الحقيقة أن مصطلح "الغرب"هذا لم يكن موجودا إلا في المرحلة أعقبت نشأة البروتستانتية في أوروبا خلال القرن السادس عشر. فتمدد الدولة العثمانية "المسلمة"إلي داخل القارة الأوروبية "المسيحية"أوجد نوعا من الشعور الأوروبي الغريب والذي لا يمكن وصفه عن طريق بعد واحد، فهو لم يكن شعورا دينيا خالصا ولم يكن شعورا قوميا خالصا وكذلك لم يكن تعبيرا عن رغبة في التحكم الإقتصادي في مقدرات العالم في ذلك الوقت، بل هو كان خليطا من كل تلك العناصر مجتمعة.
فعقب حصار فيينا من جانب العثمانيين وهبّة ملك بولندا لنجدتها في اللحظة الأخيرة بعد أن كانت قد إعتبرت في عداد الساقطين في يد الأتراك بسبب تقاعس الدول الأوروبية الأخري وعلي رأسها فرنسا عن نجدتها تبدت للأوروبيين فوائد الإرتكان إلي قليل من الدين في حشد الجيوش لتحقيق إنتصارات عسكرية ذات منافع إقتصادية. وهذه الفترة هي أيضا ما شهدت تمددا إستعماريا في شرق آسيا (إندونيسيا الآن) علي يد الهولنديين وفي شمال أمريكا ايضا علي يد الهولنديين وفي جنوب القارة الأمريكية علي يد البرتغال والإسبان وجميعهم كانوا يقولون بأن هدفهم هو نشر كلمة الرب (المسيحية).
وهي هجمة تالية للهجمة الأولي التي عرفها الشرق من قبل تحت إسم الحملات الصليبية، ولكن الفرق يقع في أن الغرب كان هذه المرة مستعدا بالعلوم والمعارف والخديعة إلي جانب السلاح، أما الدين فقد كان دوره فرعيا هذه المرة، خلافا للمرة الأولي عندما كان الحماس الديني يؤجج كل شىء.
وفي هذه الفترة وقبلها أيضا تنبهت الدول الأوروبية المختلفة إلي أهمية الإمتيازات التي يحصل عليها تجارها في دول غريبة بعيدة مثل مصر المملوكية ثم العثمانية والكويت والشام ثم جاء الإستيلاء علي الهند من جانب البريطانيين خطوة هامة في سبيل إنشاء ما يطلق عليه حتي اليوم "الغرب".
وقد عرفنا من خطابات فولتير إلي القيصرة كاترينا في روسيا كيف كانت النظرة الأوروبية المثقفة في ذلك الوقت إلي الأتراك والمسلمين و"الشرق"بصفة عامة.
ثم جاءت الثورة الفرنسية التي كانت تعادي المسيحية ولا تعترف بها اساسا يصلح لإنشاء الممالك وكان الاساس لديها هو مبادئ الثورة المعروفة الحرية والإخاء والمساواة. بيد أن هذه الثورة قد أخمدت عقب هزيمة قوات الثورة بقيادة نابليون بونابرته وإنعقاد مؤتمر فيينا في نفس عام 1815 لكي يعيد الأوضاع في أوروبا إلي ما كانت عليه قبل تلك الثورة.
وقد ظل هذا الغرب متنازعا علي زعامته حتي فازت بها بريطانيا بدون منافس يعتد به وذلك منذ 200 عام بالضبط عندما هزم نابليون هزيمة نهائية أنهت المنافسة الفرنسية علي هذه الزعامة بصورة أبدية.
إلا أن الايام قد جاءت بكتلتين كبيرتين تجعلان من إنجلترا قزم غير جدير بالزعامة، ألمانيا الموحدة عام 1871 والولايات المتحدة التي خرجت من الحرب الأهلية لكي تتحول بعدها مباشرة إلي عملاق إقتصادي ينمو بسرعة كبيرة فيما بعد عام 1865 الذي سجل نهاية الحرب الأهلية.
وهكذا وجدت بريطانيا نفسها في موقف صعب حيث كانت زعامتها مهددة بالتآكل بسبب هذين المنافسين العتيدين. وكانت المانيا هي الاقوي عسكريا حيث أن القيصر الألماني الشاب فيلهلم الثاني عقب توليه عرش البلاد في عام 1888 إتجه بكل قوته إلي بناء اسطول ألماني ينافس به الأسطول البريطاني بالإضافة إلي قوة عسكرية برية كان يعمل لها حساب كبير. وكان أن إتجه التفكير البريطاني إلي التوجه محاولة حصار ألمانيا سياسيا أولا فجاء الإتفاق الودي بين الغريمتين القديمتين بريطانيا وفرنسا عام 1904 لكي يوحد جهودهما وينهي خلافاتهما إلي الابد ليقفا في مواجهة مقبلة ضد المانيا.
