ربما مرّت سنوات كثيرة على هذا السبعيني، لكن على الأرجح أن ذلك المشهد، بل تلك التجربة، لا تزال ملتصقة بدماغه الذي ما زال متألّقاً على رغم زحف سبعة عقود عليه.
ومن المستطاع وصف تلك التجربة رغم تعقيدها. وعندما عاش لحظاتها المشحونة عاطفيّاً، لم يكن مذهولاً، بل كان حاضِرَ الذِهنْ تَماماً. بدا شارداً، وعيناه تائهتان، فيما انطفأت سيجارة في زاوية فمه، وغرقَ مِعطَفُه الربيعي المائل للصفرة بماءٍ من رَذاذِ شلالٍ قريب. كان ذِهنُه حاضراً، بل مُشْتَعِلاً وربما على التوهجّ الأشد. لكنه كان عاجزاً أيضاً. بالأحرى، ثمة إرباك مَلأ عقلَهُ حينها: أنه عاجز كليّاً عن شيء بسيط تماماً، هو إعطاء وصف لهذا الشلال بأمواجه المتساقطة، وزَخّات الرَذاذِ المُتطايَرِة منه، وتموّجه مع الهواء والصخور.
حينها، فَكّرَ متشل فايگنباوم (مولود في نيويورك 1944)، بأنه يُعتبر عالِماً مُكرّساً في الرياضيات بوصفه مرجعاً أعلى، بل "عالم العلماء"، على رغم أنه لم يتجاوز منتصف عشريناته، وأن كلمته تسري بين علماء"المُخْتَبَر الوطني"في "لوس آلموس"بولاية نيومكسيكو، فتحسم في مسار علوم الرياضيات عالمياً. يكفي القول أنّ "المختبر الوطني"هو المكان الذي جمعت فيه أميركا الفريق العلمي الذي صَنَعَ القُنبلَة الذَريّة في الحرب العالمية الثانية، وهو أيضاً المكان الذي استلهم فيه فايگنباوم الأسس العلميّة لنظرية الفوضى Chaos Theoryفي القرن الماضي. وبقول آخر، وُلِدَت نَظَريّة الفوضىفي نفس مكان ولادة القنبلة الذريّة.
مطّ الزمن
عندما التَحَقَ فايگنباوم بـ"المختبر الوطني"، لم يفكرْ إلا بهذا الأمر. اقترح عليه بعض العلماء أن يشتغل في حلّ مُعضِلات أكثر جدوى من صوغ معادلات رياضية لفوضى الشلال. اقترحوا عليه أن يعمل على إيجاد حلول لمشكلة موجات الليزر، ما يؤدي إلى السيطرة التامة عليها، ما يعتبر قَفزَة عِلمَيّة مُذْهِلَة للبشرية، تَكفل تخليد إسمه علمياً. لكن فايگنباوم انشغل بالأشياء غير المُنْتَظِمة، ومساراتها المضطربة. كان واقِعاً صَريع شَغَفٍ هائلٍ بـ...الفوضى التي رأى أنها أساس حَركَة الكون كله.
مع تعمّقه في العمل، انخطف فايگنباوم من الزَمَن. وقرّر أن يعمل بطاقته كاملة، بل أن يَخرُج من قيود اليوم المؤلّف من مُجرّد 24 ساعة. ألا يمكن مَطّ الزمن قليلاً؟ شَرعَ فايگنباوم في اختلاس بعض من وقت اليوم، لنقله إلى الذي يليه. أحياناً، رُوّعت الشرطة بمنظر رجل يخرج بعد منتصف الليل كي يتمشى، مُناقِلاً سيجارة بين يديه وفمه، في الشوارع الخالية للقرية القريبة من المختبر. وقلّت شهيته إلى الطعام، مع إضطراب نومه ويقظته. تَهَكّم زملائه بأنه يحصل على الفيتامين من السيكارة. ثم أخَذَت قدرته على تحمّل هذا الجهد الهائل، تتضاءل. زاد تبرّمه بأن يستيقظ تحت الضوء الأحمر لشمس الغروب. ثم انهار. تَدَخّل الأطباء. أُنقذ جَسَدَه. كفّ عن مسعاه المستحيل لمطّ الزمن اليومي. لكن شغفه بالفوضى، لم يسكن. من أين تأتي الفوضى، أم أنها أذهاننا هي التي تراها فوضى، بينما هي ربما شيء آخر؟ هل الفارق بين الفوضى والنظام حاسم بمعنى أنهما نقيضان، أم أن العلاقة بينهما أشدّ تَشابُكَاً؟
استلهام الموسيقى والرقص
تذَكّر فايگنباوم شيئاً من أيام دراسته في "معهد ماساشوستس للتقنية". فذات مرّة، خرج ليتمشى. مَرّ بمجموعة من المتنزّهين يرقصون ويغنّون على وقع موسيقى الألماني غوستاف ماهلر، وهي مُحَبّبَة لديه. راقب فايگنباوم الأجساد التي ترقص على الموسيقى المنتظمة الإيقاع. تتحرك أجساد الراقصين بانتظام أيضاً. ابتعد قليلاً، لكنه دأب على التلفّت وَراءه مُراقِباً مَشهَد الراقصين. لاحظ أنه كلما ابتعد أكثر، كلما بدت حركاتُ الرَقصِ لناظريه أقل انتظاماً. تابع الابتعاد والمراقبة. عندما بلغ بُعداً معيّناً، لم تعد حركة الأجساد الراقصة تظهر انتظاماً، بل اقتربت من التشوّش ثم...الفوضى! أيكون هذا أمر الفوضى فعليّاً، بمعنى أنها ظاهرة مُنْتَظمة، لكنها من أبعاد معيّنة، تبدو على غير أمرها فعلياً؟
فَكّر فايگنباوم في أَمْر الرقص كمن يستعيد مَشهداً سينمائياً بتسيير الصور إلى الخلف. في البداية، مشهد فوضى. اقْتَرِب أكثر، وغَيّر البُعد الذي يربُطكَ مع الفوضى، ترى فيها انتظاماً مُذهِلاً. بإمكانك أن تصف الرقص عبر مُعادلات رياضياتية، لأنها في الأصل تركيبٌ لهُ نِظامٌ مُحدّد ومتناسق. ويؤدي كل راقص الرقصة بانتظام، لكن من المُحال أن تتطابق حَرَكات كل راقص مع الآخر كليّاً، بل أن الراقص نَفسُه لا يستطيع تَكرارَ حَركاتِه عينها بالطريقة نفسها تماماً. ويُضاف إلى هذا أن تغيّر البُعد الذي نراقِب منه هذا المزيج من التَكرارِ المَمْزوج بشيء هيّن من التغيّر، يزيد في إضطراب مظهر الحركات، على رغم انتظام إيقاعاتها. الخلاصة؟ إذا أُدخِلَ بعض التغيير الهَيّن على نَسَقّ منتظم، مع إضافة تبدّل في البُعد الذي تُراقَبْ منه ذلك النَسَق، تكون النتيجة...فوضى.
