تعلمنا منذ الصغر فى مدارسنا أن تاريخ العصور الوسطى فى أوروبا كان مدموغا بطابع التحكم الكنسى فى أمور الحياة اليومية من فكر وتعليم وإقتصاد وسياسة وحريات. وأن تلك الشعوب رزحت تحت الظلم الكنسى وسلطان رجال الدين الذى بلغ مداه حتى تمردت تلك الشعوب وخرجت عن سلطة الكنيسة بل وفى القرن العشرين خرجت عن الدين بأسره ونشأ بالتالى مبدأ فصل الدين عن السياسة.. إنها الكلمة التى تثير خواطر الناس فى كل الشرق الأوسط. العلمانية.
والحقيقة أن الأمور لم تكن أبدا بهذه التبسيط الذى تنضح به كتبنا الدراسية فى مصر حيث تعلمنا جميعا فى الصبا.
فالحقيقة هى أنه كان هناك صراع لم ينقطع بين الملك أو القيصر كممثل للسلطة السياسية من ناحية وبين البابا أو الكرادلة والأساقفة كممثلين للمؤسسة الدينية من ناحية أخرى. وهذا الصراع قد تم حسمه فى النهاية بأن نشأ مبدأ عدم تدخل الكنيسة فى شئون السياسة والحكم وفصل عملها الروحى فصلا شبه كامل عن نشاط سن القوانين (التشريع) أو القضاء أو ممارسة سلطة التنفيذ. وأقول فصلا شبه كامل حيث أن الكنائس فى أوروبا (الغربية) لم تترك لكى تلاقى مصيرها هكذا بعد أن تقرر هذا الفصل، وإنما تساهم الدولة فى دعمها وتقوية رسالاتها عن طريق الوضع القانونى لشخصياتها الإعتبارية حيث تحولت إلى ما يطلق عليه جمعيات عامة يحق لها ممارسة النشاط الإجتماعى وجمع التبرعات وإقامة المشاريع الغير هادفة للربح والتى تغطى فقط تكاليفها. كل هذه المزايا فقط فى مقابل أن تخرج الكنيسة من الحياة السياسية وشئون الحكم وتبقى صوتا للضمير يرتفع فى القضايا الإجتماعية مثل أى صوت آخر للنقابات أو جمعيات رجال الأعمال أو ما شابه ذلك.
والذى يهمنا هنا ليس هو الوضع الحالى وإنما الوضع الماضى منذ دخول المسيحية إلى أوروبا كدين سرى يتم تهريب أفكاره من الشرق لكى يؤمن به البعض من المستضعفين ثم يأخذ فى النمو حتى يؤمن به الإمبراطور قسطنطين ويتحول إلى الدين الرسمى للإمبراطورية التى تنقسم بعد ذلك إلى قسمين شرقى وغربى. وسوف يقتصر الحديث على الإمبراطورية الغربية التى منها وعنها نشأت الكنيسة الكاثوليكية.
فقد كان النظام فى أوروبا مرتبكا بين سلطة زمنية متدرجة من أسفل إلى أعلى يمارسها نبلاء على فلاحيهم وهؤلاء النبلاء يخضعون لأمراء يمسكون بزمام مناطق أوسع والأمراء يخضعون للملك الذى يمارس عليهم سلطة وفى نفس الوقت لا يستطيع أن يخوض حربا ضدهم لأنهم أساس قوته وفى أعلى الهرم الزمنى يجلس القيصر الذى هو ملك الملوك وهو الوريث للإمبراطورية الرومانية التى تفككت فى القرن الخامس الميلادى. هذا على جانب السلطة الزمنية.
أما على جانب السلطة الدينية فقد كان هناك القس فى كل قرية وهو يتبع الأسقف الذى يتسع مجال عمله ليشمل عدة قرى والأسقف يخضع للكاردينال الذىيكون مسئولا عن أمور العقيدة على مساحة أكبر من الأرض وعلى رأس كل هؤلاء يجلس البابا فى روما وهو ممثل القديس بطرس على الأرض.
والظاهر أنه فى حماسة الإيمان الأولى للملوك الذين آمنوا بالمسيحية قرروا السماح للكنيسة بممارسة سلطات واسعة على الأراضى التى كان هؤلاء الأمراء والملوك يحكمونها. وبالطبع بسبب إنتشار الجهل والأمية والعقلية القائمة على الخرافة كان لرجال الدين مركز مرتفع فى المجتمع حيث أنهم يقرأون الكتاب المقدس باللاتينية (كان الكتاب مكتوبا فقط بهذه اللغة التى لا يتحدثها أحد غيرهم) ويستطيعون الكتابة ويفهمون القوانين وبالتالى كانوا بحكم الواقع يمارسون سلطة على الناس تنافس السلطة التى كانت للملوك والأمراء.