وهكذا أصبح "الغرب"هو بريطانيا وفرنسا مجتمعتين.
وبهذا الوضع وقعت أحداث الحرب العالمية الأولي التي خاضتها بريطانيا بلا تردد إلي جانب فرنسا حليفتها الجديدة ليس حبا فيها وإنما رغبة في الإجهاز علي القوة الألمانية الإقتصادية العسكرية الهائلة التي كانت تتمدد في كافة أرجاء الأرض.
إلا أن المانيا لم تكن علي هذه الدرجة من السهولة فقد إستطاعت الإيقاع بالحليف "الغير غربي"للغرب وهو روسيا عن طريق تدبير الثورة البلشفية داخل روسيا القيصرية حتي نجحت في إخراج روسيا من الحرب بصلح بريست ليتوفسك الذى أنهي وجود روسيا كطرف محارب في أوائل عام 1918.
ولكن..
ولكن العملاق الآخر الصاعد كان قد بدأ في الإستيقاظ وعرف أن هناك قوة عظمي قد بدأت في الترهل وآن موعد ميراثها قد حل فلم يتردد الرئيس وودرو ويلسون في اللحاق بقطار المحاربين ولو متأخرا عن البداية وفوجئ الألمانب بمليوني جندي أمريكي يقفون علي أرض فرنسا مستعدين للقتال ضد الجيوش الألمانية بمصاحبة أسلحة لم يرها أحد من قبل هي الدبابة والطائرة.
وهكذا أعيد تعريف "الغرب"ليصبح بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة.
إلا أن إعتبارات سياسية أمريكية داخلية تسببت في عدم متابعة الولايات المتحدة لطريق صعودها للزعامة الدولية عقب الحرب العالمية الأولي مباشرة حيث أن رغبة كل من فرنسا وبريطانيا في إهانة وإذلال المانيا بعقوبات إقتصادية قاسية جعلت الإدارة الأمريكية تخرج من مؤتمر فرساي مفضلة أن تعود إلي أرض الميعاد علي الجانب الآخر من الأطلنطي منتظرة فرصة أفضل للدخول من جديد إلي الزعامة.
والواقع أنه لا توجد فروق ثقافية كثيرة ولا حتي قليلة بين كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا في الجوهر، ولكن الرفض الأنجلو فرنسي لأي تكامل أو حتي تقاسم مع ألمانيا كان هو ما أنتج النظام النازي في ألمانيا عام 1933 حيث أن المانيا كانت تشعر أن نصيبها من النفوذ والاسواق العالمية لا يتناسب مع قدراتها ولا مع نصيبها من العطاء الحضاري ولذلك تمردت علي أحكام معاهدة فرساي وأصبحت الواقعة وشيكة بعد أن مزق هتلر مواثيق تلك المعاهدة وخرقها جهارا نهارا بإنشاء جيش ألماني لم يسبق له وجود.
وهنا يكمن الخطأ التاريخي لكل من فرنسا وبريطانيا، إذ أنهما كانا يرفضان بقوة أي تقاسم للقوة مع ألمانيا رغم كونها الثقل السكاني والإقتصادي والعسكري والعلمي الأكبر في أوروبا في هذا الوقت.
وهكذا تلبدت السماء بغيوم حرب جديدة كان يمكن تفاديها من قبل كما حذر السيد جون ماينارد كينز الإقتصادي البريطاني الشهير والذي نبه الحلفاء المنتصرين في الحرب الأولي أن محاولة كسر ألمانيا بعقوبات قاسية لن تنتج سوي فوضي في العالم بأسره لأن هذه القوة الإقتصادية الكبيرة لا يمكن إهمالها أو تهميشها عقابا علي حرب ساهم الجميع في ذنب بدايتها.
والحقيقة أنه يذكر لإدارة الرئيس الديموقراطي فرانكلين روزفلت أنه كان من أوائل من تنبهوا مبكرا إلي المكانة التي يمكن للولايات المتحدة أن تحصل عليها لو أنها دخلت الحرب لتقلب الموازين مرة أخري.
