تأليف : محمد السويسي
بدأت الامور تتوضح وتتكشف اكثر فأكثر في سوريا منذ بدء التدخل الروسي العلني بطيرانه ضد مواقع المعارضة السورية بما فيها الجيش الحر .
إذ ان هذا التدخل الروسي يختلف تماماً في نظرته واهدافه عن اسلوب التدخل الإيراني العشوائي الطائفي المذهبي في سوريا .
والفرق ان روسيا دولة كبرى نظامية مستقلة تعمل على حل الأزمة السورية بالتوافق والتفاهم مع الغرب للبقاء على سوريا موحدة بإعادة بناءها وفق نظام الدولة التي قد ينفرط عقدها الى دويلات عدة من جراء الحرب القائمة فيها لتصبح مقراً للإرهاب العالمي فيما لو اطيح سريعاً بالأسد الذي لم يقترح بديل له من قبل الدول الكبرى حتى الآن مع إصرار روسيا على وجوده . خاصة وان عناصر إرهابية قد تجمعت في سوريا من مختلف انحاء العالم ومن روسيا و البلدان الإسلامية المحيطة بها ومن افغانستان والعراق بتشجيع وتمويل من إيران معظم الأحيان لسؤ تدبير وقصر نظرحكامها بتدخلهم فيما لايعنيهم او يفيدهم حاضرا اومستقبلاً .
إذ أن إيران تهدف من هذا التدخل بالشأن السوري والإستقطاب المليشيوي الإرهابي التكفيري الى دعم الرئيس السوري تحديداً بتشابه مع نظامها ،لان نظامها"ثوري "وفق تعريفها قائم على المليشيات المسلحة التي تعتبرها أفضل من الجيش النظامي في التحرك والمرونة والإنتشار عند الضرورة ، فكان لديها الحرس الثوري والباسيج وتنظيمات أخرى بأسماء مختلفة ، تفوق قوتها ونفوذها قوة الجيش ونفوذه ، دعماً للنظام في قمع اي تظاهرة ضده او اي تحرك للمعارضة داخل البلاد .
وقد اتخذت إيران من النظام المليشياوي المذهبي الذي رسخته في العراق ، نسخة عن نظامها بكل سلبياته إنموذجاً لتطبيقه في سوريا رغم كل مافيه من مآىس للشعب العراقي والإيراني ، إلا انه كان ملائماً بالنسبة اليها وفق مفهومها بما انه يتيح لها التدخل والنفوذ من خلال هذه المليشيات التي خلفتها فيه وأعاثت فساداً ولاتزال في ارض العراق اثناء الإحتلال الاميركي وبعده .
وبالمقارنة بين احداث سوريا والعراق فإنا نلحظ الفرق في النظرة والأسلوب بين اميركا وروسيا .
فاميركا شجعت إيران ودعمتها عسكرياً اثناء غزوها للعراق على بناء نظام مليشياوي طائفي مذهبي عنصري إرهابي لتسهيل تقسيمه مذهبياً وعرقياً ، لذلك فإنه لازال في فوضى وتراجع غير مستقر منذ العام 2003 وحتى الآن رغم إنسحاب اميركا منه في العام 2011 لتبقى المليشيات المذهبية الموالية لإيران تعيث فساداً فيه بما يعيق نهوضه ونموه بما ادى الى انتفاضة شيعية ترجمت باسابيع من التظاهرات في بغداد ضد إيران داعية الى رفع الهيمنة الإيرانية ومليشياتها عنه محملة المسؤولية الى طهران بكل ماحل في العراق من فوضى وتخلف وإرهاب وفقر وتقسيم .
بينما روسيا في تدخلها في سوريا ، المغاير عن التدخل الاميركي في العراق ، فإنما تهدف الى اعادة بناء الدولة على أسس وطنية بعيدة عن الطائفية والمذهبية لانها الطريقة الوحيدة ، وفق تصريحاتها ، للمحافظة على وحدة سوريا ارضا"وشعباً ومؤسسات ،رغم تفتت كل شيء ، مصرة على موقفها هذا لئلا تتكرر التجربة الليبية والعراقية في سوريا بما فيها من تفتت وانقسام وفوضى منذ سنوات وحتى الآن .
ومن هنا كان الإفتراق في النظرة بين اميركا وروسيا في الشأن السوري والعربي بشكل عام .
