كان شهر رمضان بالنسبة لأهل مدينة طرابلس الفيحاء اللبنانية يعتبر ولا يزال شهر الخير والبركة ، لذا كان يستقبل بفرح ظاهر قبل أيام عدة من مجيئة فتزين الأسواق الداخلية بأكملها بأوراق الزينة الملونة ويافطات الترحيب وحبال الكهرباء المشعة باللمبات الملونة التي كانت ترفع في الشوارع من رصيف إلى آخر مقابل ، إضافة إلى الفرق الصوفية التي كانت تستقبله بالطواف في شوارع المدينة ، قبل أيام من حلوله ، بالأهازيج الدينية والطبل والزمر والأعلام الخضراء .
سيران رمضان :
كما كان يُحتفل بقدومه من قبل ربات البيوت أو العائلات الطرابلسية قبل يوم من إثباته بالخروج منذ الصباح الباكر إلى البرية والأرياف وحقول الزيتون في أبي سمراء وقد حملوا معهم مختلف أنواع الطعام ولحوم الشواء والشراب والخضار والفواكه والأراكيل توديعاً لأيام الإفطار وإستقبالاً لشهر رمضان الكريم وترحيباً به ، خاصة من الأطفال الذين يجدون متعة في هذا اليوم حيث يضرب طلاب المدارس الرسمية عن الذهاب للدراسة لمشاركة عائلاتهم في "سيران"رمضان ، وقد بدأت هذه العادات بالإنحسار منذ منتصف سبعينات القرن المنصرم .
المساجد في رمضان :
كانت المساجد في طرابلس تعمر بالمصلين طوال شهر رمضان خاصة عند صلاتي العصر والعشاء . فصلاة العصر كان يتبعها دروس دينية لمشايخ عدة في المسجد الواحد حيث يتوزعون في باحته ليتحلق حولهم الناس بمتعة كبيرة لتعلم مبادىء دينهم في حسن الأخلاق والمعاملة وشروط الصيام وأحكامه ،وكان أشهر المدرسين في ذلك الوقت شيخان مصريان هما صلاح الدين أبو على والشيخ سليمان دغيش أما صلاة العشاء فكانت المساجد تعج بالمصلين سعياً وراء صلاة التراويح تقرباً إلى الله وطاعة له ، وطمعاً في مزيد من الثواب .
مدفع رمضان :
كان لرمضان نكهة خاصة حيث يتم إثباته والإعلان عنه، قبل يوم واحد من بدء الصيام ، أما عصراً أو مساءً من خلال دوى سبع طلقات مدفعية قوية تطلق من القلعة القائمة على تلة أبي سمراء .
وكان المدفع المستعمل قديماً من مخلفات الأتراك الذين كانوا قد خصصوه لهذا المهمة الدينية التي أصبح يقوم بها بعد رحيلهم جندي من الجيش اللبناني حيث يعمد إلى حشي فوهة ماسورة المدفع بالبارود والقماش ويدكهم بعصاً طويلة ثم ينتظر أذان المغرب من الجامع الكبير الذي كان صوته مسموعاً لديه دون مكبرات كما رؤية المؤذنين عن بُعد عدا أن المأذنة كانت تضاء عند وقت الأذان بلمبات متعددة ظاهرة للقاصي والداني ، عندها يُشعل الفتيل الظاهر في مؤخرة المدفع ليدوي صوته قوياً في كل أرجاء المدينة وقد وضع الجندي يديه على أذنيه تخفيفاً من حدة الصوت .
ولكن من طرائف هذا المدفع إنه عقب إطلاقه في كل يوم فإن القماش المحروق المشحّور باللون الأسود كان يتطاير من داخله في الجو منتشراً لعشرات الأمتار ويسقط على أسطح الأبنية القريبة ، لذا عمدت الدولة نهاية الستينات إلى استبداله بمدفع حديث يطلق منه خرطوشة مدفعية خلبيّة ، أي صوتية .
وكان هذا المدفع يطلق قذيفتين عند الغروب إعلاناً لأذان المغرب وبدء الأكل ، وطلقة عند السحور لإعلان بدئه وأخرى عند الإمساك للتوقف عن الطعام . إلا أنه لأسباب أمنية مع كثرة التعديات المسلحة على القلعة فقد تم نقل المدفع في الثمانينات إلى منطقة المعرض في فسحة مجاورة له مع ثلة من الجنود ترافقه ، ولايزال يستخدم هناك حتى الآن خلال شهر رمضان ومن ثم يعاد إلى الثكنة .