ويلاحظ المرء ذلك في طريقة إدارته للحرب علي جبهتين وفي دعوته لمؤتمر بريتون وودز بعد اقل من 4 أسابيع من تلقيه أخبار نجاح إنزال الحلفاء علي شواطئ النورماندي لكي يضمن سيادة العملة الأمريكية علي الاسواق وأخيرا في بعد نظره في شأن بترول الشرق الأوسط الذي ربما كان آخر ما ختم به حياته السياسية إذ أنه توفي قبل نهاية الحرب علي جبهة الأطلنطي بشهر واحد فقط.
كذلك فإن هذا الرئيس الأمريكي هو الذي نادي إلي إنشاء منظمة دولية تكون اصوات الدول فيها متساوية بغض النظر عن ثقلها المالي أو السكاني أو العسكري بل وأعطاها بنفسه إسمها وهو نفس المصطلح الذي كان يطلق علي التحالف بين كل من أمريكا وبريطانيا والإتحاد السوفيتي، الأمم المتحدة.
وبإنشاء حلف شمال الأطلنطي عام 1949 أصبح الغرب متسعا أيضا لكل من تركيا واليونان ثم بدخول ألمانيا ذلك الحلف عام 1955 أصبحت منتمية للعائلة "الغربية"، ناهيك عن أن اليابان علي الجانب الآخر من العالم قد تم إدخالها ايضا إلي التحالف الغربي إلي جانب كوريا الجنوبية وبذلك نشأ الغرب الذي نعرفه اليوم، الزعامة للولايات المتحدة بلا منافس والطاعة للآخرين بلا نقاش ولا مجادلة.
وبين كل هذه الأحداث إنضمت قوة جديدة إلي المعسكر الغربي ولكن دون قيود ولا شروط ولا إتفاقيات، بل هي عضو في كل نشاط غربي سواء كان رسميا أو غير رسمي، إنها إسرائيل.
ثم كان الإصرار الأمريكي الهائل علي توسيع حلف شمال الأطلنطي شرقا ليشمل كل دول حلف وارسو القديم عدا روسيا التي أصبحت جارا لصيقا 'للغرب".
وبالطبع لا يمكن إغفال الجزء الجنوبي من الغرب وهو أستراليا ونيوزيلاند، أي أن ما يطلق عليه "الغرب"هو تكتل من دول تمسك القطبين وتتوزع في الشرق والغرب وعمادها السكاني هو في أغلبيته الكاسحة من الأصل الأوروبي الأبيض مدعوما ببعض السود في الولايات المتحدة بالإضافة إلي اليابان.
واليابان بالذات لها وضع غير معتاد في التحالف الغربي حيث أن الفروق الثقافية والدينية والعرقية لا يمكن إغفالها. فاليابان كانت الدولة الوحيدة التي هاجمت الولايات المتحدة علي أرض موانيها في عام 1941 وكانت الدولة التي خشي الأمريكيون أن تقوم بغزو بلادهم عقب تلك الغارة الجوية وهي البلد الوحيد الذي تم تجربة القنبلة الذرية مرتين علي أرضه. وكذلك هو البلد الوحيد الذي تتفشي فيه منذ عقود ظاهرة إغتصاب الفتيات من قبل الجنود الأمريكيين المتمركزين علي أرضه رغم أن كل دول التحالف الغربي الأخري بها أمثال هذه القواعد التي تغص بالجنود الأمريكيين. وهو علي ما يبدو قرينة علي عدم تمتع اليابان في عيون الأمريكيين بمركز الشريك المتكافئ.
وبذلك أصبح الغرب يشمل العالم الأول الصناعي الذي يحتفظ وحده بثلاثة أصوات فيتو في مجلس الأمن وله مجتمع أكبر ترسانة عسكرية شهدها التاريخ الإنساني مؤيدة بمؤسسة مالية ومصرفية تتحكم في كل اقتصاديات العالم عن طريق البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تساندها آلة إعلامية هائلة تقوم وحدها بتغطية كل أحداث العالم عن طريق وكالات الأنباء الغربية وشبكات التليفزيون وحديثا الانترنت الأمريكي. وهي التي تحدد ماذا بعرف المواطن العالمي ومتي يعرف وبأي أسلوب!!
وأحدث من كل ذلك إمكانية الاطلاع علي أفكار الناس في كل العالم عن طريق تويتر وفيس بوك..
هذا هو الغرب..