أظن أنه من العسير علي المرء أن يجد مجتمعا غربيا أشد قسوة من المجتمع الأمريكي قبل وقوع أزمة عام 1929 في بورصة نيويورك. فالولايات المتحدة لم تعرف تقريبا الطبقة المتوسطة إلا من خلال الإصلاح التشريعي الذي قامت به إدارة الرئيس فرانكلين روزفلت والمعروف تحت إسم النيو ديل. وهذه الإصلاحات كانت محل مقاومة شديدة من جانب رجال الأعمال والبنوك وشركات التأمين وقضاة المحكمة العليا إلي جانب جزء كبير من أعضاء الكونجرس. ولم يكن في صف الرئيس روزفلت سوي ملايين العاطلين الذين فقدوا أعمالهم بسبب الجشع المالي الذي أصاب البنوك والمستثمرين قبل أزمة 1929.
وقد كان من أهم هذه التشريعات التي جاء بها روزفلت قوانين الضمان الإجتماعي والمعاشات والحق في تكوين النقابات.
"سوف تسمعون كثيرا من المعترضين علي هذه الإجراءات يسمونها فاشية، والبعض سوف يسميها شيوعية، والبعض الآخر سوف يسميها الحد من الحرية وآخرون سوف يسمونها إشتراكية. وفي كل تلك التسميات فهم يغفلون حقيقة هامة وبسيطة وهي أن هذه الإجراءات عملية وضرورية"..
كانت هذه كلمات الرئيس فرانكلين روزفلت في خطاب عام يرد فيه علي منتقديه ويكيل لهم الصاع صاعين.
وبالفعل فقد تعرض هذا الرئيس إلي حملة واسعة للتشهير بشخصه وبزوجته وبمرضه حيث عايروه بأنه مقعد حتي أن القاضي ويليس فان ديفانتر قال علنا في أحاديثه الخاصة أنه طالما بقي هذا المقعد إبن العاهرة في البيت الابيض فلن تمر النيو ديل من المحكمة. فقد رفع المعترضون الأمر إلي المحكمة العليا لكي تحكم في دستورية هذه القوانين الجديدة علي العقلية الأمريكية.
وكان أشد ما يضايق المعترضين هو أن صاحب هذه الأفكار لا يأتي من الطبقة الفقيرة المحرومة وإنما هو من طبقة الأثرياء المنعمين في الرخاء منذ الطفولة والذين لم يروا يوما فقرا ولم يعايشوا شظف العيش، أي أنهم كانوا يرون فيه خائنا لطبقته ولأصله.. وفي هذا السياق لم يدخر المعارضون وسعا في محاولاتهم النيل منه ومن سمعته فقالوا عنه أنه شيوعي وأنه إشتراكي وأنه شاذ جنسيا وأنه فوضوي وتخريبي وعدو للسوق والحرية إلخ...
وهو من ناحيته كان يسخر منهم قائلا "لماذا يكرهونني هكذا؟ هل يكرهونني لأنني أحاول إنقاذ الراسمالية من الفشل؟
وهذه العبارة الأخيرة هي مفتاح النظر فيما فعله هذا السياسي ببلاده ولبلاده ومن أجل بلاده.
عندما وضعت الحرب الأهلية أوزارها عام 1865 وجد الأمريكيون أن بلادهم علي قدر هائل من الإتساع الجغرافي وأنها ليست مستغلة كما ينبغي لها أن تستغل ولا بالقدر الذي يسمح بمعيشة أفضل. وهكذا بدا الأمر بمشاريع إعادة الإعمار مصحوبة بانفجار هائل في حجم النقل مما تطلب مد شبكة سكك حديدية لا نهائية إخترقت كل الاراضي الأمريكية من أقصاها إلي اقصاها.
وفي هذه الظروف ظهرت مجموعة متزامنة من رجال الأعمال الذين إستطاعوا فهم الروح السائدة في ذلك العصر ونجحوا في إنشاء شركات عملاقة لم تعرف الإنسانية مثيلا لها وكونوا ثروات لا تزال حتي اليوم تعد أرقاما قياسية بحساب القدرة الشرائية.
ومن ضمن هؤلاء كان أندرو كارنيجي في مجال الصلب وكورنيليوس فاندربيلت في مجال السكك الحديدية وبالطبع جون روكفلر في مجال البترول، إضافة إلي جون بيربونت مورجان في مجال البنوك..
وهؤلاء الأربعة كانوا يتميزون بالقدرة الغير عادية علي العمل لساعات طويلة إلي جانب القسوة الشديدة وعدم الهوادة في شأن كل دولار يمكن كسبه أضف إلي ذلك عدم التراجع بسبب أي رادع أخلاقي أو أدبي أو حتي قانوني مع الرغبة الجامحة في تحطيم المنافسين مما جعل أعمالهم ترقي إلي درجة الإحتكار.. وهو ما أوصل الأمور في النهاية إلي إصدار قانون شيرمان لمحاربة الإحتكارات في بداية القرن العشرين، وكان ذلك في عهد رئيس جمهوري وليس ديموقراطيا ولكنه أيضا من نفس تلك العائلة، عائلة روزفلت، إنه الرئيس تيودور روزفلت.