فقد كانت لهم إعفاءات ضريبية حيث لا يتقاضى الملك منهم شيئا. وكانت لهم مؤسساتهم الإقتصادية من زراعات وأوقاف يديرونها بمعرفتهم وليس للدولة عليها سلطان. وكانت لهم محاكم تقضى بين الناس خلافا للمحاكم الملكية والمحاكم الإقطاعية، فقد كان الإختصاص متداخلا.
إلا أنه بمرور الوقت بدأ الملوك إعتبارا من القرن العاشر وقبل بدء إرسال الحملات الصليبية، بدأوا يتنبهون إلى قوة مركز الكنيسة وبدأ التنازع حول السلطة بين الطرفين وقد حسم فى النهاية بتمرد من داخل الكنيسة نفسها خرج عنه المذهب الجديد الذى حاربته الكنيسة الكاثوليكية حربا شعواء لتقضى عليه، المذهب البروتستانتى الذى رسخ فى القرن السادس عشر رسوخا مؤكدا بدخول إنجلترا ودول الشمال إلى حوزته.
كما أن الواقع التاريخى يدل على أن الكنيسة التى لم يكن لديها جيش كانت تعتمد على المحاربين التابعين للملك أو للأمراء لكى تفرض سلطتها على المتمردين على العقيدة. بينما كان الملوك والأمراء يحتاجون إلى الكنيسة وسلطتها الروحية لكى يعضدوا من الحق الإلهى الذى كان مفهوما بين الناس أنه حق راسخ لهم يضعهم فوق منزلة آحاد البشر. ولكن هذا الإعتماد المتبادل لم يكن يعنى أبدا توافق المصالح. فكل ملك أو قيصر كان عندما يشعر بقوته ويدرك مدى سلطانه إن كان شخصا طموحا بفطرته، كان يناصب الكنيسة العداء ويشق عليها عصى الطاعة ويحاول إنتزاع ما يستطيع إنتزاعه من مفاتيح السلطة وسبل السيطرة. أى أن الملوك اللاحقين للملوك الأوائل أرادوا تصحيح أوضاع تسبب فيها حماس وعاطفية الداخلين الجدد فى الدين المستورد من الشرق.
ويذكر التاريخ أن البابا الإيطالى جريجور السابع كان قد أصدر فرمانا أو مرسوما كنسيا يحظر على الملوك ترسيم الأساقفة بإسمهم وقصر ذلك على البابا. أى أنه حتى عام 1075 كان الملوك هم من يرسمون الأساقفة أو على أقل تقدير كان ذلك واقعا فى سلطتهم. كما أتبع البابا ذلك الأمر بأمر ثانى فى نفس الوثيقة يجعل من سلطة البابا عزل القيصر، أى ملك الملوك فى الغرب. إلا أن الملك الشاب هنرى الرابع لم يقبل هذه الإستقطاعات على سلطته ورد على البابا خطابه بخطاب فيه حدة تصل إلى حد الوقاحة حيث كتب له :
"إلى الكاهن هيلدبراندت (كان هذا إسمه قبل أن يصبح بابا) الذى إغتصب الكرسى البابوى وملأ الفساد المادى حياته. إلى الجشع الطماع الذى جاء إلى البابوية عن طريق التدليس. إترك الكرسى لغيرك. إترك الكرسى لمن يستحقه"..
فما كان من البابا إلا أن أرسل السفراء على عجل إلى كل الأمراء ممن هم تحت الملك (الذى لم يكن قد توج قيصرا بعد) يطلب منهم سحب قسم الولاء للملك هنرى بسبب فرض الحظر الكنسى عليه من مرسل هذه الرسائل، البابا شخصيا. وقد إجتمع الأمراء وقرروا إعطاء الملك هنرى مهلة عام كامل حتى يخرج نفسه من الحظر الكنسى وإلا سقط إعترافهم به كملك. وهكذا وجد الملك نفسه مضطرا إلى التصرف بسرعة فما كان منه إلا أن ذهب إلى مدينة كانوسا الصغيرة فى شمال إيطاليا حيث كان البابا مختبئا بها خوفا من هجوم الملك عليه. ولكن بما أن الأمراء كانوا يخشون بأس البابا فقد منعوا على الملك هنرى المرور فى أراضيهم مما دفعه لخوض طريق صعب وعر عبر جبال الألب فى فصل شتاء قاسى للغاية عام 1077 حتى وصل إلى أبواب الكنيسة فى كانوسا لابسا أسمالا بالية حافى القدمين فى هذا الصقيع دلالة على رغبته فى التوبة.. وأخذ يطرق الباب من الخارج ولا مجيب له حيث أن البابا حظر على العاملين فى الدير أن يفتحوا له.
وتركه البابا ثلاثة ليالى فى الصقيع والثلج المتساقط بلا طعام ولا شراب حتى قرر فى اليوم الرابع أن يفتح له الباب. والحقيقة أن الوضع الظاهر لهذه القصة يجعل من الملك شخصا خاسرا ذليلا كسيرا.
