أصبح آنشو جين هو رئيس الفرع الإستثماري للبنك وأصبح بروكسميت هو رئيس فرع إدارة المجازفة Risk Management أي أنه من يقوّم المخاطرة ويعطها نسبة مئوية يتحدد علي أساسها هل يدخل البنك في تلك الصفقة أم لا.
ومن ضمن ما دخل البنك فيه من أنشطة مساعدة بعض صناديق الإستثمار الأخري علي التهرب من الضرائب وذلك عارفا ومدركا لما يفعله. وقد تنبه بالطبع مكتب التحقيقات الفيدرالي إلي تلك الأنشطة الإجرامية وفتح تحقيقا مع مديري الدويتشه بنك وكان من ضمنهم بروكسميت مدير دراسة المخاطرة وأنكر أنه يعرف أي شيء وادعي أنها ممارسات لموظفين صغار.
ولكن بالطبع ما لم يكن يعرفه هو أن مكالمات البنك تسجل وتفرغ في محاضر كانت جميعها أمام لجنة الكونجرس للأمن الداخلي التي كانت تباشر التحقيق. وبالطبع دفع البنك غرامة أخري هائلة للسلطات الأمريكية قدرها 2.5 مليار دولار.
وفي عام 2013 أيضا قام بروكسميت بإصدار تحذيرات متتالية إلي إدارة البنك التي يتشارك فيها آنشو جين الهندي مع يورجين فريتشن الألماني عن أن المخاطر كبيرة وأن المعاملات تتعرض لخطر جسيم ولكن أحدا لم يسمع له. وفي النهاية وجد مشنوقا في شقته في لندن بعد كتابة خطابات وداع لأسرته ولأصدقائه وقال البوليس البريطاني أنه إنتحار ونشرت تقارير أنه كان يتلقي علاجا نفسيا.
وهكذا بقي من الثلاثة المنتقلين عام 1995 من ميريل لينش إلي الدويتشه بنك واحد فقط هو الهندي آنشو جين والذي أصبح رئيسا مشتركا لمجلس إدارة البنك وعمره 50 عاما.
وآنشو جين هو خبير في مجال المشتقات التي يحولها البنك إلي أوراق مالية تباع للعملاء بصرف النظر عن قيمتها الحقيقية فيما بعد. وهذه المشتقات كانت سبب الأزمة الشديدة التي حلت بالإقتصاد العالمي عام 2008.
والآن وقد عرفنا أن هذه الممارسات الغير مشروعة في مجال التهرب من الضرائب قد تم كشفها ودفع غرامتها في الولايات المتحدة بصفة أساسية وفي بريطانيا بصفة فرعية، وعرفنا أيضا أن البنك قد خسر في دعوي قضائية أقامها ضده بنكان أمريكيان للإستثمار العقاري بسبب أوراق مالية مرتبطة بعقارات ليس لها قيمة الأوراق واتهم فيها البنك الألماني بالتحايل وتمت تسويتها بأن دفع البنك مبلغ 1.9 مليار دولار لهذين البنكين فقد تقدم المحامي الأمريكي دانيل بروكيت المنتصر في هذه الدعوي ضد البنك الألماني بدعوي جديدة في عام 2015 ضد الدويتشه بنك تتعلق بتلاعبه في أسعار الذهب خلال العقد الماضي بحيث أنه تسبب في خسارة المتعاملين في مجال المضاربة علي الذهب. وهذه الدعوي لم تبدأ بعد ولكن إجراءات جمع المستندات وطلبها قد بدأت بالفعل عملية جمع الأدلة Discovery. كل هذا بالرغم من أن البنك قد إنسحب من مجال العمل في المضاربات علي الذهب !!
ولكن الدعوي الأكبر والتي تنتظر البنك الألماني في بريطانيا هي دعوي إبطال كل التعاملات التي قام بها البنك خلال العشر سنوات الماضية بسبب التلاعب في أسعار الفائدة عن طريق ال Libor وهي الدعوي التي قد تعصف بالبنك بأسره لأن أساس الدعوي هو إرجاع الأمور إلي ما كانت عليه قبل تنفيذ عقود تلك المضاربات لأن الغش يفسد كل شىء !! Fraus omnia corrumpit
وبهذه الدعوي لو أنها قبلت يكون البنك قد خطا الخطوة النهائية لإفلاسه لأن كم التعويضات المرتبط بالتعاملات التي وقعت خلال كل هذه المدة هو كم هائل لن يقدر عليه أي بنك. بالطبع لن تعود المعاملات وكأنها لم تكن ولكن لو أن هذه القضية قد قبلت فسوف تقصم القيمة الهائلة للتعويضات ظهر البنك. ولعل هذا هو السبب المباشر لاستقالة رئيسي مجلس الإدارة مع التشديد في الإعلان عنها علي أن الهندي آنشو سوف يغادر منصبه فورا بينما يبقي الألماني فريتشن لمدة عام قادم.
