شاء حظ المغنى الإيطالى المعجزة إنريكو كاروزو صاحب الصوت الساحر أن يتواجد فى سان فرانسيسكو فى تلك الأمسية من شهر أبريل عام 1906. إذ كان لديه حفل قام بإحيائه مساء يوم 17 أبريل وبعد الحفل عاد إلى فندقه لينام.
وفى الصباح المبكر ضرب زلزال هائل المدينة بأسرها وكان مركزه فى داخل البحر قريبا جدا من شاطىء المدينة وبلغت قوته حسب التقديرات من 7.7 إلى 8.3 على مقياس ريشتر.
والذى يهمنا فى هذا الزلزال هو طريقة التعامل مع هذا الظرف الطارىء حيث أن ذلك يشكل نموذجا لأحوال الضرورة فى الإدارة وفى القانون العام.
ولابد هنا أن يلاحظ المرء أن وسائل الإتصال لم تكن قد حققت 1% من التقدم الذى وقع خلال النصف قرن التالي.
ناهيك عن أن الدمار الذى حاق بالمدينة بسرعة هائلة كان كفيلا بوقف جميع هذه الوسائل حتى إن كان لها وجود. فلا الطائرات كانت موجودة وحتى لو كان لها وجود لما إستطاعت أن تهبط. ولا تليفونات كانت قد إنتشرت هكذا وعلى كل حال فإن إمداد الكهرباء كان قد إنقطع مما يجعل الإتصال التليفونى مستحيلا.
وفى خلال ذلك بدأت مواسير الغاز فى التحطم وبدأ الغاز يتسرب منها بفرقعة هائلة أشعلت حرائق لا حصر لها. والمعضلة هى أن مواسير المياه قد تحطمت بدورها فأصبح إطفاء تلك الحرائق أصعب.
كان عمدة سان فرانسيسكو المنتخب هو السيد/ يوجين شميتز الذى كانت تحوم حوله شبهات فساد إدارى ومالى.
كان عمدة سان فرانسيسكو المنتخب هو السيد/ يوجين شميتز الذى كانت تحوم حوله شبهات فساد إدارى ومالى.
كان مبنى البلدية الذى يجلس فيه عمدة المدينة ويمارس منه أعمال منصبه قد تحطم وأصبح غير صالح للإستعمال فنقل العمدة شميتز مقر عمله إلى مبنى المحكمة. وقد أرسلت الحكومة الفيدرالية الوحدات القريبة من سان فرانسيسكو من الجيش الأمريكى للمساعدة على إطفاء الحرائق وحفظ النظام. وقد تم هذا الإرسال بدون إخطار العمدة الذى فوجىء بوحدات الجيش فى مدينته. وكان قائد هذه الوحدة هو جنرال صارم لا يقبل المناقشات هو الجنرال فانستون الذى دخل فى نقاش حامى الوطيس مع العمدة حول إختصاصات كل منهما.
فقد كان الجنرال يرى أنه ممثل الحكومة الفيدرالية وأن سلطته تعلو سلطة العمدة بحكم أن المدينة أصبحت خاضعة للحكم العسكرى بدخول الجيش إليها. بينما كان شميتز يرى أن الجيش قد جاء ليساعد المدينة حسب ما ترى المدينة أن تكون المساعدة. ولكن على ما يبدو فقد تغلب رأى الجنرال الذى كانت له ربما الغلبة الفعلية إلا أنه كان يحتاج إلى من يعبر عن المواطنين ويملك تفويضهم لكى يمرر وا كان يريد أن يفعله.
وبسبب الإنهيارات المتعددة لكثير من المبانى المتجاورة مع إنكسار أنابيب الغاز تحت الأرض وداخل المبانى فقد وقعت حرائق كبيرة ساعد على إنتشارها الفعل المعروف لدى كل رجال الإطفاء بفعل المدخنة Chimney Effect وهو ما يعنى أن النار التى تتسع دائرة إنتشارها تسحب الهواء من المناطق المجاورة بحيث يضاف محتوى جديد من الأكسجين إلى النار المتواجدة فتنتشر على مساحة أكبر وتكتسب سرعة حركة تجعلها تنتقل إلى ما جاورها من مبانى.