موائد رمضان :
يتميز شهر رمضان بثراء موائده العامرة بالأطايب من المحاشي واللحوم والكبة والكباب المشوي تعويضاً عن صيام النهار . ومن أكلاته المفضلة المرافقة يومياً للوجبات الأساسية ، الفتوش أوالتبولة والحمص بطحينة أوالكبة النية والشورباء المختلفة الأصناف من خضار وعدس وشعيرية على أنواعها كما شوربة الأرز باللحم .
وكان الود والتراحم هو سيد الموقف حتى نهاية الستينات حيث كان الأقارب والأهل مع تجاور البيوت فيما بينها يتبادلون سكب الطعام فيما بينهم ، فقد ترسل تلك لأختها أو قريبتها او جارتها صحناً من ورق العنب أو الملفوف مثلاً فترد عليها هذه بسكب صحن بديل مما طبخته كاللوبياء أو الكبة المشوية أو الدجاج أو أي صنف صنف آخر ، وبذلك كانت تتنوع السفرة بمختلف أنواع الطعام بفضل هذه العادة التي بادت نهائياً حتى ان الجار أو الجارة قد لايتقابلان ولو بالصدفة عند مدخل البناء لأشهر عدة أو سنوات .
حلويات رمضان :
ومن ميزات شهر رمضان المتعددة هو استهلاك الحلويات تعويضاً لفقدان السكر من الجسم طوال الصوم ، لذا فإن أصنافاً معينة من الحلويات كانت ولازالت أكثر رواجاً في رمضان من الأيام العادية ، ومنها الكربوج وورد الشام بالقشطة والكلاج المحشي بالقشطة والكنافة والقطايف ومن ثم باقي أصناف الحلويات على أنواعها ، ومازال الأمر كذلك حتى الآن ، إلا أنه قد اختفت محلات بعض الأصناف والحلويات التي كانت تعد في رمضان كالمهلبية والألماسية .
المهلبية :
كانت محلات المهلبية تتوزع في الأسواق القديمة في المحلات والبسطات حيث تعرض في صحون بسعر يتراوح بين 35 و50 قرشاً للصحن الوحد وجاطات من البورسلان بسعر يتراوح بين 75 و100 قرش وفقاً لحجمها ، يدفع المواطن ثمنها ثم ترسل إلى منزله ليعود صبي المحل لأخذها صباحاً .
والمهلبية أكلة لذيذة وطيبة جداً وهي مكونة من الحليب والسكر والنشاء والمستكة وماء الوهر وفق مقادير معينة . وكانت تصنع معها على حدة صحون الألماسية الشفافة بألوان متعددة منها الأحمر والأصفر والأخضر تصب فوق المهلبية لتضحى ألذ طعماً .
الألماسية :
والألماسية عبارة عن خيوط صمغية من نشاء الرز تذوب في المياه الساخنة وتحرك حتى تذوب دون سكر ثم تصب على وجه المهلبية حتى تجمد .
وبالإضافة إلى ذلك فإن ربات البيوت كن يصنعن في هذا الشهر حلاوة الرز بالجبنة في بيوتهن كما المهلبية والهيطلية والرز بحليب والعوامات .
البرازق :
والبرازق هو من أصناف رمضان حصراً ويصنع من الدقيق والحليب والسكر بشكل مستدير لايزيد قطره عن 12 سنتميراً كما سماكته عن 2 ملم وهو ذهبي اللون بعد خبزه ومغطى بالسمسم وهش يذوب في الفم ويقرمش كالبسكويت عند تناوله .
وكان بيعه يبدأ بعد الإفطار بقليل حيث يحمل الأطفال كما الكبار سلال البرازق ينادون عليها "برازق ..برازق "ليباع القرص منه بفرنك واحد والسبعة أقراص بربع ليرة .
أما الآن فقد بطلت هذه المهنة واختفى هذا النوع من البرازق في رمضان إلا من محلات الحلويات التي تيبع البرازق من الحجم الصغير بالوزن ، وليس بالعدد لصغر حجمها ، طوال أيام السنة .
الكعك بسمسم :
وهو عبارة عن رغيف من الكعك المنتفخ بحجم الرغيف الصغير مغطى بالسمسم على وجهيه ، وهو لازال معروفاً منذ ماقبل الخمسينات وحتى الآن ويباع طوال العام على العربات ،إلا أن الناس ترغب به وتقبل على تناوله ساخناً بعد منتصف الليل في رمضان حيث تقصد الأفران قبل موعد السحور لتأكله مع الجبن الحالوم أو القشقوان أو الزعتر ، وهذا الكعك تتميز به طرابلس عن سائر أنحاء لبنان .