تأليف : محمد السويسي
البناية تحتاج الى طرش ودهان ..الملتزم أحضر عشرة عمال من الكادحين وكأنهم من وراءالكون او من العصر الحجري لشدة ماقسى عليهم الدهر من فقر وجوع عدّل من سحنة بعضهم وتضعضعت أسنانه وفقد معظمها لسؤ التغذية ؛ وبرزت عظام البعض الآخر وهزلت اجسام آخرين منهم كادت ان تزيل وجودهم عن سطح الأرض . وبعضهم كالخيال ، اشبه بمخلوقات العصر الحجري لاإنسان العصر الحالي ، ولم يتعد اكبرهم الثلاثين من العمر .
إلا انهم جميعاً تزينوا بالوشوم الزرقاء على سواعدهم وزنودهم من شعارات صوفية الى عناوين أغنيات عاطفية الى عبارات حب وهيام وتغن بالحبيب الولهان .
رغم كل هذا فإنهم يبادرون بالسلام ماأن يشاهدوك وبتهذيب جم . وبتبادل الحديث معهم لسبر غورهم تبين لي ان كل منهم ملتزم بزعيم أو شيخ صوفي منتمٍ لزعيم وقد عضهم الدهر وأرخى ظله ثقيلاً عليهم .
ومع توالي التحية والسلام باغتني أحدهم يوماً بسؤاله : أليس عندك من مداخلات لتوظيفي ياإستاذ ؟!
قلت له ، ياريت .. فهل تراني نائباً او وزيراً لأساعدك في هذا الأمر ؟!.
ويدور بيني وبينه هذا الحوار بحضور بعضاً من رفاقه الذين تحلقوا حوله :
ولما تحتاج للوظيفة وانت تعمل في مهنة الطرش والدهان ..الا يكفيك دخلها ؟
ويأتيني الجواب جمعاً : كلنا نحتاج للوظيفة ، إن شغلنا الذي نمارسه غير دائم ياإستاذ والبطالة فيه أكثر من العمل ، ومدخولنا الشهري بالكاد يكفي للطعام .لذا فالوظيفة أمان من الفقر والعوز مهما كان الراتب ضئيلاً ؟!.
وأسأل : إذن لما لاتلجأون للنواب في وطن الوساطة ؟
ويأتيك الجواب الصادم منهم جميعاً بالقول : كلهم كاذبون ويضحكون علينا .
ليتبين لي بعد الحوار ان معظمهم كانوا موظفين كعمال في مؤسسات عدة وشركات مشهورة وعالمية .
وسألتهم :طالما أنكم كنتم موظفين في مؤسسات وشركات مهمة فلما تخليتم عن وظائفكم ؟
جاءني الجواب المأساة : صرفونا ياإستاذ من اشغالنا لأنهم استبدلونا بعمال سوريين أقل أجراً مع هجرتهم من بلدهم بسبب الحرب ، إذ يرضون بأي أجر ؟!
سألتهم : وهل كنتم تقبلون بأجر أقل ، كما العمال السوريين ؟
جاءني جوابهم المؤلم : بالطبع كنا نقبل بأي أجر ، ولكن لم يسألونا ذلك .والآن بالكاد نجد عملاً يسد رمقنا طوال الشهر ؟
أين المأساة هنا ؟
المأساة هنا تكمن في قانون تحديد الحد الأدنى للأجور الذي يحفظ حق العامل بالأجر العادل ، إلا أنه لايحتفظ له بحق العمل ودوامه ولايؤمن له العمل ، خاصة مع انعدام التأمينات الإجتماعية للعاطلين عن العمل .
وهنا تقع المشكلة الحقيقية في عدم اهتمام الدولة في البحث عن حل ملائم مع اصحاب العمل وليس مع النقابات او الإتحادات العمالية .
فالنقابات والإتحادات لاتصلح للنقاش معها في مشاكل العمال إذ تعتمد المزايدة للمزايدة فقط ، كما انها في واقع الأمر غير مؤهلة لإيجاد حل لمثل تلك المشاكل المستعصية التي يذهب ضحيتها العمال من كثرة المزايدين .
كما ان هؤلاء العمال قد ظلموا وذهبوا ضحية قوانين العمل الجامدة التي لا تعرف المرونة لجهل من واضعيها .
واضرب مثلين فقط مع تعدد الأمثلة التي لاتنتهي لاستخلاص هذه المشاكل التي يواجهها رب العمل إن من ناحية الأجر او من ناحية قوانين العمل الجامدة وبالتالي انعكاسها سلباً على العمالة الوطنية.
أحدهم يملك مؤسسة صغيرة في طور النشؤ يحتاج فيها الى عاملين لمساعدته ، إلا أن اجرهما معاً كان ثقيلاً عليه لأن هناك مصاريف أخرى من إيجار وكهرباء وتبريد لزوم العمل ،عدا مصروفه الأسري ، لذا اكتفى بعامل واحد لتبدأ مأساته ايضاً مع أنه رب عمل .
إذ وجد بعد عام أن دخله أو بالأحرى أرباحه لاتزيد ، بعد المصاريف ،عن أجر العامل الذي لديه . علماً انه يعمل بجهد مضاعف لهذا العامل الذي ماان ينتهي دوام عمله حتى يغادر غير سائل عن عذاب رب عمله وجهده او يشفق عليه ، إلا إذا دفع له رب العمل أجر ساعتين مقابل أجر كل ساعة إضافية وفق قوانين العمل التي ترعاه .
