجاربه طلقات المدافع والبنادق التي إستعملها الجيش الفرنسي مصحوبا بالجيش الالماني في عام 1871 ليحصد بالقتل المكثف أول تجربة حكم شيوعي في التاريخ فيما أصبح يعرف بحكومة باريس التي لم تستمر لأكثر من شهرين. La commune de Paris (إشتقت الشيوعية بعد ذلك إسمها من تلك الحركة)..
عرف العالم لأول مرة في تاريخه أن هناك قوة ذات إمكانات هائلة لسيادة العالم تسمي الولايات المتحدة الأمريكية كان دخولها الحرب في مرحلتها النهائية سببا مباشرا لنصر الحلفاء.
خرج الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون (الديموقراطي) علي العالم بمشروعه ذي النقاط الأربع عشرة والذي يدعو في أساسه لتصفية الإستعمار وتحرير الدول الراغبة في الحرية.
ظهر إلي الوجود لأول مرة إقتراح إنشاء منظمة دولية عالمية يمثل فيها القوي والضعيف جنبا إلي جنب وكان إقتراحا أمريكيا من نفس الرئيس صاحب النقاط الاربعة عشر.
أنها حقا تغيرات هائلة بل تعد إنقلابا علي كل التاريخ الإنساني الذي عرف قبله، وقد حدث ذلك في فترة قصيرة للغاية، فأصيب العالم بالدوار والحيرة العميقة وعدم القدرة علي التكيف..
ومصر لم تكن في معزل عن كل تلك التغيرات، بل كانت في مركز القلب منها إذ وقعت الواقعة في مصر..