إذ ان اميركا بتشجعيها المليشيات التكفيرية في العراق وسوريا قياساً على تشجيعها تنظيم القاعدة في وقت ما ورعايته ، إنما تسعى الى تفتيت كل من ليبيا والعراق واليمن وسوريا وليبيا وسائر العالم العربي ، وفق ممارساتها والمخططات التي سبق ان نشرت في الصحافة الغربية ، على اسس طائفية ومذهبية وعنصرية دعماً للعنصرية الإسرائيلية الطائفية ، بما يتلائم ومصالحها الإقتصادية المستقبلية ومصالح الصهيونية العالمية وإسرائيل .
وبذلك تلتقي النظرة الاميركية مع نظرة ايران في التقسيم والتفتيت للدول العربية وإن اختلفت المرامي والاهداف . من اجل هذا تحالفت واشنطن مع طهران وتعاونتا عند غزوالعراق العربي في العام 2003 لتختطفه وتسلمه فيما بعد لإيران الفارسية ، كما سبق ان فعلت بريطانيا بفلسطين وسلمتها لليهود ، لاتمام المشروع الأميركي التقسيمي فيه ، حيث لازالت واشنطن على دعمها لإيران من اجل هذا الهدف مع تواجد قوى اميركية باسلحتها الثقيلة وطائراتها في بغداد لدعم وإتمام المشروع التقسيمي المذهبي الإيراني العنصري العرقي للعراق بشكل فوضوي بتهجير المسلمين السنة من مناطق الى اخرى لتغيير ديمغرافية بعض المدن والقرى لصالح المليشيات الشيعية الموالية لإيران بما يؤدي الى مزيد من المآسي للشعب العراقي بكل طوائفه لان هذا التسيب وهذه المخططات لامعنى لها مطلقاً في بناء الحضارة والإنسان او بناء العراق سوى العدوان الأميركي وعنهجيته وقصر نظر حكام إيران الذي يحاولون باعمالهم تلك تقربهم من اميركا لتعترف بهم كدولة عظمى وفق تصريحاتهم الطفولية المتكررة .
وقد غاب عن رجال الدين الفرس ان الدول العظمى تبنى باقتصادها وقوة نقدها قبل سلاحها وعسكرها وهذا ماتفقتر اليه إيران ، علماً انها الأكثر تضررا على الإطلاق مما يجري في العراق وسوريا .ولكن بما ان نظامها نظام ديكتاتوري لامكان فيه للإصلاح اوالنقد ، فإنها عاجزة عن تبيان الصواب من الخطاً في سياساتها الداخلية والخارجية بما انها نظام شمولي قائم على حكم الفرد المعصوم الذي يستمد حكمه وسلطاته من الإلهام الإلهي الغيبي ، في نظرة ظلامية عفى عليها الزمن ، نابعة من القرون الوسطى لم يعرفها الإسلام . وعليه فإنه نظام لا يقبل اي نقد او نقاش او إصلاح .
ومن هنا التباين والإفتراق ايضا بين النظرة الروسية والإيرانية الى الأزمة السورية . إذ ان إيران تريد تطبيق كل سلبيات العراق على سوريا ، فبدلاً من ان تعمد الى تقوية الجيش السوري ودعمه بالأعتدة والسلاح وإقرار اصلاحات دستورية تتيح المشاركة لكل الأطياف السياسية في سوريا على اسس ديمقراطية عادلة لاتاحة الإستمرار للنظام ، فإنها عمدت الى عكس ذلك تماماً .
إذ انها حرضت الأسد وأعانته على استعمال اقصى حالات العنف المسلح ضد التظاهرات السلمية التي انطلقت من مدينة سوريّة في ربيع العام 2011 ، التي حاول الرئيس الأسد احتواءها مع تغييرات إدارية وعسكرية إرضاء للمتظاهرين ، إلا ان النفوذ الإيراني في البلاد الذي كان قد تغلغل في سوريا منذ العام 2000 عطل كل جهود الأسد في استيعاب مطالب المتظاهرين مع انتصار الفريق الإيراني في البلاد على محاولته رأب الصدع بحيث سقط في مستنقع الفوضى الطائفية باعمال القمع المذهبي من طائفته التي جندتهم إيران بسخاء اموالها بحيث زاد تورطه في إرهاب الشعب وقمعه بما لاحاجة له فيه .