ولهذا فقد فكر الجنرال فى أن يقطع الطريق على هذه الظاهرة بأن يفجر بالديناميت صفا كاملا من المبانى يجعل عملية الإنتشار تتوقف بسبب عدم وجود ما يسمح للنار بأن تشتعل. وهكذا بدأ الجيش ينفذ عملية تفجير واسعة لمبانى آهلة بالسكان ولم تنهار بسبب الزلزال، فقد كان القاطنون يخرجون من المبنى وعقب ذلك مباشرة يبد أ الجنود فى تفجير المبنى ثم التالى له وهكذا. وهذا بالطبع يعد إضرار بممتلكات أصحاب تلك المبانى حيث أن معظم عقود التأمين لا تغطى الكوارث الطبيعية وهذا التفجير يعد ضرورة من ضرورات مكافحة فعل الزلزال أى أنه ضرر تبعى من أضرار الزلزال وبالتالى لم تكن هناك إمكانية لاستعواضه من شركات التأمين.
وأضيفت إلى المشاكل مشكلة أخرى هى النهب الذى إجتاح المدينة حيث إنتشر اللصوص يحاولون الحصول على مغنم سريع من الشقق التى هجرها أصحابها إلى الملاجىء المكشوفة والتى يمكن بسهولة إقتحامها فى ظل الهرج والمرج والضجة الصاخبة حيث لا يراقب أحد إلا نفسه وعائلته.
وهكذا وفى ظل هذه الفوضى القانونية والفعلية أصدر العمدة قرارا موقعا منه بأنه إعتبارا من ساعة صدور القرار سوف يطلق الجيش الرصاص الحى على كل من يضبط بالسرقة أو بالنهب بدون مساءلة وبدون محاكمة وبدون تحذير. وقد نفذ الجنود ذلك بالفعل وقتلوا ما يقارب 500 شخص من هؤلاء اللصوص. وهذا بالطبع فيه تعليق كامل لأى قانون عقوبات حيث أن الحكم والتنفيذ كان فى يد الجندى الممسك بالسلاح. وخوفا من تعفن الجثث قام الجنود بإشعال نار كبيرة ألقوا فيها بجثث هؤلاء القتلى دون محاولة حتى معرفة أسمائهم أو شخصياتهم. إنها مرة أخرى حالة الطوارىء.
وجانب آخر من جوانب حالات الطوارىء تمثل فى إجبار الجيش للرجال القادرين على العمل على أن يقوموا بمهام عضلية شاقة للمساعدة على الإخلاء أو حراسة الممتلكات أو ما شابه ذلك من أعمال وذلك بالأمر العسكرى مع التهديد بإطلاق النار على من يخالف هذا الأمر أو يرفض أو يعترض. وكان الجنود يقومون بأخذ الرجال من وسط عئلاتهم لهذا العمل مع المعرفة المسبقة أنه عمل بالمجان رغم ما قد يكون فيه من أخطار.. وهذا هو ما نطلق عليه فى مصر السخرة. وهو منصوص عليه فى الدستور المصرى تحت تحفظ أنها لابد أن تتم بمقتضى قانون خاص ولمدة محدودة ولعمل معين بذاته . وهو بالطبع واقع يخالف كل القوانين التى تنظم عقود العمل والأجور أى أنه مخالف للقانون الأساسى وهو الدستور. وبكلمات أخرى فهو إيقاف العمل بأحكام الدستور بسبب وجود حالة الطوارىء. صحيح أنه لم تكن هناك حالات معروفة للرفض أو التمرد ولكن المبدأ نفسه يستحق وقفة مع قانونيته. وهو أيضا من النتائج القانونية (أو الغير قانونية) لحالة الطوارىء.
والآن نأتى إلى الجانب الأخير من هذه السلسلة من التصرفات القانونية ولعله أهون الجوانب وهو الإستيلاء على الممتلكات الخاصة للمصلحة العامة. فقد قامت القوات المسلحة بمصادرة مخزون القمح والدقيق وكافة المواد الغذائية التى كانت متواجدة فى حيازة أصحابها وذلك بالقوة لتوزيعها على السكان المشردين من جراء الزلزال. وكما هو الوضع فى التشغيل القهرى لم اقرأ عن حادثة إعتراض واحدة على تلك المصادرات ولكننى أيضا لم أقرأ عن تعويضات عن تلك المواد، إلا أن أغلب الظن هو أنهم قد تم تعويضهم حيث أن الرئيس روزفلت قام بتخصيص مليون دولار للرعاية بهؤلاء المشردين وبالتأكيد قامت الدولة بتعويض اصحاب هذه المحال من تلك المخصصات.
