تسابقت وسائل الإعلام الإقليمية في إطلاق التكهنات حول لقاء محتمل يجمع الرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي والتركي رجب طيب أردوغان في السعودية، حيث يزور كلاهما الرياض في توقيت متزامن. أكد الرئيسان كل على حدة لاحقاً، أن التزامن في توقيت الزيارتين هو محض «صدفة»، وأنه لا مجال للقاء بينهما. والحال أن السعودية العارفة بأصول البروتوكولات، تقصدت تماماً التزامن في التوقيت أملاً منها في إجراء «مصالحة» مصرية – تركية، تساهم في تثبيت اصطفاف إقليمي جديد قوامه السعودية - مصر- تركيا؛ ذلك الذي أطلقت عليه هذه السطور في وقت سابق «التحالف السني الأوسع» (مصطفى اللباد - «السفير»: جوهر التغير المحتمل في السياسة السعودية الإقليمية 2/2/2015). لم تتكلل المساعي السعودية بالنجاح التام، لأنه وبرغم موافقة الطرفين على تزامن الزيارة، فسرعان ما ظهرت التصريحات من الجانبين التي تتضمن شروطاً على الطرف الآخر.
وبرغم عدم حدوث اللقاء، تظهر الضغوط السعودية على مصر للانخراط في التحالف الإقليمي الجديد، وفق ضوابط جديدة تتضمن تسهيل انضواء تركيا وقطر في هذا التحالف. وقد أصبحت القاهرة أمام أحد خيارين: إما تقديم تنازلات خارجية تتعلق بتغيير رؤيتها لطرق حل ملفات ساخنة في المنطقة مثل سوريا واليمن، وأخرى داخلية تتمثل في إجراء مصالحة مع جماعة «الإخوان المسلمين» وما يترتب عليها من تغيير لكامل الخطاب السياسي المصري، أو المغامرة بتدهور العلاقات مع السعودية، يحصل هذا في توقيت حرج يتزامن مع قرب انعقاد المؤتمر الاقتصادي منتصف الشهر الجاري، الذي تعوّل عليه القاهرة بشدة لدفع اقتصادها إلى أمام. على ذلك، يبدو عامل التوقيت وقد تمّ حسابه بدقة في الرياض، سواء في تزامن الزيارتين الرئاسيتين للسعودية، أو في الربط الواضح للطلبات السعودية بالتزامن مع قرب انعقاد المؤتمر الاقتصادي.
تقدّم الضغوط السعودية – من حيث لا تحتسب - هدية ثمينة للقاهرة، إذا أحسنت الأخيرة إدراك واقعها بأبعاده المتعددة وامتلكت الإرادة السياسية لتغييره، بغرض تحصين موقعها في المنطقة وتحويل التهديد الراهن لمواقعها الإقليمية إلى فرصة ثمينة يتوجب اغتنامها. في هذا الإطار، تلقي هذه السطور الضوء على خطوتين أساسيتين مطلوبتين من النظام المصري لبناء شبكة أمان لأدوار مصر الإقليمية والخارجية: أولاً إعادة الاعتبار لتحالف «30 يونيو»، وثانياً تعبئة الموارد المحلية وفقاً لأجندة وطنية.
إعادة الاعتبار لتحالف «30 يونيو 2013»
يدور الصراع الإقليمي في المنطقة ـ في أحد وجوهه - على صراع النماذج التي تقدمها الأطراف الإقليمية الأساسية، في مقابل بعضها بعضاً. وفقاً للمنطق ولنظريات القوى الإقليمية، يتوجب على كل دولة إقليمية طامحة أن تخلق – ابتداء - سرديتها الخاصة لنفسها التي تميّزها عن غيرها من القوى المتنافسة، ثم البناء على هذه السردية لتشكيل صورة جذابة للدولة المعنية في عيون جماهير المنطقة، بغرض حشد المقبولية الشعبية لأدوارها، وفي النهاية تغطي الدول الإقليمية مصالحها الوطنية الخاصة بها داخل إطار الصورة التي ترسمها لنفسها. تسوّق تركيا صورتها في المنطقة باعتبارها الاقتصاد الناهض (أكبر اقتصاد في المنطقة) المنفتح على الغرب والنظام السياسي الذي يسمح بتداول سلمي للسلطة، أما إيران فتركّز على مشروع وطني كبير (البرنامج النووي) وممانعتها لقوى الهيمنة الغربية ودعمها لحركات المقاومة، في حين تفضل السعودية لنفسها صورة الإسلام التقليدي المحافظ وحماية الحرمين الشريفين مع التقديمات الاجتماعية لمواطنيها، والتي يتيحها النفط. وبغض النظر عن نسبة الحقيقة في الصور الثلاث التركية والإيرانية والسعودية، فهناك صراع نماذج يدور بين الصور/ الدول الثلاث. بالمقابل، امتلكت مصر بعد «الربيع العربي» وهج الثورة التي أطاحت بنظام حسني مبارك وبمشاركة الشباب وبشعارات الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. ولكن هذه الصورة انتكست مع صعود جماعة «الإخوان المسلمين» إلى السلطة وانخراطها في المحور الذي قادته تركيا وقطر، فضاعت فرصة خلق نموذج/ صورة مصرية في الإقليم. ثم سنحت الفرصة مرة ثانية مع «انتفاضة 30 يونيو» 2013 وصورة