وبالطبع فإن هذا التجاهل الإيراني الذي انعكس انهياراً في النظام الأسدي كان لابد من ان يواجه من بعض العقلاء من داخل النظام بمحاولات تصحيحية إصلاحية ، ردت عليها إيران التي اصبحت لها الكلمة الاولى في البلاد مع تعاظم نفوذها ، بعلميات تصفية جسدية لكل معارض لتدخلها في سوريا . فكان اغتيال كل اعضاء خلية الأزمة من صناع القرار المقربين من الاسد وغيرهم ، وبذلك سقطت سوريا في حضن إيران بما في ذلك من فوضى وإرهاب وجهل .
هذه الاسلوب الإيراني القائم على القوة والإرهاب في معالجة الأزمة السورية لايتطابق والنظرة الروسية التي عرضناها آنفاً .لذا فإن الرئيس الاسد مع تصاعد سيطرة المعارضة العسكري ووصولهم الى مشارف دمشق جعله يتخلى عن الحماية الإيرانية وينحاز الى الروس ودعوتهم للدخول الى سوريا وفق معاهدة الدفاع المشترك بينهما للدفاع عنه وعن النظام ، بما سهل مجيئهم بطائراتهم ودباباتهم وجيوشهم واساطيلهم وتوسيع قاعدتهم العسكرية البحرية على الساحل السوري لتقوم الطائرات الروسية اعتباراً من اول تشرين الاول / اكتوبر 2015 بقصف كل مواقع المعارضة بما فيه الجيش الحر تمهيداً لفرض رأيهم في إخراج سوريا من مأزقها بالمحافظة على وحدة اراضيها ونظامها ، وإن كان ذلك قد اضحى متعذراً مع اعتراف واشنطن بدولة داعش في آب من العام 2014 ورسم حدودها بين سوريا والعراق ، ومع ذلك فإنها تتعرض للقصف من اميركا وحلفائها مع اصرار هذه التنظيم التكفيري على التمدد خارج حدودها نحو الأكراد بما يتعارض مع مصلحة اميركا .
إلا أن روسيا تهدف وتسعى آنياً الى الحفاظ على وحدة ماتبقى من سلطة للنظام للحفاظ على الإستمرار في دفع الرواتب والأجور للموظفين في كل انحاء سوريا وتوزيع الدقيق و الكهرباء والمياه وجميع خدمات الدولة .لان انفراط عقد الدولة قد يؤدي الى انهيار كل المؤسسات والإدارة مما يزيد من الفوضى والهجرة كما حصل في العراق وليبيا ، وفق رأيها .
لذا فإن التدخل الروسي كان مشروطاً على الأسد بإطلاق يد روسيا في الإصلاحات التي تؤدي الى الإبقاء عليه في منصبه ، وقد اقترب الخطر منه كثيراً مع عجز إيران ومليشياتها عن وقفه على مدى اربع سنوات كاملة .
وقد وافق الأسد ، مكرهاً اخاك لابطل ، على كل الشروط الروسية مقابل النجاة بنفسه إذ لم يعد له من خلاص للخروج من هذا المأزق الذي ورطته فيه إيران مع فشلها المتنامي في سوريا بما زاد من تمزيقها وتصاعد الإرهاب فيها .
وعليه فقد اشترطت روسيا انهاء كل المليشيات الطائفية والمذهبية التي شكتلها إيران في وقت سابق لانها سبب تفاقم الأزمة السورية وتصاعدها ، إذ لم يكن من حاجة لها او ضرورة مع وجود الجيش السوري النظامي ،كمدخل لإنهاء النفوذ الإيراني في سوريا .
وذلك ضروري لتحسين صورة الأسد امام العرب لانهاء الازمة والتفاوض بوجوده في السلطة في حال انهى النفوذ الإيراني في سوريا ، بما يتيح للروس فيما بعدم باجتثاث تنظيم داعش والقضاء عليه بتصفية قياداته بما يحد من النفوذ الأميركي والإيراني في المنطقة ، على أن يتم توطين عناصره في سوريا والعراق لاستحالة إعادة معظمهم الى بلدانهم التي ترفض عودتهم يما يحملون من افكار إرهابية خطيرة على انظمتهم ، خاصة العناصر الروسية والشيشانيىة والأفغانية .