وبعد هذه العجالة عن تلك التصرفات لابد من الدخول فى مناقشة أحقية الدولة فى القيام بها.
أولا لابد من ملاحظة أن من أصدر قرار دخول الجيش إلى سان فرانسيسكو هو الحكومة الفيدرالية التى يتبعها الجيش بصفة وحيدة حيث أنه فى النظام الفيدرالى لا سيطرة لحكومات الولايات على أى تحركات عسكرية. وهذا القرار قد إتخذ دون علم السلطات المحلية الممثلة فى عمدة المدينة حيث أن العمدة كما شهدنا قد فوجىء بوصول القوات البرية الراكبة على الخيل (لم تكن العربات المدرعة والدبابات قد إخترعت بعد وإن كانت هناك عربات ركوب أشخاص فى ذلك الوقت). وثانيا لابد من ملاحظة أن القرارات كانت تتخذ بصفة تشاورية بين العمدة والجنرال فانستون وخصوصا فيما يتعلق بقواعد التعامل مع النهابين والمجرمين حيث أن من وقع أمر ضرب النار كان العمدة وليس الجنرال. والعمدة هو السلطة المنتخبة من المواطنين إنتخابا مباشرا وبالتالى يمكنه الدفع عند الضرورة بأنه يحمل تفويضا صريحا من المواطنين بالتصرف فى المواقف التى يستدعيها الحال. وهذا الإختصاص ليس له وجود فى الظروف العادية حيث أن القتل من جانب الدولة لا يتم إلا عن طريق أحكام المحاكم بالإعدام. صحيح أن الشرطة يمكنها إطلاق الرصاص الحى ولكن فى حالات مقاومة رجالها أو الهجوم عليهم بالسلاح حيث لهم حق الدفاع عن النفس. ولكن جريمة السرقة ليست مواجهة مسلحة لرجال الضبطية القضائية فهى لا تشكل تهديدا مباشرا لهم وإنما يمثل هؤلاء المجرمون خطرا على الممتلكات فقط.
واللفظ الإنجليزى المستعمل يدل على غضب شديد ممن حرر نص القانون حيث أنه سبة صريحة تعنى الأوباش أو الأوغاد أو الكائنات المنحطة.
Mayor Schmitz appointed the Committee of Fifty at 3 p.m. at the Hall of Justice. The mayor also said:
“Let it be given out that three men have already been shot down without mercy for looting. Let it also be understood that the order has been given to all soldiers and policemen to do likewise without hesitation in the cases of any and all miscreants who may seek to take advantage of the city’s awful misfortune.”
كما أنه لابد من ملاحظة أن أعمال تفجير المبانى التى كانت حتى وقت تفجيرها سليمة لا أثر للزلزال عليها كانت أعمال يقوم بها الجيش وحده وبرؤية منه لطريقة التعامل مع النيران الآخذة فى التمدد وجاء التفجير رغم أنف العمدة الذى توارت سلطته خلف سلطة الجيش فى هذا الشأن الفنى حيث أن الجيش يملك إفتراضيا معرفة فى طرق التعامل مع الحرائق لا تتوفر للعمدة خصوصا فى ظل العجز الكامل الذى أصيبت به إدارة المطافىء بسبب الضغط الشديد عليها وإصابة كثير من رجالها.
يوجد فى الولايات المتحدة قانون صادر فى عام 1878 يمنع على الجيش الأمريكى العمل فى داخل الأراضى الأمريكية لإنفاذ القانون أو النظام. وهذا القانون كان بالطبع ساريا عندما وقعت كارثة الزلزال. وإسم هذا القانون هو Posse Comitatus Actوهو يعنى باللاتينية قدرة البلديات على التصرف فى شئونها والمقصود هو منع الحكومة الفيدرالية من إستخدام قوة الجيش العسكرية فى فرض النظام والقانون على أراضى الولايات ذات الحكومات. وهو نظام بالطبع خاص بالولايات المتحدة الأمريكية ذات النظام الفيدرالى. ويوجد فى ألمانيا الفيدرالية شيء من هذا القبيل حيث أن إستخدام الجيش الألمانى ممنوع فى داخل البلاد إلا بتصريح خاص. وقد صدر هذا القانون كما هو واضح فى أعقاب الحرب الأهلية الأمريكية التى كانت فيها كل أرض الولايات المتحدة مسرحا لعمليات عسكرية مما جعل حكومات الولايات تتضرر من الإستخدام الفيدرالى للقوات المسلحة. ولا ينطبق هذا القانون على الحرس الوطنى الأمريكى الذى هو وحدات شبه عسكرية لكنها تتدخل لحفظ النظام فى حالة إستدعاء الولايات لها فى أحوال الطوارىء (كما حدث أثناء رئاسة جورج بوش الأب فى كاليفورنيا عام 1992 بعد الأحداث العنصرية التى صاحبت ضرب وتعذيب المواطن الأسود رودنى كينج فى قسم البوليس). وهذا القانون قد تم تعديله فى عهد الرئيس ريجان بحيث زادت قوة الولايات وقلت قوة الحكومة الفيدرالية حيث شمل الحظر القوات الجوية والبحرية إلى جانب الجيش.