عشرات الملايين من المصريين المنتفضين في مواجهة حكم جماعة «الإخوان المسلمين»، وتأكدت هذه الفرصة لرسم صورة/ نموذج عبر التحالف السياسي الواسع الذي شكل أول حكومة بعد 30 حزيران 2013 من قوى ليبرالية وناصرية ويسارية. لكن هذه الحكومة لم تستمر سوى أقل من عام واحد، حيث يتم تغييرها بالتوازي مع عودة فلول النظام السابق إلى صدارة المشهد السياسي وتشديد الأحكام بالحبس على المتظاهرين السلميين والتضييق على أنصار الثورة المؤسسة: «25 يناير» 2011. على هذا الأساس، لا يعد مطلب إعادة الاعتبار لتحالف «30 يونيو» مطلباً فئوياً أو لفريق سياسي بعينه، وإنما ضرورة وطنية لتحصين الجبهة الداخلية المصرية، ومن ثم تعظيم قدرة القاهرة على الصمود أمام الضغوط الإقليمية والدولية. كما أن هذا المطلب يمثل شرطاً ضرورياً لرسم صورة مصرية جديدة في الإقليم: صورة «الدولة الوطنية العربية» وتحتها خطان، تلك التي تحارب الإرهاب باصطفاف سياسي تحالفي واسع يؤمن بأهداف الثورة وحق مصر في التقدم. أليس الأفضل والأنسب لمصالح مصر الوطنية «التنازل» أمام القوى السياسية والوطنية المشاركة في 30 حزيران 2013، وهو إجراء داخلي محض لا تترتب عليه أثمان خارجية، بدلاً من الاضطرار إلى تقديم تنازلات لأطراف سياسية محلية لا تؤمن بالدول الوطنية، وبضغوط إقليمية ستتصاعد أكثر في الفترة المقبلة؟
تعبئة الموارد المحلية المصرية
لا يعقل أن تملك مصر مساحة مليون كيلومتر مربع على مفترق القارات الثلاث أفريقيا وآسيا وأوروبا، بإطلالة واسعة على البحر الأبيض المتوسط وأخرى على البحر الأحمر، وتحظى بمنحة ربانية قوامها عشرات المليارات من الأمتار المكعبة من موارد المياه العذبة (نهر النيل) وثروات معدنية ضخمة (ذهب وفوسفات ومنجنيز) وقاعدة صناعية كبيرة نسبياً بنيت بسواعد مواطنيها، وبكتلة بشرية هي الأضخم في كامل الشرق الأوسط، وتستمر في حالة العوز الاقتصادي بهذا الشكل المؤسف. طبعاً، المهمة ليست سهلة، ولكنها ليست مستحيلة بأي حال، والتاريخ شاهد على قدرة مصر في العصر القديم والوسيط والحديث على النهوض بقدراتها الذاتية، عبر التوظيف الخلاق لمزاياها والتغلب على عوائقها الطبيعية لتحقيق التنمية والتقدم الاقتصادي. وقد تراكمت في العقود الأربعة الأخيرة، خصوصاً جوانب المعضلة، حتى صار الضعف الاقتصادي الوسيلة الممتازة لانتزاع تنازلات سياسية مصرية. لعل البداية تكمن في محاربة الفساد المستشري بجدية وحسم، لأن مصر تخوض - بالتوازي مع تحدياتها الإقليمية - صراعاً وجودياً مع الفساد لن ينتهي إلا بالقضاء على أحد طرفيه (مصطفى اللباد - «السفير»: مصر وصراعها الوجودي مع شبكات الفساد 5/1/2015). لم نلحظ حتى الآن جدية كافية من النظام الجديد لمحاربة الفساد، برغم أن ذلك سيوفر موارد هائلة للخزانة المصرية يمكن أن تعزز كثيراً من مستوى معيشة شعبها، ومن قدرة القاهرة على الوقوف بثبات في وجه الضغوط الإقليمية الآتية من باب المساعدات الاقتصادية. لم يساهم الاستمرار في اجترار النموذج الاقتصادي العشوائي ذاته في تخفيف أزمات مصر الاجتماعية، وإنما في تكريسها. تغيّر العالم، وتغيّرت الرؤى الاقتصادية ولم يعد التأميم والقطاع العام ركائز التنمية، لكن تخلي الدولة عن أدوارها والتزاماتها الاجتماعية حيال مواطنيها بهـــــذا الشكل المؤسف أمر غير متوافر حتى في أعتى البلدان التي تتبنى النيوليبرالية الاقتصادية.
الخلاصة
تظهر الضغوط السعودية على مصر الآن للانخراط في اصطفاف إقليمي جديد يتضمّن تهميشاً للوزن المصري، ارتباطاً عضوياً لا فكاك منه بين السياسة الإقليمية المستقلة التي تحقق مصالح مصر الوطنية من ناحية، وتعبئة الموارد المحلية المهدرة في خطة تنموية شاملة من ناحية أخرى. تقدّم السعودية – من حيث لا تحتسب - إلى القاهرة هدية تحويل الضغط إلى فرصة ترتيب البيت الداخلي عبر خطوتين أساسيتين: إعادة الاعتبار لتحالف 30 يونيو 2013 وتعبئة الموارد المحلية المصرية. في حال لم تغتنم القاهرة تلك الفرصة، فستتكرر الضغوط في الفترة المقبلة وستكر معها سبحة التنازلات. صدق المتنبي حين قال: «على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ.. وتأتي على قدر الكرام المكارمُ».