وذلك لانعدام المسؤولية عنده رغم انه وجد عملاً بصعوبة في هذه المؤسسة الصغيرة صدفة لانه كان اول الباحثين لديها عن عمل إلا أنه لم يحفظ هذه النعمة . لأنه لعدم غيرته على عمله و رب عمله غاب عنه انه يتساوى في المسؤولية والحرص على استمرار عمل المؤسسة كما صاحبها.
لأنه فيما لو اغلقت المؤسسة لعجز مالي فإنه سيصبح عاطلاً عن العمل ، إلا أنه في حقيقة أمره لايفكر سوى في المال حتى الإبتزاز مستقوياً بقوانين العمل التي ترعاه ضد رب عمله .
ووقع المحظور ليفلس صاحب المؤسسة وبصرف العامل من عمله ليأخذ تعويضاته من وزارة الشؤون ويهيم في الأرض بحثاً عن عمل في مدينة غلب عليها البطالة وكثرة المقاهي .
ولكن الظروف أبت إلا ان تساعد صاحب العمل إذ هبت العائلة لمساعدته ليعود بعد أشهر لينشأ مؤسسة جديدة . إلا انه في هذه المرة وظف عاملين اجنبيين نشيطين بأجر عامل وطني كسول واحد مع ساعات مضاعفة . إذ يرافقونه في عمله صباحاً حتى يغلق ولو لمنتصف الليل إن اضطر الأمر في المواسم دون اي تأفف منهم أو طمع في زيادة أجر لأنهم ضمناَ يطمعون في نجاح المؤسسة وبقاءها واستمرارهم في العمل ، فقد ساووا أنفسهم بصاحب المؤسسة في الغيرة عليها حرصاً على استمرارها واستمرارهم وقد اصبحوا اربعة عمال بدلاً من اثنين ، إذ زاد نشاط صاحب العمل وارباحه وازدهرت تجارته .
وكان أجيره الوطني القديم يأتيه كل أشهر يسأله عملاً عنده ، إلا انه كان يعتذر فقد قاسى منه الأمرين و أصابه منه الضرر الشديد ، ليس لذنب منه فقط ، بل بسبب قوانين العمل العشوائية التي اضرت بالعامل قبل صاحب المؤسسة الذي استطاع ان يتأقلم مع هذه القوانين ويتحاشى سلبياتها مع وجود عمال أجانب .
اما العامل الوطني فقد اوقعت به الدولة بقوانينها الملزمة ، وتسبب بالضرر لنفسه لضيق أفقه مع عدم مرونته لاعتقاده ان صاحب العمل كما الدولة يملك اموالاً طائلة لاتنضب ، إلا انه غاب عنه ان الدولة تنهب شعبها بالضرائب والرسوم وترهقه ، بما فيهم الفقراء والمعوزين ،اما صاحب العمل فلايملك إلا زنده لتحصيل لقمة عيشه .
مثل آخر عن شاب ورث عن والده مصنعاً ضخماً للنجارة يضم ثلاثين عاملاً ، إلا انه لم يكن يتعاطى بشؤون العمال ، بل كان والده يترك إدارتها عليه ليتفرغ معظم ايام الأسبوع في ملاحقة مشاكل العمال وشكواهم الدائمة ضد رب عملهم في الدوائر المختصة الذي اغتصب حقوقهم وفق شكواهم في تشغيلهم احياناً لساعات إضافية دون ان يدفع أجرها .
توفى الوالد وورث الشاب العمل ، ولكنه بعد احتساب الأرباح السنوية قرر ان يغلق المنشأ ة ويتجه الى تجارة الخشب ، بعد ان صرف العمال جميعاً .
وحجته في ذلك ان شكاوي العمال التافهة ضده واستدعاء الدوائر المختصة له قد ارهقته وعطلت إشرافه واشغاله ، فوجد بعد عام ان المنشأة الى تراجع فخاف من تنامي الخسارة فيما لو استمر على هذه الحال ، فأغلق المصنع للحد من خسارته ، ليهيم العمال على وجوههم في البحث عن عمل في صحراء من البطالة يشكون حظهم ويندبونه مع تراجع الأشغال ويلومون القدر .
اين المأساة هنا ؟
المأساة هنا تكمن في قوانين العمل الجائرة عن جهل لاعن قصد ، إذ يجب على الدولة ان تضع حداً ادنى للأجور ، فقط من اجل تحديد تعويضات نهاية الخدمة من قبلها على أن تدفعها من صندوقها لقاء الإشتراكات والرسوم المستوفاة مسبقاً من صاحب العمل سنوياً ، لاأن تفرض قيمة الحد الأدنى للأجر على رب العمل الذي لايستطيع احتماله مع وجود عمال اجانب اقل اجراً . وذلك بترك حرية التعاقد بين صاحب العمل والعمال دون اي تدخل منها إذا كانت حريصة على التخفيف من حدة البطالة بتشغيل العمالة الوطنية قبل الأجنبية .
إلا إذ كانت تفضل تشغيل العمال الأجانب ، على حساب العمالة الوطنية ، طمعاً في رسوم الإقامة السنوية المرتفعة التي تستوفيها منهم .. وهذا مؤسف .