وبهذا المعيار إذا يعتبر دخول الجيش الأمريكى إلى سان فرانسيسكو تعديا على هذا القانون حيث أن عمل القوات المسلحة فى حفظ النظام هو مما يمتنع على الجيش الأمريكى.
وأظن أن سبب إصرار الجنرال الأمريكى فانستون على أن يكون قرار إطلاق الرصاص الحى على المجرمين موقعا من شميتز عمدة سان فرانسيسكو هو خوف الأول من العواقب التى قد تواجهه فيما بعد لأنه قد تعدى على هذا القانون الهام جدا. فالجرائم التى يقوم بها العسكريون تنظرها المحاكم العسكرية وهذا يجعل الجنرال معرضا لمساءلة شديدة للغاية. وبتوقيع العمدة يحصل الجنرال على دليل مقنع على أنه تصرف بناءا على طلب واضح من السلطة الشرعية الممثلة فى العمدة المنتخب. وعلى أى حال فلم أقرأ أن أحدا قد إعترض على هذه التصرفات. والظاهر أن من أصدر الأمر للجيش بالدخول لم يعمل حساب وجود عمليات النهب وضرورة مواجهتها بالقوة المسلحة حيث أن نص القانون يحظر إستعمال الجيش فى إقرار النظام وحفظ الأمن وتطبيق القانون.
وربما كان فى ذهن الحكومة الفيدرالية أن دخول الجيش سوف يساعد فى أعمال الإغاثة والمساعدة على توطين المشردين الذين فقدوا منازلهم وهذا أمر لا يحظره القانون حيث أنه لا يندرج تحت بند فرض القانون وحفظ النظام بل هى مساعدة تنظيمية ولوجيستسة فقط.
أما ما قام به الجيش من تفجير المبانى فيمكن تبريره قانونيا بأنها كانت الطريقة الوحيدة التى يمكن اللجوء إليها لوقف إنتشار الحرائق وهو رأى فى محله إذ أن هذه الطريقة قد أثبتت جدواها وبالفعل نجح الجيش فى وقف التمدد الرهيب للنيران. وهو على كل حال شأن مدنى يمكن تعويضه فيما بعد عن طريق الحكومة سواء الفيدرالية أو المحلية للولاية.
ونفس هذا النظر ينطبق على مصادرات الممتلكات الخاصة من المواد الغذائية بغرض إطعام المشردين إذ أن ذلك هو أيضا شأن مدنى يمكن التعويض عنه لمن فقد ممتلكاته من تلك المنقولات.
ويبقى أمر السخرة التى قام الجيش بالإشراف عليها وهى قد تمت أيضا بأمر من العمدة وينطبق عليها ما ذكر فى شأن مواجهة أعمال النهب والسرقة.
وكما بدأت بالسيد/ كاروزو أنهى به هذه الملاحظات حيث أن ما ذكر عنه يروى أنه إستيقظ فى الصباح الباكر ووقف فى شرفة غرفة الفندق ينظر إلى الدمار الذى حاق بالمدينة ثم أخذ يجرى تدريبات صوته وكأن شيئا لم يقع للمدينة وبعد ذلك نزل إلى البهو ودفع حساب غرفته وكان أول من خرج من المدينة هربا من ذلك الجحيم.
وفى النهاية لابد من ذكر أن عدد المشردين قد بلغ حوالى ربع مليون بلا مأوى قام الجيش بنصب الخيام لهم وبإطعامهم حتى جاء الغوث من الولايات المجاورة.