راقِب علماً خافقاً في الريح. تتكرّر حَركاتُه، لكن ليس تماماً. إذا تخيّلت أنك تذهب أقرب إلى خَفقات العلم، تصل تدريجاً إلى انتظام يتكرّر باستمرار لكنه يتغيّر أيضاً مع كل تكرار، وكذلك مع تغيّر البعد الذي يربط المراقب به. لاحقاً، أعطى فايگنباوم أمثلة اخرى لشرح العلاقة بين النظام والفوضى. مثلاً، إذا راقبت مرآباً مليئاً بالسيارات من طائرة، تراه وكأنه مملؤء بمركبات متشابهة. لا ينكشف التغيّر والفوارق إلا مع تغيّر البُعد الذي يُراقب المرآب منه، بمعنى الإقتراب منه. النظام في قلب الفوضى، بل أن الفوضى هي نظام أيضاً.
"الشيء العميق"
عندما كان عالِماً شاباً في مختبر لوس آلاموس العلمي، فَكّر ميشيل فايگنباوم أن أبرز علماء الرياضيات يلجأون إليه، عندما تواجههم مُعضلات يعجزون عن حلّها. وعندما يكون رَدّه بأن تلك المعضلة "شيء واضح"، فإن هذا يعني أنه يتوجّب عليهم العمل بدأب لا يكلّ على حسابات فائقة التعقيد كي يصلوا إلى نتيجة. وأما إذا وَصَفَ ما يواجههم بأنه "ليس واضحاً"، فهذا معناه أن لا حلّ لها في علوم الرياضيات حاضراً، ما يعني أن الوصول إلى حلّ ربما يوصل إلى أعلى جائزة في الرياضيات. ولكن، إذا وَصَفَ مشكلة ما بأنّها "عميقة"، فإن هذا يعني أنها بلا حل، وانها تنتظر أن يغوص فايگنباوم في تفاصيلها، ليرى إن كان هناك من سبيل إلى إيجاد الحلول لها. وعندما وَقَفَ أمام شلال مُتَدَفّق، وجد فايگنباوم نفسه أمام مجدداً أمام مشكلة من النوع "العميق"، بل ربما العميق جداً، لأنه لم يجرؤ في البداية (في منتصف السبعينات من القرن الماضي)، أن يصارح حتى أقرب أصدقائه من العلماء، بما يفكر به. ومع هذا، فإن ما كان "عميقاً جداً"، لا يزيد عن أشياء فائقَة البَساطة وشديدة العاديّة وعالية الحضور في الكون والطبيعة والحياة اليومية للإنسان. كيف يمكن لعلم الرياضيات أن يضع معادلة رياضيّة عن شلال فوّار؟ كيف يستطيع علماء الرياضيات أن يجدوا مُعادَلات تصف اهتزاز ورقة شجر في هبة من نَسيمٍ عليل؟ كيف يوصف تَساقُط الندى، تجمّع السُحب وأشكالها، نَبَضات الكهرباء في عقل الإنسان، خفق علم مُعلّق على سارية، تبدّد نفخة من الدخان؟
في علم الرياضيات، من المستطاع وصف انطلاق قنبلة من مدفع هاون كي تصيب هدفها، ضمن معادلة سهلة. من المستطاع التوصّل إلى مُعادَلات لوصف موجة الراديو وبثّ اللاسلكي ومسار الصاروخ وانْتِظام سير القطار وتأرجحات بندول الساعَة وغيرها. كل ما يسير بانْتِظام، يستطيع عالم الرياضيات أن يصنع مُعادَلات رياضيايّة كي تصفه، مهما كانت معقّدة. (بعد أن تبلورت نظرية الفوضى، تبيّن أن لا شيء تقريباً يسير بانْتِظام). لكن، كيف نضع مُعادَلات علميّة للأشياء والمسارات التي لا تتصف بالانْتِظام، وهي تملأ الطبيعة والحياة والكون؟