لذا عمدت روسيا من قبل البدء في قصفها للمعارضة بكل أطيافها واتجاهاتها دون تمييز الى إحلال قوة روسية مدرعة ومجوقلة في القصر الجمهوري في دمشق بديلاً عن القوة الإيرانية من الحرس الثوري التي استبعدها الأسد نهائياً عن القصر بعد ان بدأ يتوجس خيفة منها مع استبعادها للقوة السورية التي كانت حول القصر من الحرس الجمهوري وضباطه في إجازات مفتوحة .
ومن ثم الطلب الى إيران الخروج من الساحل السوري وحل اربعة عشر مليشيا مذهبية شكلها الحرس الثوري من "الشبيحة " لتكون رديفاً للجيش السوري بدءاً، ثم لتحل محله مع انفراط عقده وتعاظم تسليحها بحيث لامسؤولية عن اعمالها في كل ماترتكبه من جرائم ومجازر وتصفيات مذهبية وطائفية واعمال تهجير بإشراف وتوجيه إيراني .
وقد استقبلت المناطق الساحلية العلوية طلب الاسد بحل هذه المليشيات بفرح ظاهر ، إذ كان الحرس الثوري يعامل هذه المناطق الموالية للاسد بقسوة بالغة بفرض التجنيد الإجباري المليشيوي عليهم ودفع ابنائها المجندين للمواقع الأمامية دعماً لمليشياتها المذهبية العراقية واللبنانية في سوريا مما اثار سخط العلويين .
وقد كان الاسد من قبل دخول القوات الروسية عاجزاً عن مد يد المساعدة اليهم او نجدتهم و الدفاع عنهم امام الغطرسة الإيرانية مع هيمنتها على كل مرافق الدولة في سوريا بما يشبه الإحتلال . لذا فإن سكان المناطق الساحلية استقبلوا التوسع الروسي استقبال الفاتحين بفرح ظاهر لتخلصهم من التجنيد الإيراني الإجباري بما دفعهم لتمزيق صور القيادات الإيرانية التي كانت في مناطقهم وإغلاق كل مكاتب الحرس الثوري وتلك الموالية لإيران تحت عناوين مختلفة في الساحل وطردهم منها وتعليق صور الأسد وبوتين مكانها ، ليعود الأمر الى ماكان عليه قبل تولي بشار الاسد السلطة . وبذلك تناقصت توابيت الموت التي كانت تفد يومياً الى اللاذقية وطرطوس والقرى المحيط بهما الى حد كبير .
هذا الدخول الروسي ومانتج منه من استبعاد للنفوذ الإيراني دفع اللواء حسين همداني قائد الحرس الثوري الإيراني في سوريا الى الطلب من حزب الله ومن المليشات التي شكلها الى مقاومة الإحتلال الروسي وطرده من سوريا في بيان علني ، مما اغضب الرئيس الأسد واحرج القيادة الإيرانية التي ارسلت خلف همداني ، الا انه ظل على موقفه لايتزحزح ، مما دفع القيادة الإيرانية الى التخلص منه سريعاً لرأب الصدع مع بشار الأسد والروس خوفاً من إخراجهم نهائيا من سوريا واستبعادهم من اي حل يطرح بالشأن السوري .
لذا فإن التدخل الروسي هو محاولة من موسكو لتسويق مشروعها في الشأن السوري الذي كانت تنادي به منذ سنوات لإنهاء الأزمة وتحاول اليوم فرضه عسكريا بتغيير موازين القوى على الأرض بعد ان عجزت عن تسويقه ديبلوماسياً بالحوار مع اميركا والأطراف المتحاربة والذي يقتضي القضاء على كل المليشات والمعارضات في سوريا للجلوس على الطاولة والقبول بالطرح الروسي على ان يبحث مصير الأسد فيما بعد .
إلا ان وجود الأسد على راس السلطة هو العقبة الكأداء الوحيدة امام القبول بالطرح الروسي ، من قبل الغرب والعرب ، لتمسك موسكو به ولو لفترة مؤقتة ، لأن جميع الأطراف ترفض ان يكون جزءاً من الحل .. وهنا العقدة .
بينما تعتقد روسيا وتصر انه لامجال للحل إلا بوجود الأسد، ولو في مراحل الحل المؤقت الى ان يستقر الوضع ، ليصبح بالإمكان بعدها إجراء انتخابات على كامل الأراضي السورية تحت سلطة الدولة الموحدة بإشراف دولي أممي لانتخاب رئيس جديد ووضع دستور مقبول من كل الاطراف .