تأليف : محمد السويسي
كانت طريق النجمة الموازية لطول السور الخلفي لحديقة الجامع المنصوري الكبير جزءاً من المدينة المملوكية القديمة لطرابلس الفيحاء اللبنانية ببيوتها وأقبيتها ومخازنها ، من قبل أن تداهمها المدنية الحديثة لتهدم وتزال لشق طريق نحو الرفاعية ، مطلع خمسينات القرن الماضي ، لتسهيل مرور السيارات صعوداً نحو تلة أبي سمراء مع توسع المدينة شرقاً .
مع بداية الهدم وامتداده من الجهة الملاصقة لقبوة الطرطوسي ، وصلت فرق العمال بأشغالها إلى مفرق جامع القرطاوية أو قرطائي بك قبل طلعة الرفاعية حيث كان هناك منزلاً ضخماً متعدد الطبقات أشبه بالقصر الذي كان يتخذه متسلم طرابلس مصطفى أغا بربر مسكناً له وقد بناه أوائل القرن الثامن عشر ، وبدأت الهدم فيه إلى أن وصلت إلى الطابق الأرضي ليُكشف عن مفاجأة غير متوقعة بوجود غرفة تحت الطابق الأرضي أشبه بالبئر وقد ملئت بالمئات من الجماجم المختلفة الأحجام ، وأطراف لعظام بشرية ؟! فتوقف الحفر لأيام عدة حيث حضرت قوة من الدرك وشرطة المباحث المدنية بالمعاطف الرمادية وقد اعتمروا قبعات شبيهة بأبطال أفلام المافيا والمباحث الأمريكية ليبدأ المزيد من النبش والحفر من قبل العمال بإشرافهم وقد طوقوا المكان بالأشرطة والحبال ليمنعوا المتطفلين والصبية من إجتيازها . وظلوا على هذه الحال من البحث والتحري لأيام عدة إلى أن غادروا نهائياً بعد أن أخذوا معهم بعضاً من العظام والجماجم .
وما أن إنتهى حرم الدخول للموقع من قبل رجال الأمن حتى دخل جمع غفير من الناس للتفرج على البئر لفترة ثم لينفضوا بعد أن أشبعوا فضولهم ، ليتسابق الأولاد والفتيان على نبش البئر واستخراج الجماجم ليعلقوها على رؤوس القصب والعصي ويدورون بها مهللين بما يبعث على الخوف والرهبة والإشمئزاز والقشعريرة ، خاصة وأنهم كانوا يتعمدون إخافة الصغار من الأطفال والبنات لمزيد من الضحك والتهريج فيما بينهم .
وقد دام الأمر على هذا الحال لأكثر من اسبوع والجماجم متناثرة ، بين كومات الأحجار وكثبان الأتربة ، من عبث الأطفال بها إلى أن جاء رجل رث الحال والثياب وبدأ يجمعها مع بعض العظام ويدخلها في أكياس من الخيش كبيرة وينبش في البئر للمزيد منها .
وكان الرأي المتداول بين الكبار بما يسمع منهم الصغار ،بأن هذه الحفرة كانت مقبرة لعائلة بربر آغا ، وآخرين يردها إلى مساجين لديه أو معارضين على خصومة معه قتلهم وعائلاتهم من نساء وأطفال وألقى بهم في البئر ..كما روايات أخرى متعددة ومتناقضة في هذا الشأن ؟!
إلا أنه كان هناك مفاجأة أخرى غير متوقعة وهو عن الرجل الكهل الذي كان يجمع الجماجم التي لقب باسمها ، ليظهر بعد عام تقريباً وهو يحمل عصاً غليظة طويلة بيده وقد علق على رأسها وبها وحول رقبته عدة جماجم وعظام وقد تدلت على صدره ويرفع بيد أخرى لافتة من الكرتون ملأى بعبارات النقد للدولة والمسؤولين لغياب الضمانات الإجتماعية والصحية وتفشي البطالة والفقر والفساد ، ثم ليتوقف في منتصف الأسواق أوعند كل زاوية طريق أو زقاق ليلقى خطاباً بصوت متهدج رفيع حاد داعياً السياسيين والنواب والزعماء والقيادين والأغنياء إلى الإتعاظ بما آل إليه الحال ممن سبقهم وأضحوا عظاماً ورؤوساً فارغة كما هي حال الجماجم التي يحملها ليبدأ الهز بها والرج والتلويح وقد ربطها بأجراس عدة ليشد الأنظار إليها عند كل مفصل كلام من خطبه الرنانة على وقع رقص الجماجم .
مع بدء حملة أبو الجماجم التحذيرية والتذكيرية تلك ، بدأ الصبية يلاحقونه ويجرون خلفه من شارع إلى شارع ومن حارة إلى أخرى وهم يهزجون ويضحكون من افعاله وخطبه وقد اتخذوه مسخرة لهم مرددين بلقبه "أبو الجماجم ..أبو الجماجم ".. إلا أنه كان يترفع عن أفعالهم ولايلق لهم بالاً وكأنه لايلاحظهم ، إلى أن ملّوا منه لعدم مناوشته لهم ومقارعتهم بما كانو يرجونه ، فاكتفوا بالتفرج بعد اسابيع طويلة من عظاته .
وظل الأمر على هذه الحال لمدة عامين تقريباً إلى أن اختفى من المدينة دون أن تعرف وجهته .وقيل أن الدولة قد اعتقلته لشدة نقده لها بتحريض من زعامات سياسية ، وآخرين قالوا أنه رحل إلى بيروت ليواصل دعوته ؛ كما قصص أخرى انه قد توفى ، أو لربما أن أحداً من أسرته قد أقنعه بالعدول عن مسيرته ومد له يد المساعدة وأمّن له سبل العيش ، إذ كان ابن عائلة كريمة معروفة ، إلا أن ضيق العيش قد دفع به إلى سلوك هذه الطريق . وإن اختلفت القصص إلا أن أحداً في المدينة لم يعد يراه لتنتهي قصته وينتهي شق الطريق بعد أن تم تزفيتها ورصفها لتصبح سالكة نحو أبي سمراء .