إلا أن الواقع أن الملك كان هو الأذكى حيث أنه كان يعرف أن البابا بالإضافة إلى منصبه السامى كسلطة دينية إلا أنه أيضا كان يد الله لتنفيذ رحمته على الأرض. وبالتالى لم يكن البابا يستطيع ترك الملك يموت على الباب حيث أن من حقه المغفرة وإلا لجاء تصرف البابا غير متفقا مع مقتضى التعاليم المسيحية. وبالتالى فإن الملك هو الذى ضغط على البابا وليس العكس.
وهذه القصة التى يعرفها القاصى والدانى هى قصة الزحف إلى كانوسا والتى تضرب مثالا على الإذلال.
إلا أن معظم الناس لا يعرفون الجزء الثانى من نفس هذه القصة..
فقد عاد الملك هنرى الرابع إلى بلاده ألمانيا مدعما بغفران البابا وقام بمحاربة كل الإنفصاليين الذين إنتهزوا الفرصة وأعلنوا نقض عهد الولاء له بسبب حرمان البابا له. وعقب أن إنتهى من بسط نفوذه وسيادته على جميع الأراضى التى شقت عليه عصا الطاعة عاد ليهدد نفس البابا فى عقر داره بل وأزاحه من كرسى البابوية ووضع شخصا آخرا فى محله وحدد إقامته فى دير مات فيه وحيدا محسورا لا معين له رغم أنه أعاد إستعمال سلاح المنع ولكنه أخفق فى تلك المرة حيث أن سلاح المنع هذا لا يستعمل كثيرا وإلا فقد قدرته.
وهكذا توج البابا الجديد الملك هنرى الرابع قيصرا على كل أراضى الإمبراطورية الغربية.
وهناك نظر لبعض المؤرخين يقول بأن الدعوة إلى حملات الصليب على القدس كان الغرض منه إبعاد الجيوش المحاربة والفرسان عن الأراضى الأوروبية بسبب ضعف مركز البابا فى مواجهة السلطة الزمنية للملوك والأمراء عقب تلك الهزيمة القاسية للبابا جربجور السابع. ومما يذكر أن الحملات الصليبية قد دعا إليها البابا أوربان الثانى فى عام 1095 أى بعد حادثة كانوسا بثمانية عشر عاما فقط. أى أن ذكريات عزل البابا السابق وتحديد إقامته كانت لا تزال حية وماثلة فى ذهن البابا أوربان عندما كان يعد العدة للحملات الصليبية. وهو مما يدعم وجهة نظر هؤلاء المؤرخين بشأن دوافع الحملات الصليبية.
بل أكثر من ذلك، فبخروج الحملات الصليبية من أوروبا تكوّن للكنيسة جيش يخضع لها مباشرة كان الهدف منه فى البداية حماية الحجيج والقوافل إلى بيت المقدس ثم بمرور الوقت وتقادم العقود تحول هذا التنظيم الحربى الذى يتبع البابا مباشرة إلى تنظيم إقتصادى كبير هو فرسان المعبد الذى كان يستغل الأراضى ويمارس التجارة وأعمال البنوك وكل ذلك بدون دفع ضرائب للدولة التى يمارس على أرضها هذا النشاط مما جعل الملك فيليب الرابع الفرنسى يشتت شمل هذا التنظيم ويصادر أمواله ويقتل قادته ويلفق لهم التهم إلى أن إختفى التنظيم من العمل العلنى. ولم يكتف الملك بذلك وإنما أخرج الفاتيكان من روما كلها وإستحضره إلى فرنسا فى آفينيون حتى يكون كل شىء تحت ناظريه وخاضعا لرقابته فاستمرت الكنيسة الكاثوليكية تعمل من آفينيون لمدة سبعين عاما إلى أن عادت من جديد إلى روما. وهو ما يعد إنتصار جديد للسلطة الزمنية على السلطة الدينية. وتلى كل ذلك الإنتصار الأكبر بخروج طائفة من المسيحيين عن طاعة الكنيسة وتأسيس المذهب البروتستانتى فى النصف الأول من القرن السادس عشر ثم الدخول السريع لملك إنجلترا إلى هذا المذهب وتأسيس الكنيسة الأنجليكانية التى يتربع الملك على قمتها حتى اليوم.
والمقصود من كل ذلك هو القول أن صراع السلطة الزمنية والسلطة الدينية كان صراعا عاتيا فى أوروبا ولم يتوقف يوما منذ أن بدأ فى القرن الحادى عشر.
وهذا يخالف الصورة المتكررة التى أريد لنا أن نعرفها فى مدارسنا فى مصر من أن الكنيسة الكاثوليكية كان لها كل شىء جاهزا ومعدا وما عليها سوى أن تتقدم للحصول على ثمار الحكم الدينى.
وهذه القراءة العربية المسطحة للتاريخ الأوروبى تجرنا إلى موضوع هو من صميم ما يشغل بال الشرق الأوسط منذ 200 عام، وهو علاقة الدين بالحكم.