ليس من فساد إداري إلا من فساد سياسي يحميه ويدعمه .
تأليف : محمد السويسي
بدأت حياتي الوظيفية كرئيس دائرة في محافظة الشمال في سراي طرابلس بداية الثمانينات من القرن الماضي بعد سنوات على تخرجي من معهد الإدارة .
كانت المدينة خارجة حديثاً من تداعي حرب السنتين إلا أن فوضى المليشيات الحزبية المسلحة كانت لاتزال تعم بها رغم وجود السوريين كقوات ردع عربية .
لذا كانت الإدارة شبه مشلولة وفاسدة من تأثير ذلك مع غياب قدرة الدولة على الثواب و العقاب .
كان مكتبي في الطابق الثاني من السراي على بعد خطوات من مكتب المحافظ الذي كان يرقى اليه بالمصعد ، إلا أنني كنت افضل الصعود على الدرج تجنباً لازدحام المواطنين أمام المصعد .
كان أشد مايضايقني وجود عبارة بالخط العريض كانت تطالعني يومياً على حائط الدرج جاء فيها أن "إخراج القيد بعشر ليرات "؟!
اي اتهام صريح بالرشوة لموظفي دائرة النفوس الذين كانوا يصعدون يومياً على درج المحافظة نحو مكاتبهم في الطابق الثاني ولايهتمون حتى بإزالة هذه العبارة المعيبة ، ربما لان الرشوة كانت وقتها قائمة على قدم وساق في اكثر دوائر الدولة بحيث اضحت مثل هذه العبارات أمراً عادياً .
وصلت يوماً والمحافظ الى السراي في نفس الوقت فاتجه نحو المصعد كالعادة ، إلا اني رجوته ان نصعد معاً على الدرج لأريه عبارة مسيئة من الضروري ان يراها .
استجاب لطلبي وصعدنا سوية وشاهدها ، فاستغرب الأمر ، إلا أن جوابه عندما جلسنا معاً في مكتبه انه ماذا يستطيع ان يفعل والدولة غائبة ؟
فأجبته لو كانت الدولة غائبة لما كنت انت أو أنا في السراي ، لذا يجب ان تفعل شيئاً لوقف هذه المهزلة .فأجابني لعدم خبرته بالإدارة ان الرقابة على الإدارات ضمن السراي والمحافظة من مهماتك الأساسية وفق صلاحياتك فاستخدمها ؟
أجبته بأن الأمراكثر تعقيداً مما يظن إذ يحتاج الى إعادة ترتيب وتنظيم لأسلوب المعاملات المعتادة بحيث يتوقف الإزدحام اليومي وتنتفي الرشوة مع اعتماد الرقابة غير المباشرة التي ترعب الموظف وتجعلهم في خوف دائم من تلقي اي رشوة .
أجابني حسناً ، صغ المذكرة التي تريد لأوقعها بتكليفك لوضع خطة لتحسين العمل للحد من شكوى الناس وتذمرها في دائرة النفوس ووقف الرشوة .
وأرسل نسخة عنها لدائرة النفوس لأبدأ في اليوم التالي بوضع خطة محكمة أنجزتها بعد عدة أيام من جولة يومية على دائرة النفوس للإطلاع على مكامن العيب ، ليصبح السير فيها منتظماً ولتختفي الرشوة العلنية تماماً وتحل محلها الرشوة الخفية ولكن ليس أمام إداري خبير .
إنتهيت من وضع التقرير والخطة بعد عشرة ايام تقريباً . دهش المحافظ لفحواها بما فيها من تطور ، إذ نسفت طريقة العمل من اساسها وغيرت من مواقع الموظفين ومكاتبهم وجعلت علاقاتهم بالجمهور مباشرة مع توسعة الموقع واقتراح بزيادة عدد الموظفين مع ملحق بمخطط هندسي فيها يحدد موقع المكاتب وطرق تلقي المعاملات وتسليمها .
فكان جوابه الفوري انني لم أكن اتوقع أن يكون خريجي معاهد الإدارة على هذا القدر من المعرفة والخبرة .
إلا أنه طلب مهلة عدة أيام لاستمزاج رأي القوى السياسية بهذا التقرير قبل ان يوافق على إقرار الخطة وتنفيذها .
بعد ثلاثة اسابيع من تسلمه التقرير ، في لقائي الصباحي المعتاد في مكتبه لمراجعة العمل اليومي ، أخرج الملف من حقيبته قائلاً لي احتفظ به ؟!.
وأردف إذ ان القوى السياسية تفضل ان يبقى الحال على ماهو عليه وليس باستطاعتي مواجهتها ، لذا فلا تلمني . وانا كمحافظ وظيفتي سياسية اكثر منها إدارية كما تعلم ..ثم تابع بعد صمت انه فعلاً لأمرمؤسف وقد صدمني الأمر كما صدمك .
وهكذا فإنه تصح المقولة بانه ليس هناك من فساد إدراي إلا من فساد سياسي يحميه ويدعمه .
↧
من خبايا الإدراة /1
↧