واستقالة رئيسي مجلس الإدارة جاءت مفاجئة للجميع في أسلوبها حيث أن المديرين كانا يبدوان مليئين بالثقة قبل ذلك بستة أسابيع فقط. وهي تلقي ضوءا علي جانب هام من جوانب الحياة الإقتصادية في عالم ما بعد الحرب الباردة وهو جانب النصب بالقانون.
إن الإستثمار البنكي كما شهده العالم في الفترة من 1992 إلي 2008 هو عمل من أعمال النصب الصريح ولعل كل هذه الأحداث تدفع المشرعين في الدول لكي يتحوطوا في إصدار تراخيص عمل أمثال هذه البنوك التي لا تنفع أحدا إلا موظفيها وتضر بالإقتصاد القومي ضررا بليغا.
فالذي يحدث هو نقل منظم للثروة من جيوب أصحابها الذين تعبوا في جمعها وتنميتها عبر العقود الطويلة ثم قاموا بإيداعها لدي البنوك طمعا في الحصول علي عائد محترم يقيهم شر الحاجة في السن المتقدم أو يجعلهم غير مضطرين للقبول بأعمال لم تعد تناسب سنهم الذي تخطي عمر الشباب.
ولهذا تحرص البنوك جميعا علي عدم التفريط في أعضاء فريق الفرع الإستثماري لأن هذا الفرع هو جلاب المكسب وليس أي فرع آخر.
والبنوك أصبحت في عملها تعتمد علي الفرع الإستثماري وتنقل إليه إن أمكن حاصلاتها من مدخرات المودعين. وهذا النقل هو بالضبط ما كان يمنعه قانون Glass Steagal Actالذي سنه الكونجرس وأصدره الرئيس روزفلت عام 1933 ليمنع الخلط بين مجالات العمل المصرفي وليحافظ علي ودائع المواطنين. ولكنه أعيد فألغي عام 1999 علي يد الرئيس كلينتون وهو نفس العام الذي شهد بداية الفقاعة التي إنفجرت عام 2000 وسميت بفقاعة الإنترنت ولم تكن سوي بروفة لما حدث من أزمة حقيقية عام 2008.
.
ونقل الثروة بهذه الطريقة الإجرامية من جيوب أصحابها إلي جيوب مديري البنوك هي عملية تبدو في ظاهرها قانونية وسليمة إذ أن المودع يوقع إقرارا بأنه عارف ومدرك للمخاطر الإستثمارية.. وهذا الإقرار شرط وضعه المشرع قبل فتح تلك الحسابات لكي يحمي المواطنين.
ولكن المشكلة تقع أولا في طبيعة تلك المشتقات التي لا يفهم أحد ماهي وكذلك في التلاعب بسبب القدرة علي تحريك مبالغ هائلة في وقت قصير من وعاء للآخر مما يجعل الغواية هائلة والتلاعب سهلا. وهو ما وقع فيه الدويتشه بنك.
ثانيا فإن المشكلة تقع في سيطرة روح كاسحة من الجشع علي العاملين في هذا المجال وذلك بسبب صغر السن وسعة السلطة الممنوحة لهم والقدر الكبير من الحوافز التي تصرف لهم في حال نجاحهم.
ومحاكم ألمانيا أصبحت مليئة بالقضايا المرفوعة من "الآخرين"الذين خسروا مدخراتهم في أوراق لبنوك عرفنا فيما بعد أنها مشبوهة مثل ليمان براذرز والتي لا تساوي شيئا وليس لها أي غطاء حقيقي.
وهذا الذي تعيشه الحياة المصرفية الإقتصادية حول العالم الآن مركزه كان الولايات المتحدة ثم إنتشر منها إلي بقية العالم الغربي والشرقي وهو بالضبط ما كان ألفريد هرهاوزن يحذر منه منذ ربع قرن.
المشكلة باختصار هي ضعف الدولة وجشع البنوك..